عودة الى كلاسيك السينما (3): ذئاب الميناء
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أكتب عن هذا الفيلم الرائع لعدة اسباب، الاول منها هو أنني رأيته في تلفزيون بغداد عام 1966، وأتذكر جيدا انه عرض بعد أسبوع أو أسبوعين من عرض فيلم ldquo;عربة أسمها الرغبةrdquo; 1951 حيث ايقظني من نومي صراخ مارلون براندو rdquo;ستيلا...ستيلا"، فخرجت من غرفتي لارى أخي الاكبر متمتعا بمشاهدة الفيلم، الذي كان على وشك الانتهاء، ولن انسى هذه اللقطة الفريدة التي فيها أختزل الكون كل معاني التعبير الدرامي، ورأيت وجه الممثل العظيم لاول مرة في حياتي الملتوي، وكأنه يعتذر القدر، فتعلقت بشخصيته كممثل، وكإنسان، ومنذ ذالك اليوم والى حد الان لم أتوقف عن مشاهدة أفلامه، والقراءة عنه،
وأحتفظ بكل أفلامه، مع مجموعة كبيرة من الكتب والمقالات في أرشيف خاص، ولكنني سأشير لاحقا الى سيرته الذاتية ldquo;الاغنيات التي علمتني أميrdquo; وهو الكتاب الوحيد الذي يعترف به ldquo;براندوrdquo; بأنه الحقيقي، مستثنيا العشرات من السير الذاتية والمذكرات التي نشرت دون موافقته، ففي هذا الكتاب يسرد كل حياته و أسراره للكاتب ldquo;روبرت لندسيrdquo; الذي أصاغ بروعة كتابا مثيرا من من أول صفحاته الى اخرها.
السبب الثاني هو، اعجابي اللامحدود بالمخرج السينمائي-المسرحي ldquo;ايليا كازانrdquo;1909-2003، التركي- اليوناني الاصل، فهو من مواليد ldquo;أسطنبولrdquo; لعائلة يونانية هاجرت الى الولايات المتحدة الاميركية أقول اعجابي به رغم تناقضاته المريرة اهمها كانت وشايته على رفاقه في ldquo;الحزب الشيوعي الاميركيrdquo; امام لجنة التحقيق التي قادها السيناتور ldquo;ماكارثيrdquo; التي سميت بrdquo;محاكم التفتيشrdquo; السيئة الصيت، وهو كان ناشطا في هذا الحزب في منتصف الثلاثينيات، خصوصا أولائك الذين كانوا يعملون في فرقة ldquo;التجمع المسرحيrdquo; المشهور الذي هو كان أحد مؤسسيه في العقد الثالث من القرن الماضي، والذي رسخ ldquo;منهج ستانسلافسكيrdquo; في التعبير المسرحي، وبعد تفرط هذا التجمع اسس ldquo;ستوديو الممثلrdquo; 1947 في نيويورك الذي تخرج منه العديد نجوم المسرح والسينما على مدى عقود.
في هذا الفيلم، يحاول ldquo;كازانrdquo; ان يبرر خيانته لرفاقه فيقوم بسيناريو تبناه هو من مقالات صحفية كان قد كتبها ldquo;بود شلبيرغrdquo; 1914-2009 حول سيطرة ldquo;المافياrdquo; على موانئ نيويورك وابتزازهم عن طريق ldquo;النقابةrdquo; للحمالين والعاملين البسطاء، والتي كانت مؤلفة من أبرز أعضاء المافيا، والبطل في هذا السيناريو هو ldquo;تيريrdquo;؛ براندو، المرتبط بالمافيا عن طريق شقيقه ldquo;شارليrdquo;؛ رود ستايغر محامي النقابة، وبعد تورطه الغير مباشر في اغتيال أحد العمال من قبل المنظمة الاجرامية، تبدأ هموم هذا الشاب ldquo;الملاكم السابقrdquo;، خصوصا بعد تعرفه على أخت القتيل ldquo;ايف ماري سينتrdquo; ويقع في غرامها، وهي التي كانت في حركة محمومة للكشف عن قتلة أخيها، ويتعثر هذا الحب بعد بدء السلطات القضائية في التحقيق الجدي فيما يتعلق ببعض الاغتيالات الغامضة التي حدثت مؤخرا، فبين عشقه المخلص لهذه الفتاة، وندمه على مساهمته غير المباشرة في موت اخيها، وضغط الشرطة يجعله ان يعيش جحيما، وليحسم هذا الكابوس يعترف أمام لجنة التحقيق على دور النقابة في الاغتيال و الابتزاز، وفي المشاهد الاخيرة من الفيلم، أمام حشد كبير من عمال الميناء في جانب. وفي الاخر اعضاء نقابة ldquo;المافياrdquo; يصيح ldquo;براندوrdquo; في وجه زعيمها -انا لست نادما على ما
قمت به. لست نادما على الاطلاق، أتفهم؟؟rdquo; هذه هي الفكرة الاساسية للفيلم، التي منها اراد ldquo;كازانrdquo; التعبير عن عدم ندمه وشايته برفاق حزبه السابق، فهو يحبك نوعا من ldquo;الدراماrdquo; الغنائية، فيها يغير الشخصيات والافكار، والمواقع حيث يضع ldquo;الحزب الشيوعي الاميركيrdquo; و كأنه ldquo;نقابةrdquo; المافيا.
كان ldquo;مارلون براندوrdquo; مترددا في المشاركة بهذا الفيلم مبدئيا، خصوصا بعد انسحاب ldquo;ارثر ميليرrdquo; من هذا المشروع، مما أثار شكوك الممثل من هذا الانسحاب المفاجئ، ولكنه أخيرا قبل بطولته على مضض بسبب حبه واحترامه الكبير لاستاذه الذي منح له فرص الشهرة كممثل فريد في مسرحيات، وأفلام سابقة مثل ldquo;عربة أسمها الرغبةrdquo; وldquo;فيفا ثاباتاrdquo; رغم بشتراك ldquo;بود شيلبيرغrdquo; الشيوعي السابق، والذي صار من أكبر المطبلين ضد الشيوعية في الولايات المتحدة، والذي تجنبه ldquo;براندوrdquo; أثناء التصوير، ولم يحدثه طيلة حياته.
ولكي نعطي توضيحا لتناقض ldquo;كازانrdquo; في هذا الفيلم، هو اضطراره الحصول على ترخيص خاص من ldquo;مافياldquo; الميناء نفسه، وترخيص أخر في كل مرة تتغير فيها مواقع التصوير، يكتب ldquo;براندوrdquo; في مذكراته ان ldquo;كادجrdquo; كما يسميه كان يدعوه يوميا اثناء التصوير الى مطعم الميناء بجانب أصدقاء اخرين، ولم يعرف براندو الا بعد سنوات ان زعيم ldquo;مافياrdquo; الميناء كان حاضرا كل في كل تلك المآدب
والان لنتخيل عبقرية المخرج، في كسبه مباركة ldquo;مافيا الميناءrdquo; كي يشتكيها في الوقت ذاته، بطريقة لا يستطيعها الا مخرج رائع مثل ايليا كازان.
هذا الفيلم كان له صدى شعبي كبير في ldquo;بغدادrdquo; حسب ما اتذكر، بسبب هواية البطل في تربية الحمام الزاجل، وهذه كانت منتشرة في بغداد، وما كان حيا من احيائها يخلو من ما كنا نسميه ldquo;مطيرجيrdquo; و منافساتهم، ومسابقاتهم، وسطوح البيوت حيث تزدحم أقفاص الطيور، في بعض لقطات الفيلم كنت أرى تماما ما يشبه سطوح بغداد، ولكن في ldquo;نيويوركrdquo; ولكن هذه الفكرة كانت في ذاكرة المخرج عن مدينة ldquo;اسطنبولrdquo; التي ولد فيها، والتي كانت مشهورة بهواية تربية وتدجين الطيور.
ما هي حكاية الفيلم أذن؟ وهل كان ldquo;كازانrdquo; يريد تبرير خطأه وصوابه في نفس الوقت؟ فهو لم يترك صنع الافلام الرائعة، وهذا الفيلم نفسه هو واحد منها، وبقى على نهجه السابق، ولم يقم بأي فيلم دعائي، أو قومي، وهذا الفيلم بالذات لايبدو سياسيا على الاطلاق، الا اذا تعرفنا على حياته الشخصية وسيرته، فالعديد من المخرجين والممثلين قاموا بصناعة افلام تمجد المواطنة الاميركية، على سبيل المثال، rdquo;جيمس كاجني ldquo; الذي كان على رأس ldquo;القائمة السوداءrdquo; اضطر أن يلعب بطولة فيلم ldquo;داندي يانكيrdquo; المعروف حيث يمثل ويغني، ويرقص لرفع معنويات الجنود الاميركيين في الحرب العالمية الثانية، ففي هذه الفترة اتحفتنا ldquo;هوليوودrdquo; بسلسلة لا نهاية لها من الافلام الحربية بالتعاون مع وزارة الدفاع التي وظفت كل قدراتها في خدمة صناع السينما، ولا أدري من كان يرفع ldquo;معنوياتrdquo; من، فأميركا كانت في حروب خارجية دائمة من الحرب الاوربية الى حرب ldquo;كورياrdquo; ثم الى حرب ldquo;فييتنامrdquo; الى حروب اخرى نحن نعرفها جيدا، وتحت تصرف هؤلاء كانت كل تجهيزات ldquo;البنتاغونrdquo; من جنود، وطائرات ودبابات، وغواصات، وبوارج حربية، ولكنها في معظمها كانت أفلاما دعائية، وقليل منها أستطاع أدخال ldquo;الدراماrdquo; الانسانية كما فيلم ldquo;من هنا والى الأبدrdquo; وهذه الافلام كان لها جانب ايجابي، فهي ساعدت على استرخاء لجان مجلس الشيوخ، ورقابته الصارمة في ذالك الهوس المريض والمبالغ فيه في معاداة الشيوعية.
أعود الى الفيلم، يقول ldquo;مارلون براندوrdquo; في مذكراته، rdquo;في تلك المرحلة، أن تنزل رصيف الشارع بالقدم اليسرى، كان كافيا للشك في انك عضوا في الحزب الشيوعي، كنت دائما أعتقد، ولحد الان ما ازال ان بلدنا كان على قاب قوسين او أدنى من السقوط في الفاشيةrdquo; و يقول ان حمى معادات الشيوعية صارت مهنة لبعض اعضاء الكونكرس، فسكروا بشهرتهم التي فاقت شهرة نجوم ldquo;هوليوودrdquo; كي يغطوا فضائحهم السياسية، كما عرفنا فيما بعد، فالسيناتور مكارثي انتهى في ظلام السكر والكحول، و رئيس اللجنة التحقيقية السيناتور ldquo;بارنيل توماسrdquo; انتهى في السجن بعد ضبطه في العديد من الرشاوي،
ورغم تناقض الافكار والنوايا، في صناعة هذا الفيلم، فهو ما يزال واحدا في قائمة أحسن عشرة افلام في تأريخ السينما، بسبب الاداء العظيم لـrdquo;براندوrdquo; وldquo;كارل مالدنrdquo; الذي لعب دور القس ملحا على تيري ان يخبر الشرطة عن القتلة، و ldquo;لي كوبrdquo; الذي لعب دور وعيم عصابات الميناء، وldquo;ايف ماري سينتrdquo;وldquo;رود ستايغرrdquo; وكلهم كانوا قد درسوا فن الاداء على يد سيدة التدريب المسرحيrdquo;ستيلا أدلرrdquo;1901- 1992 مديرة ldquo;ستوديو الممثلrdquo; وطبقوا منهج ldquo;ستانسلافسكيrdquo; الذي يعني الاداء الحر للممثل، بمعنى التقمص الذاتي للفنان في شخصيته العادية، لدوره وليس محاولة التمثيل والتعبير المبالغ فيه الذي أعتاد عليه الكثيرين من محترفي المهنة المسرحية، وللشهادة على هذا هي لقطة الفيلم في مشهد التاكسي، بين ldquo;براندوrdquo; وldquo;أخيهldquo; رود ستايغرrdquo; والتي تمثل القمة في الاداء، وهذه كان قد أعيد تصويرها مرات عديدة، و لا واحدة منها اقنعت الممثل والذي كان يلح على ldquo;كازانrdquo; بعدم جدواها، ففي هذا المشهد الذي فيه تقرر ldquo;المافياrdquo; قتل الاخ الاصغر ldquo;براندوrdquo; على يد أخيه، كان فيه من التعقيد والصعوبة، مما جعل هذين الاثنين عدم الاقتناع بكل اللقطات، وبعد الحاح براندو على كازان نفذ صبر هذا الاخير الذي قرر في النهاية ان يتركهما ارتجال ادوارهم، وهذا ما نراه في الفيلم وهذا المشهد باعتبار العديد من النقاد الجديين هو قمة الاداء السينمائي.
ورغم النوايا التبريرية الشخصية للمخرج، يبقى فيلما عظيما من جميع جوانبه، فحصد ما حصد من جوائز ldquo;الاوسكارrdquo; وعددها 8، بين أحسن فيلم ، وأحسن مخرج وأحسن ممثل، الى احسن سيناريو، وأحسن ممثل ثانوي، بجانب التصوير، والموسقى الرائعة التي صاغها ليونارد برنشتاين. نحن امام عمل سينمائي يقارب الكمال، رغم انني لا أغفر ldquo;كازانrdquo; خيانته الذي أعتقد أنه لم يغفرها هو لنفسه كما يقول ldquo;مارلون براندوrdquo; في مذكراته، ولنتذكر منحه جائزة الاوسكار التقديرية في عام 1999، وهو شيخ أنا أتذكر الصفير والاحتجاج من قبل العديد من الممثلين والعاملين في صناعة السينما.