حاسة تشكيلية: (موطني) الذي أوده.. والذي لا أوده!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
في محاولة من فناني العرض هذا الإتيان بفعل تشكيلي من لامألوفية معظم اشتغالاتهم الجمالية السابقة. حاولوا ولوج مناطق التعبير التشكيلية المغايرة لمألوفة العمل ألمسندي، فالتقطوا أشيائهم من حطام الحرب والذات ووظفوها مطلق خراب. وخطورة الإطلاق بهكذا مواصفات أنه يسد منافذ الأمل ويشطب على ما تبقى من الوطن، وان كان الأمر كذلك وكما تراه غالبية أعمال هذا العرض. فلماذا النأي بعيدا عن تراكم مناطق مسبباته، والعمل التشكيلي وكما عالجوه (صور وتشكيلات تركيبية و تلسيقية) قابل للاستنطاق الحفري المعرفي. وان كان الوطن سكنا غادره بعضهم مبكرا وغادره البعض الأخر متأخرا. فانه وبكل الأحوال سكن ان تعرض للاختراق فانه سوف يبقى يتحايل على إعادة ترميم ذاته، وكما علمتنا تواريخه الشخصية،ومع ذلك فانه سوف يظل قاطنا ضمن فضاءات الذهن التي لا تحدها جغرافيا. وما بين جغرافيا الوطن وجغرافيا الذهن حوارية وجدانية دائما ما تبحث عن مناطق تتصالح فيها تواريخ الاغتراب (الداخل، الخارج).
ان كان هذا العرض مهاجرا، فهل تعني الهجرة استذكارات مستحضرة بلون الرماد والدم. وان سال دم كثير وهو كذلك، وان استقر الرماد أجسادا في بقع من مناطق وطني، فهل يعني ذلك ان وطني رمادا يسد مسامات تفكيرنا. هل اختفى الوطن بخليط أناسه، خيرهم وسفيهم، ولم يبقى سوى سكن مفجوع تربط فوق ربوته (دبابة مدججة سلاحا) كما اقترحه العزاوي في عمله المشارك. وهو الذي يستذكر أو يستعيد جذوره المدنية من سومر (في عمل آخر) وهل هذه الاستعادة موصولة بفاجعة عمله الأول أم هي دلالة لولادة جديدة، أم هو الفنان نفسه في استعادة دورة تواريخه. لكن يبقى شبح السكن الكارثة (الوطن) يترصد ما تبقى لنا من تواريخ عامة وشخصية. وهذا ما يؤكده عمله التلسيقي الأخر الذي تفترس فيه التاريخ (اللبوة الجريحة الأشورية) خارطة الوطن. وان كانت هذه اللبوة من نتاج الفنان الذي أرخ للحروب الرسمية ( وكل حروبنا رسمية، ان كانت الدولة أو العشيرة، والجوار الملغوم بإثم فعله ألاختراقي الكارثي) ربما لمجرد مهارة أو نازع أنساني. فان العزاوي استعار فعل الجرح حطاما وشبكه وخطوط اتجاهات الوطن. ربما بسبب من بذرة تشاؤم معتمة تسللت لذاته بسبب من طول زمن اغترابه عن (موطنه) وتأثره بكم الخراب الواقعي و المسيس و الذي يحوط وطننا، والخراب أل (الخبري) الإعلامي. وان كان الخراب عم منذ عقود خلت، وهي ليست بعيدة عن ناظرنا، وبدون ان يخلف ضجة إعلامية كما هي الآن. و من الغريب أيضا ان لا نشاهد (ربما لم نطلع) أعمالا تشكيلية ترينا ولو بعض من هذا الخراب (الماضوي) في ازمنته، و بدون الخوض في حجمه وتفاصيله التي أصبحت شائعة. واستعراض الخراب (والإنسان مركزه) كان من الأجدر ان يكون قبل يومنا هذا الذي أطلق اللسان والفعل والفعل المضاد.
محاولة الفنان رافع الناصري النصية ( والنص في زمننا هذا غالبا ما يكون مفاهيميا) التلسيقية، ما هي إلا غزل استذكاري يعيد قراءة النص وهو بصيغته المعرفية الأثرية الموازية لنمطية الخط العربي. ورغم انه اشتغلها على هامش منجزه التقني المعروف. إلا أنها نأت وبشكل واضح عن مجد الخراب، وظلت يتيمة وسط كم الخراب المجهز والمعلب في بقية الأعمال المعدة للعرض. مع ذلك فان ثم هشاشة مظهرية تغلفها ولا ترتقي لمعهود تقنية أعماله الكرافيكية، وان لم يكن من حقنا، ولا يكون، ان يستجيب الفنان لنوازع الآخرين. إلا انه يمكننا ان نتابع خط أو خطوط مسارات إبداعاته أو ابتكاراته الأسلوبية. وفنانا مثل الناصري غالبا ما دلنا على خطه النمطي الإبداعي ضمن مساحة مناوراته المستمرة، مثل العديد من مجايليه فناني الستينات. إلا انه وفي هذه الأعمال حاول النأي قليلا عن معهود مناوراته، فرغم وضوح المعالجة التلسيقية بإحالات كرافيكية وبجاهزية المادة الوثائقية الصورية إلا ان ثم شعور من إرباك يعترينا ونحن نستقبلها. ربما مرده لغرابة المعالجة النصية بنمطية الخط (الثلث) الكلاسيكي الذي يهيمن على الوثيقة البيئية في مستوى تعارضي حاد. مما أدى إلا غلبة التشكيل النصي على مشهدية البيئة المستعادة من تواريخ رومانسية سابقة. مع ذلك فان ثمة أطياف غربة سرية لا تخطئها العين تنسحب على امتداد مساحة مشهدية أعماله تذكارات لأزمنة لا يود الفنان فقدها. أزمنة أرشيفية هي ما يحاول استرجاعها إقامة بمقدرة النص الإيحائية الوجدانية.
الفنان نزار يحيى هو الآخر يقترح الموت (موطنا) في مقبرته التي لا تود ان تبدل تواريخها.وان أطلت أقدام الموتى من ثلاجة ألعبيدي فان أقدام موتى نزار تآكلت بتربة قبرها الجماعي تذكار رعب من أزمنة اكتشافاتها بعد رفع الحضر أو الحجر بفعل دراماتيكية الحدث العراقي في (2003). وان كان الأمر كذلك فالوثيقة اعتقدها زمنية مثلما هي جغرافية، لكنها تبقى رهينة ثقافة تدوين مؤسسها. ربما يشاطره مكتشفها أو لا يشاطره في ثقافة نوازعها. وان كان العرض وطنا كما هو معلن فهل لا تزال أرجل أناسه غائصة في تربة مقابرها. مجرد تساؤل قابل للمعاينة وكفعل تشكيلي يطمح ليقدم (موطنه) ليس كخسارة ذاتية، بل كذات جمعية لا تفقد لمسة إنسانية. ربما لو عرض هذا العمل ضمن عرض شخصي للفنان مع أعمال متنوعة مفاهيمية أخرى لكانت قراءته مغايرة. لكنه وهو يمثل خطا مفهوميا مشتركا وبقية أعمال الفنانين المشاركين الاخريين مما يستدعي قراءته ضمن الخط الثقافي التشكيلي المشترك للعرض ومقارباته العدمية.
الفنان كريم رسن يعيد ما تدرب عليه في ما بعد السابع من حزيران (2003) وهو الشاهد على فوضى ما بعد الاحتلال وانفلات العقول من محنة قمعها وتكبيلها لعقود عدة سابقة، ومحنة أو جريمة الحصار الدولية الكارثية التي أفقدت الإدراك السليم الجمعي مقوماته ولا تزال أثاره فاعلة بعض الشيء في انتظار تراكمات ثقافية سلوكية جديدة تعيد صحوة أناسنا لوضعها الطبيعي. وهولا يزال يتغزل بآثار أو أسلاب تلك المحنة رغم تقادم أزمنتها تدريجيا وتجاوز العديد من مفاصلها، لا كلها. وفي عمله المعنون (ماذا خلفت الحرب في 2009) والذي اعتقده زمن تنفيذ العمل، لا يعاين سوى أثار الاعتداءات المفجعة على أناسنا. وهو إذ يقدم الصورة، فانه لا يعني بمسبباتها، وهنا تكمن المفارقة، في أولا تأكيد الإثارة الفاجعية دون غيرها من المتغيرات السياسية، بما ان العمل التشكيلي صنع بإيحاءات سياسية. وتواريخ عراقية مثل قبل حدث (2003) وبعده فليس من السهولة العبور خلالها بدون وقفة تأملية لمسبباتها الداخلية والخارجية رغم وضوح كل تفاصيلها في زمننا الذي لا يخفي شيئا.
تأتي مساهمة النحات احمد البحراني متوافقة وطبيعة العرض باقتراحات اشتغالاته التشكيلية الإنشائية. وهو المعروف بتشكيلاته المعدنية الخطية والمسطحة. وعلى الرغم من كون أعماله المشاركة لم تبتعد أدائيا عن مألوفية مشهدية أعماله الأخرى إلا انه حاول استغلال مقدرتها الخطية بتشكيل زنازينه المكررة حجزا لخارطة الوطن وأناسه. فهل تعني شرائح هذه الزنازين حجز تواريخنا كلها. أم هي مصيدة لا تسمح لأناسنا ولا ل (موطننا) الإفلات من شبكة دهاليز شراكها. لقد نجح الفنان في إيصال فكرته عبر خطوطه البيانية. لكنها وكبقية الأفكار قابلة أيضا للمعاينة وبإحالاتها إلى الحدث ومسبباته ونتائجه، لا بالعبور فوق كل ذلك و التواصل وفكرة، ومجمل القناعات الثقافية التي شيدت تفاصيل هذا العرض ليس من باب التنوع، بل بما يعزز قناعاتهم بفقد الوطن لا استعادته.
لقد بنى العزاوي قناعاته على شفاهة نقل الخبر لا على معايشته. كما يصرح في مقدمة العرض:
20ـ02ـ2010
التعليقات
كنت اتمنى
فاضل -كنت اتمنى عليك , وعليكم وانتم الخارجون من الوطن قديما وحديثا ؟ ان تنشطوا وتشحذوا ذاكرنكم ؟ وهممكم وتعيدو صوريا على الاقل خراب السنوات العجاف ؟ الاربعين واكثر التي خربت اذواقنا واوطاننا؟ لاان تبنوا عليها خراب وتراكم بحجة الاحتلال؟ لااعرف اين كنتم ومتى تستيقضون؟ تحياتي لمن قدم جمالا ومتعه من اجل العراق الجديد.