ثقافات

لحظة المسخ

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك


أعدَّ طقوساً لانتظارها، في الشرق يكفي أن يكون الشاعر على رصيف قديم ينتظر أن تُطل فتاته من بين حشود المشدوهين. الشاعر بساقه الوحيدة يشبه قرصاناً طيباً يركض في قصصٍ انجليزية تعود إلى العصور الوسطى، وهو بعينه الوحيدة يشبه قمراً أسقطه رمحٌ على أرضٍ ليست محايدة ففقد نوره وجلس يبكي.
-"كل شيء يحدث بعيداً عن فتاته"، هكذا قالت عجوزٌ لحفيدها المصاب بمرض التوحد، وأمسكت يده ليعبرا الشارع بعيداً عن هذا المسخ.
أعدَّ سلاماً مناسباً لروحه. هو شرقي ورث عن أبيه حماراً وأنفةً وهواجس. في الرصيف، وليس على الرصيف، دفن حماره العزيز، وعندما لم يجد وردة مناسبة ترك أنفته على القبر كشاهد، ثم وقف مُتعباً جدّاً من أثر الفقد. ثلاثة أطفال في هذه الأثناء مروا من أمامه وهم يتحدثون عن ألوان القطط وألعاب الفيديو، ليس من بينهم من تحدث عن امرأة ما، ذلك أنهم لم يكتشفوا بعد فداحة الاختلاف. كانوا بريئين وطيبين ويطرزون أحاديثهم بابتسامات ورثوها عن أسلافهم. الطفلة الوحيدة التي مرَّت من أمام الشاعر بصقت على الرصيف وتحسست النقود المدسوسة في يدها، ثم مضت.
-"فتاته سيدة حزينة بعينين ذهبيتين"، هكذا كانت تفكر المتسولة الوحيدة في الحي المجاور.
في انتظاره لمقدم فتاته قال الشاعر لنفسه ما يشي بحزنه العميق على فقده إرث أبيه من أجل لحظة قد لا تأتي. قال،أيضاً، ما يدل على محبته لأبيه:
-"بقيتْ هواجسه".
1
لا أتوقع عودة العجوز وحفيدها، ذلك أن ظلال الشارع امتدت حتى ضفة نهر آسن يؤمه الوحيدون بشكل مستمر ويرقصون بطريقة هستيرية.
2
الأطفال الثلاثة حين تتجاوزهم الطفلة ذات النقود المدسوسة في يدها سيفكرون في أشياء كثيرة، مثلاً سيتآمرون على يدها، أو أنهم سيعون فداحة الاختلاف فيمشون وراءها بقلوبٍ مغمضة. وأياً ما يتحقق من احتمال فإنهم سينسون الشاعر بقدمه الوحيدة وعينه التي تشبه قمراً مذبوحا.
3
أتوقع أن تتشاغل السيدة المتسولة بالبحث عن قطعة كرتون تفترشها ليلاً لكي تحرم الرصيف من لذة الالتصاق بجسدها المجدور.
4
حين تمر فتاة حزينة بعينين ذهبيتين ستتعجب جداً مما حدث على هذا الرصيف. ربما سيدهشها انتظار الفراغ من قِبل شاعر وحيد بساق وحيدة وعين مذبوحة كقمر مطفأ، لكن ما سيجعلها تهذي بشكل مستمر أن الشاعر سيحمل قلبه إليها ممزقاً، ليس هنا أي مجاز أو تورية، فإحدى هواجس الأب كانت تنصب في رسم طقوس تبدأ بشق الصدر عميقاً ونزع القلب لتقديمه لفتاة ما، فتاة تشلها الدهشة، ويؤخرها الحزن عن الوصول في الوقت المناسب.
5
في كل بلادٍ يولدُ الأطفالُ ثم يموتون سريعاً. أولئك هم ملائكة الأرصفة المهجورة، ووصايا الأقدمين التي تجسدتْ في هيئة مفاجئة:
-"لماذا يتحدثون عن قطط بألوان متباينة، ويلاحقون طفلة سقطت نقودها في المنعطف؟"، هذا ما قاله أبٌ استيقظ صباحاً خالياً من هواجسه قبل أن يتلاشى.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف