"مشهد مِنْ هُنا... ك"
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
لم يجد الشاب مكاناً في المقهى، سوى ذلك الكرسي قبالة الرجل الأربعيني ذي الشعر المجعّد المشغول بقراءة الجريدة... سحب الكرسي قليلاً دون أن تصدر منه كلمة. كان وجهه باسماً وهو يصوّب نظراته تجاه الرجل المشغول بالكلمات... استقر على كرسيهِ ورفع صوتهُ في طلب الشاي من صبي المقهى... الصبي اليتيم الذي يعرفه كل من ارتاد المقهى غير مرة، لبراعته في ترك أثره الممازح وهو يلعب على أوتار هموم من يعرفهم من روّاد المقهى... "لا يمكنني أن أضع قدح الشاي على طاولة الزبون دون أن أرسم الابتسامة على وجهه... " هكذا كان الصبي ذو الثلاثة عشر عاماً يرد على تساؤلات الفضول التي يمطرها عليه الزبائن بحثاً عن سر إعجابهم بروحه المشاكسة...
اقترب الصبي من الشاب حاملاً قدح الشاي بطريقة القهوجي المحترف. وقف إلى جانبه وقبل أن يضع القدح على الطاولة، غمز مستخدماً حركة من رأسه ألحقها بأخرى من عينه اليمنى صوب الرجل صاحب الجريدة، وقال:
- يا أخي! الحياة جميلة رغم الاحتلال... قالها بسخرية واضحة وأضاف:
- هل تعرف من هو المسبب الحقيقي في احتلال هذا البد؟... إنهم الشعراء! أجل، الشعراء العاطلون عن الشعر... قال كلمته الأخيرة وراح هارباً وهو يقهقه بصوت مسموع.
ابتسم الشاب دون أن يعي ما كان يغمز له الصبي، ولكنه سرعان ما فهم المغزى بعدما سمع شتيمة الرجل الأربعيني:
- يا كلب... لعنة الله عليك وعلى من يكره الشعر... احذر أنْ تشاكسني مرة أخرى! جاهل... معتوه...
فهم الشاب على الفور أن الرجل الجالس قبالته، شاعر، وفكَّرَ أنه يجلس أمام رجل مثقف، ربما يعرف العديد مما يجهله... استل سيجارة من جيب قميصه بعد أن رشف بحذر رشفته الأولى من قدح الشاي والابتسامة ما تزال مرسومة على شفتيه. أشعل سيجارته ونظر صوب جليسه... في هذه الأثناء رمق الرجل جليسه الشاب بنظرة متفحصة كشف من خلالها عن حبات الدقيق المتعلقة بخصلات شعره وضفاف منخريه، إلا أن الشاب الذي تلاقت نظراته مع نظرات الرجل عاجل جليسه بسؤال:
- هل هناك أخبار جيدة عن البلاد هذا اليوم؟
ابتسم صاحب الجريدة ابتسامة مصطنعة وعاد بنظره إلى جريدته بعد أن صنع منها حاجزاً بينه وبين الشاب.
شعر الشاب ببعض إهانة من تلك الابتسامة والحركة التي أبداها الرجل، ولكنه آثر عدم الاستسلام، وقال محتفظاً بابتسامته التي ظهرت متشنجة بعض الشيء:
- ربما تكون هناك، وعلى غير العادة، أخبار سارة هذا اليوم!
- هل تعرف القراءة؟... وجه صاحب الجريدة سؤاله إلى الشاب الذي أجاب على الفور:
- نعم، بكل تأكيد!
- إذاً، عليك الانتظار حتى أفرغ منها، عندها سأعيرها لك بعض الوقت كي تعرف إن كان هناك ما يثلج صدرك.
-ولكن، ألا تعتقد أن في هذا مضيعة للوقت؟
- ماذا؟... سأل صاحب الجريدة وعلامة الدهشة مرسومة على وجهه، فأجابه الشاب:
- نعم يا صديقي، إن في هذا مضيعة للوقت، وكما تعلم، فإن الوقت ثمين جداً... لذا أجد من الحصافة والذكاء، أن توجز لي بأسلوب المثقف العارف بقيمة الكلمة ومعناها، خلاصة ما قرأت من أخبار، وهذا لن يأخذ منك سوى دقيقة أو اثنتين! وبهذا سنحترم، أنا وأنت، الوقت الذي نعتوهُ بالسيف.
رمق الرجل جليسه بنظرة متفحصة لا تنقصها الدهشة وقال متسائلاً:
- هل تعي ما تقول؟... هل تريد أن تفهمني بأنك تدرك ما للوقت من أهمية؟ هل يحظى الوقت باهتمامك أنتَ!؟
- نعم، ولِمَ أراك مندهشاً؟... ألقى الشاب بسؤاله وهو محتفظ بابتسامته، فأجابه الرجل بسؤال آخر:
- قل لي، ما عملك؟
- أنا خبّاز!... قال الشاب ثم استدرك:
- أقصد عاملاً في مخبز، ولست صاحبه.
صاح الرجل مستنكراً وكأنه فقد صوابه:
- يا الله... ما هذه المهزلة؟ أجير خبّاز يحاول أن يفهّمني معنى الوقت واحترامه!!... ثم ركَّزَ نظراته بعيني الشاب وأضاف بشيء من التهكم:
- هل تعرف حضرتك، مع من تتكلم؟
قرأ الشاب علامات الاستفزاز على ملامح جليسه وشعر أنه ردَّ الإهانة التي وجهها له الرجل منذ قليل. ابتسم وقال:
- نعم، أنا أتكلم مع رجل مثقف، شاعر، وهذا ما دعاني إلى سؤالك، علّكَ توجز لي أخباراً مهمة، سهلة الفهم.
- إذا كنت تبحث عن السهولة في الفهم فعليك إيجاد غيري من البشر. السهولة والبساطة، أقصد السذاجة، ليست من بين أصدقائي...
أطرق الشاب رأسه وراح ينظر إلى سبابة يده اليمنى وهي تدور على حافة قدح الشاي، ولكنه سرعان ما رفع رأسه قائلاً بصوت لا يخلو من الحزن والغضب الدفين:
- هل تعرف أيها الشاعر، بأن هذه البلاد بحاجة ماسة إلى شاعر؟ أعتقد أن الشخصية الوحيدة التي يمكن لها إنقاذ هذه البلاد من كوارثها وأمراضها هي شخصية الشاعر وروحه المخلصة...
تهللت ملامح الرجل وانفرجت أساريره لما سمع من هذا الشاب الذي تغطي حبات الدقيق كل ما ظهر من مظهره، ولولا بياض قميصه لصارت الحبيبات أضعاف ما تراه العين، وقبل أن يتفوه بكلماته أضاف الشاب قائلاً:
- نعم أيها الرجل الشاعر، إن هذه البلاد بحاجة إلى شاعر، ولكن ليس شاعراً يسطّر الكلمات كفرطِ مسبَحةٍ ثمينةٍ بيد متسولٍ أعمى. البلاد بحاجة إلى شاعرٍ بالمسؤولية... الشعور بالمسؤولية اتجاه البلد وبسطائها هو جل حاجة هذه البقعة التي تفوح منها نتانة الذاتية والمطامع ورائحة الدماء الساخنة....
- الكلام جميل على الرغم من أني أشم رائحة تهكم بين ثناياه... ولكن ألا تعتقد بأن الشعراء هم أيضاً من يَحمِلون مسؤولية هذا البلد ضمن همومهم الكثيرة؟
نظر الشاب بعيني الرجل، زافراً سخونة رئتيه بصوت مسموع وقال:
- هذا ما يجب أن يحدث... هذه الحقيقة التي انتظرتْ طويلاً لترى النور، يعرفها القاصي والداني، ولا أقصد هنا الشاعر بالتحديد، ولكني أقصد المثقف، المثقف الذي يوقدُ نوره في وضح النهار كي يضع الحقيقة بمتناول البسطاء...
صار الرجل يتفحّص بدهشة واضحة ملامح الشاب وهو يلتهم كلماته بمتعة خاصة... استمر الشاب بحديثة رغم التقاطه دهشة الرجل:
- الفعل يا صديقي، وملامسة الواقع يختلف كثيراً عن الخيال أو الحلم... هذه أيضاً حقيقة يعرفها الشعراء قبل غيرهم، إلا أننا نراهم يقَدّمون الأحلام في صورٍ مرسومة بالكلمات، كوَجَباتٍ، يتصورن أنها ساخنة شهية، وفيها من الدسامة ما يكفي لشحذ إدراك المتلقي وجعله أكثر استيعاباً...
قاطعه الرجل متسائلاً ومحتفظاً بدهشته:
- أليس هذا عملاً عظيماً، خلاّقاً، إبداعياً؟
- أكيد، هو كل هذا، ولكن كيف السبيل إلى وصول المعلومة الدقيقة والواضحة إلى متناول البسطاء؟ بسطاء هذا المكان الذين تشكل الأمية بينهم أكثر من ثمانين بالمئة؟ وأنتَ تعرف بأن المجتمع الذي نعيش فيه يَضُم أكثر من ستين بالمئة من الأميين...
ثم أضاف مستدركاً:
- وعليك ألا تنسى بأن هؤلاء البسطاء هم صنّاع الحياة، هم من يصنع الخبز والكتاب، وهم أيضاً مَنْ يحمل الأوراق والأقلام للشعراء والمثقفين... عتالون وأجراء وكسبة... كيف السبيل إليهم أيها الشاعر؟
دَعَكَ الشاعر شعره المجعد بأطراف أصابعه وهو يحاول أن يرد على سؤال الأجير، فقال:
- هذه مسؤولية الدولة، الدولة التي تنهق كل يوم مطالبة بحقوق الإنسان وحفظ كرامته، هي المسؤولة عن إيصال العلم والثقافة للناس...
- ولكن، إذا كانت الدولة " تنهق " كما تقول، أي أنها مجموعة حمير حسب رأيك، فكيف تُحمّل الحمار جريرة التخلف ثقافياً؟ ما علاقة الثقافة بالحمير؟
- أنا لم أقصد هذا حرفياً، وإن كان فيه بعض الواقعية. ما قصدته أن السياسي صاحب القرار هو المسؤول عن أمية المجتمعات وتجويع الشعوب، ولم يكتفِ بهذا بل أمعن في إيذاء المثقف وإهانته وتهميشه...
- وما الذي فعله المثقف؟ أو ما الذي على المثقف أن يفعله في هذه الحال، وهو ينضم بطبيعته إلى رهط الجياع؟ أضف إلى ذلك ما قلته حول التهميش وإهانة صاحب القرار له؟
- عليه أن يبقى حياً وينتج!!...
نظر الشاب صوب الساعة الجدارية الكبيرة وتمتم بصوتٍ مسموع: " أعتقد أن وقت استراحتي شارف على الانتهاء " ثم التفت إلى الرجل قائلاً:
- هل تعرف سقراط؟
ابتسم الرجل بشيء من الاستخفاف والزهو وقال كأن الدهشة قد امتلكته:
- نعم... وهل تعرفه أنت؟
- المهم أنك تعرفه، وهذا ما أريد معرفته كي أتأكد من وصول المعلومة بشكلها السهل...
صَمَتَ الشاب لثوان وهو ينظر صوب قدح الشاي الفارغ، ثم رفع رأسه ناظراً صوب الرجل وقال:
- لم يؤلف سقراط أي كتاب في حياته، ورغم ذلك ترانا نتحدث عنه اليوم وبعد قرون من موته... تُرى ما سر عظمة هذا الرجل، أو العقل الذي كان يحمله؟ إنها ببساطة إدراكه حاجة البسطاء من الناس إلى تعلّم فن إثارة الأسئلة. الذكاء يا صديقي لا يكمن في الإجابة على الأسئلة، بل يكمن في صياغة السؤال وطرحه... وسر عظمة سقراط هو مكانه الذي اتخذه بين البسطاء ومن يصنع الحياة، كان يتحدث إليهم ويسمعهم... فهل عرفتَ مثقفاً في عصرنا هذا، فعل فعلة سقراط؟
شعر الرجل أنه يجالس شخصية ممتعة. شاب ليس بالبساطة التي يظهرها مظهره... شعوره هذا بدأ ينسحب بدبيبِ إحساسٍ صار يتسرب إلى خلاياه، يناديه على الاعتراف بشيء لا يعرفه بشكل واضح... تململ في جلسته واستقام قليلاً وقال:
- ما تقوله صحيح، ولكن عليك الاعتراف بأنك تتحدث عن زمن لا يشبه زمننا هذا... الزمن الذي عاشه سقراط زمن بسيط لم يعرف تعقيدات الحياة وصعوبتها التي نعيشها اليوم...
قاطعه الشاب مبتسماً:
- الزمنُ مختلفٌ، هذا صحيح، ولكن الإنسان لم يختلف، ولم تختلف همومه وتطلعاته، فلا يمكن أن تقاس أحلام الإنسان وآماله، بالحجم، أقصد إن كانت كبيرة أو صغيرة... والمهم هنا، علينا الاعتراف بأن ما يخيفنا اليوم كان حاضراً في الأمس وعلى مر العصور... رجال الشرطة والعسس من الغرباء والسجون والوشاة وكتّاب التقارير والذبّاحون كانوا في زمن سقراط أيضاً كما هم اليوم يندسون بيننا... ولا تنسَ بأن سقراط عرف السجن وبرودة الزنازين ووحشتها..
همَّ الشاب واقفاً، وقال بشيء من الاحترام الواضح:
- سعيد أنا بمعرفتك، وسعيد جداً بحديثي معك، وتأكد، مِنْ أنَّ شعوري بالسعادة صار مضاعفاً حين تأكدت من أني لم أضيع وقت استراحتي هدراً... أتمنى أن ألقاك مرة أخرى... طاب نهارك.
في هذه الأثناء شعر الرجل بإلحاح سؤال يتوجب طرحه على الشاب. وقبل أن يرد عليه تحية الوداع سأله:
- لم تقل لي أيها الشاب، أين تعلّمت كل هذا؟ أقصد تحصيلك العلمي؟... التفت الخبّاز نحو الشاعر مبتسماً وقال:
- قبل دخول قوات الاحتلال بأيام، كنت في السنة النهائية من دراسة الفلسفة بجامعة بغداد، وبعد أن أصبح الاحتلال حقيقة ملموسة، وفي لحظة حاسمة، استرجعت فيها كل صور الحروب والحصار والإذلال، قررت ترك الدراسة والاهتمام بصنع الخبز للناس كي أكون قريباً منهم، أحاكيهم وأسمعهم، أشعر بهم وأتلمس جراحهم كي يتلمسوا جراحي... طاب يوك أيها الشاعر.
رد الرجل التحية وتسمَّرَ نظره صوب الخبّاز الأجير حتى غاب من المشهد... ثم عاد ينظر في جريدته، وما هي إلا ثوانٍ حتى دوى صوت انفجار قوي هزّ خشبة المسرح التي سرعان ما امتلأت بالدخان وتلاشت معالم المقهى وسط صياح وصخب الممثلين.... حينذاك علا صراخ الجمهور غاضباً ومستهجناً هذه النهاية الدموية، ثم وأسدل الستار.
خرج الجمهور محتفلاً بالضوء الذي كان غائباً طيلة عرض المسرحية، ومن بينهم كان شاب في الثلاثين من عمره يسير إلى جنب شابة تصغره بضعة أعوام، دس يده بين زند الفتاة وأضلاعها وقرّب شفتيه من أذنها اليمنى سائلاً:
- ما الذي تفكرين به؟ هل هناك ما نال إعجابكِ في المسرحية؟... أجابت الفتاة والابتسامة مرسومة على وجهها:
- أحاول الاقتناع بفكرة المسرحية، فبرغم النهاية الدموية، وجدت أن المؤلف حرص على غياب صبي المقهى والشاب الخبّاز من المشهد لحظة الانفجار... هل تعتقد بأنهما قد نجيا؟
- هل نسيتِ بأنها مسرحية؟... قال الشاب بعد أن أطلق ضحكة مسموعة وأضاف:
- ولكن ألم تحزني على من طالته شظايا الانفجار؟...
- إنها ببساطة يا زوجي العزيز، مجرد مسرحية!