قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
ماجدة داغر من بيروت: أن يرسم الفنان اللبناني وجيه نحله، أي أن يخطفنا إلى أمكنة عُلويّة شاهقة الغبطة والإبهار، وبين خطوطه لمعات وإشارات تَشي بكونٍ نورانيّ مكتمل الأبعاد. إحتفاؤه باللون طقسٌ قدسيّ الممارسة، وتسريح ضفائر الريشة صلاة دائمة التّلاوة، فاللون والريشة يقودان الشغف الفائض فيه إلى البدء الآخر حيث بحيرة الضوء، يغمّس فيها بعض الريشة وبعض انتظاره للانعتاق الكبير. مع كل لون يمزج شيئاً من روحه التائقة دوماً إلى السُّكنى في لوحة، ومع كلّ خطّ يُخلَق كونٌ آخر تتوالد فيه فضاءات شديدة الإيحاء.
معه تستحيل القماشة البيضاء المنتظِرة، رداءً ملوّناً مصقولاً بخلجات تزيّن جسد اللوحة العاري، إلاّ من لمسات تحنو عليها بخفر. لا يتعب من استحضار سرّه الملوّن كلّما هَمّت يداه بالابتكار، فَيستعير زرقةً من سماء، بياضاً من عمقها، ليلكيّاً من سهَرِها، زهريّاً من غفوة ملائكتها، وبعضاً من نور يحتفظ به في عُلَبه المخبّأة للسرّ الكبير. يخلط، يمزج، يداعب، يغازل، يجنّ، يبتهل، يعشق، يذوب ... ويصير اللوحة!
في مرسَمه- المحترَف في الرابية شمال بيروت، ألوان كثيرة، رِياش من كل القياسات، مشاريع لوحات تنتظر التوقيع، وأخرى مكتملة معلّقة مُستّفة متعانقة، وفوضى الفنّانين الخلاّقة تعمّ المكان الحميم. درجتان نزولاً فغرفةٌ صغيرة، جوائز وأوسمة وميداليات وكؤوس: جائزة "بيينال" الاسكندرية 1968، جائزة "غران باليه" باريس 1977، جائزة متحف "متروبوليتان" نيويورك 1978، وسام الاستحقاق اللبناني للآداب والفنون من رتبة ضابط 1980، وسام الاستحقاق الفرنسي للآداب والفنون 1994، الميداليّة الذهبية لفناني أوروبا والشرق الأقصى في متحف اللوفر باريس 2002، جائزة الإبداع الدولي لأندية "الليونز" 2006، وأخرى كثيرة مدموغة بتواريخ مختلفة من عواصم العالم الفنّية، مرتّبة في خزائن زجاجية.
بنهمٍ ننظر إنما برقّة الحريص على بروتوكول التعارف مع الكائنات الأنيقة التي تتخذ الجدران مسكناً لها، فتعلّق عليها حياة وأحاسيس. لا يخلو جدار أو زاوية من لوحة ومنحوتة وفنّ تزييني: أحصنة وجيه نحله بكمال تناسقها، وصهيلها الذي يكاد يُسمع مع إيقاع حوافر تسابق المدى. نساؤه- الراقصات في لولبيّة الجسد والثوب وتوق إلى انعتاق وحرية، تعبيريّة وانطباعيّة فتجريد وروحانيّة و"أورا" لكل لوحة وكأنها هالة منفصلة- ملتحمة، مشكّلةً كائناً ملوّناً فريداً. عرس ألوان حقيقي في أعمال نحله، بناؤه تقنيّة اللون وقوامه انبهار الروح بسماوات يخترقها بضربات فرشاته، فيغدو عالماً زاهياً باحثاً عن مقاييس جديدة لا تقاس بأشكال هندسيّة ولا يحدّها إطار وقماش. فتراها تعبر تلك الحدود ممزّقة حُجُب الأبيض مُجتاحة قياساً حتميّاً للوحة، غازيةً مناخات أخرى ملؤها الضوء ومقامات الروح. جدار ذهبيّ الحفر والنّقر والتشكيل مع ملامح من الفنّ الإسلامي والتراث العربي، إنها الحروفيّة التي ميّزت أعمال هذا التشكيلي- الإشكالي ووسمت فنّه ببصمة مختلفة.
لم يعد للحرف معه قواعد جامدة وقوالب جاهزة أو خطوط مجرّدة جافّة، الحرف أمسى أقرب إلى التشكيل الفنّي بل إلى أسلوب جمالي مبتكر، ابتدعه الفنان بِمدّ ريشته إلى تراث الحرف وعراقته، لينهل منه أصالةً مضيفاً إليها تقنية معصرنة فيها من الخصوصية والحِرفية فنّ مكتمل الملامح حديث الرؤية. ولكن أين وجيه نحله اليوم التجريدي الباحث عن اللوحة- الفكرة أو الخيال الجامح نحو المطلق؟ وهل كانت الحروفيّة ومراحل فنّية سبقتها رحلة باللون والذهب في انتظار الوصول إلى محطة "الأنا" الفنيّة، أو بمعنى أقرب إلى حرية الريشة والحلم وتجسيد الإحساس الفطري الناضج؟
يجيب: "في بداية السبعينات، كان التشكيل الفنّي في العالم العربي يشوبه الكثير من الجهل، وكانوا يظنون أن الفن هو فقط في الكتابة أو الحروفية، حين كان يُمنع رسم الإنسان. وبالتالي كان هناك عطش للأعمال التشكيليّة الفنية. مجموعة من الفنانين القلائل استغلوا هذا الحرف العربي في التشكيل المعاصر، وكنت أنا أحدهم. كان البعض في العراق من اللامعين، في مصر إثنان أو ثلاثة وفي لبنان كنت أنا وحدي. هوجمتُ وقتذاك من النقّاد اللبنانيين وكانوا يقولون إن لا قيمة فنية لهذه الأعمال، في حين كان المناخ السائد متأثراً بالمدرستين الفرنسية والأوروبية، وكان الفنانون اللبنانيون يدرسون في أوروبا ويعودون برأس تجريدي. أنا لم أدرس هناك بل نهلت من التراث العربي- الإسلامي، ومن الفن البيزنطي في البداية، فصارت هذه مدرستي التي اكتشفتها وطوّرتها، واشتهر هذا الأسلوب لأنه كان جديداً". منه انتقل الفنان نحله إلى العالم العربي في العام 1977 ثم إلى فرنسا وأميركا فالعالم. أما اليوم فصار الحرف العربي في أعماله "بُعداً واحداً، هو موجود بحسّ الحرف إنما من دون كتابة. تحوّل من حرف إلى امرأة تطير أو حصان جامح، فصار حركة وبُعداً روحيّاً أي فكرة ونور".
إنها النورانيّة النحليّة: الأسلوب المبتكَر الذي تَسامى من التراثيات إلى الإسلاميات والحروفيات والجداريّات النسيجيّة ليغدو خصوصيّة في التشكيل اللبناني- العربي وصولاً إلى العالميّة. "المرحلة الإسلامية انتهت، يقول، وكل تلك المراحل كانت تجارب تخطّيتها لأصِل بعد ستين سنة من التأليف إلى الخلق والإبداع، هذه المرحلة الأخيرة بحيث أضع القماشة البيضاء وأغوص فيها للوصول إلى النشوة الفنّية".
تزيّن لوحاته عدداً من المتاحف العالمية أهمها في متحف الفاتيكان، كما نُشرت أبرزها مع نبذة عنه في موسوعات فنيّة تشكيليّة في العالم. أما جدارياته وأعمال إسلامية فتحتل قصوراً عدّة وقاعات شرقية لاسيّما في الخليج، منها جداريّتان مذهّبتان بقياس خمسة امتار في مركز دبي العالمي للتجارة، واثنتان منسوجتان في مطارَي الملك عبد العزيز والملك خالد في المملكة العربية السعودية، كما زُيّن قصر المؤتمرات في الرياض بثماني جداريات لنحله نزولاً عند طلب الرئيس الشهيد رفيق الحريري. كذلك نُصب ومنحوتات في ساحات ومدن عربيّة كساحة لبنان في أبو ظبي. وجالت لوحاته عواصم العالم الفنية من بيروت إلى باريس ونيويورك ولوس أنجلس وجنيف والبندقية وكوالا لمبور وألمانيا والإمارات العربية والخليج العربي وتونس، وغيرها من المعارض الخاصة والعالمية.
الناقد الفنّي الفرنسي الكبير الراحل أندريه بارينو صاحب مجلّة "حديقة الإبداع الفنّي"، وصف وجيه نحله بـ "أحد روّاد الرسالة في القرن الواحد والعشرين"، ولكن أين هو نحله في أقلام النقّاد العرب الذين وصفوا بعض أعماله بـ "الفن التجاري" ويسمّي هو تلك المرحلة "فناً تزيينياً"؟
"كنتُ أرسم للآخرين وليس ما أريده أنا، أي اللوحة التي تناسب لون أثاث الصالون وستائره. قررت أن تكون هذه الحقبة من حياتي الفنية مكرّسة للاكتفاء الذاتي، أصل بعدها إلى ما يناسب قناعاتي الفنية ومزاجي وأحاسيسي. بدأَت مع بداية الحرب اللبنانية حتى الثمانينات، كان أولادي الخمسة آنذاك في طور دراستهم الجامعية، فاضطررت إلى الانزواء والاستقالة من الوظيفة للتفرغ لإنتاج ما عُرف حينها بالفن الإسلامي من جداريات ومنحوتات وفن تزييني في سبيل اكتفاء ذاتي كنت أنشده".
طاقة هائلة تنضح من هذا الفنان المخضرم والغزير، الذي تقطر من ريشته سنوات ستون من العمل الفني المتواصل، ومساحات بيضاء كثيرة ممدّدة أمام سحر ملامسته، في انتظار مغامرة اللون والضوء والعشق مع فنان مقبل على الثامنة والسبعين، من دون أن يخفت فيه نور ولا تذوي في حدائقه وردة. مخزون لا ينضب وحيوية ساحرة يقودانه إلى إتمام رسالة تفيض من وجهه وابتسامته وانفعالاته الهادئة، رؤى وأفكاراً وفضاءات وعطاءات. "أخذت عهداً على نفسي أن أوقّع عملاً كل يوم"، وهو من يُعرف عنه أنه من أسرع الفنانين في العالم في إنجاز اللوحة، لاسيّما المائيات التي يستغرق إتمام إحداها دقيقتين حدّاً أقصى.
أعمالٌ لا مكان فيها سوى للصفاء اللامتناهي، يمتدّ ملامساً أطيافاً هيوليّة تتفكّك بحنوّ لتغزو مناخات وجيه نحله الشفيفة، في حركةٍ شبَحيّة لخطوط مجنّحة وأشكال ذائبة في عمق اللون. فتُمسي التموّجات المُختزِلة طبقات الكون، إطاراً لمحسوسيّة عالية شبِقة الخيال. وتستحيل هذه السّرابيّة المطليّة بدرجات لونيّة تائهة، إيقاعاً يعبث بجمالية لا أفق لبهائها.