بصحبة الكائن التُّخومي وترحيلاته
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
قراءة نقدية لديوان الشاعر المغربي مصطفي غلمان: "قاعدة البطريق"
بقلم عبداللّطيف الوراري
1. واحدٌ من جيل النوعيّة:
في تلك الفترة، كان الشعر المغربي يمرّ بمرحلةٍ حاسمةٍ من تاريخ حداثته وسيرورة تطويره للكتابة وأسئلتها الجماليّة، وصدف أن كانت مرحلةً متوتّرة وانتقاليّة طبعت أطر الفكر واللغة والسياسة داخل المجتمع المغربي، وتأثّر بها مثقّفوه وأدباؤه وشعراؤه على نحوِ بائن يكشف تململ مفاهيم نظرهم وخيبة أملهم ممّا كان يحدث. ومثل شعراء جيله، كان مشروع مصطفى غلمان الشعري معبِّراً عن تجربة شعريّة جديدة بدأت في شقّ دروب مغامرتها وصوغ تصوّراتها لكيفيّة تدبّر طرائق الفعل الكتابي. وإذا كان شعراء التجربة يجتمعون على جملةٍ من الجماليّات المخصوصة من قبيل الاهتمام بذات الكتابة، ونفض اليد عن المعضلات التاريخية والسياسية الكبرى من جهةٍ، والنزوع المستمرّ، في إطار قصيدة النثر، إلى بساطة القول الشعري والانفتاح على السرد وجماليّاته البانية من جهة ثانية، عدا الاعتناء بالكتابة الشذرية وإدخال اللغة الشعرية في شبكة علائق معجمية وتخييلية جديدة قلبت نُظم بناء الدلالة. إلّا أن قليلاً منهم من عبر إيقاع التحوّلات وفكّر في ذاتيّته خارج الخطاطات المعروضة، فخرج ظافراً بقصيدته، بمن فيهم الشاعر مصطفى غلمان.
من باكورته rdquo;خاتمة لدبيب الوشيrdquo; عن دار وليلي بمراكش عام 1998م، ومروراً بعمله الشعري الثاني rdquo;ما جاء في الرؤية عند ازدحام الأثرrdquo; عن دار ألواح بإسبانيا عام 2000م، وانتهاءً ب"قاعدة البطريق" عن دار الحرف 2007م، لم يتوانَ عن بلورة قصيدته بين حدّي الحبِّ والموت، والارتقاء بها إلى مستوى أن تكون خطاباً، مُفْرداً ونوعيّاَ.
2.البطريق قناعاً:
يُعرف عن البطريق أنّه طائر بحري يقضي سحابة يومه، غالباً، في نصف الكرة الجنوبي حول الشواطئ والجزر البعيدة من المنطقة المتجمدة الجنوبية، ومن صفاته أنه يُجيد العوم وأليف وفضولي يختبر أي شيء غير مألوف لديه. وبالرغم من أنه ليس ذكيّاً إلّا أنّه مخلوقٌ مسلٍّ وجذّاب، وهو شبيهٌ بسمك السلمون الذي يقطع مئات الأميال بعكس الماء ليعود إلى موطنه الأصلي، فيقضي فيه ويبعث الحياة من ذرّيته.
وإذا وجدنا من شعراء العربية، رومانسيّين وحداثيّين، من أُغْرم بطيورٍ كثيرة ومتنوِّعة تأرجحت بين الطبيعي والأسطوري، من مثل الكروان والهزار والعندليب والنورس والسنونو والفينيق والعنقاء، داخل ما يمليه عليهم مفهومهم للشعر ووظيفته، ولاسيّما داخل منزعين كبيرين هما أنسنة الطبيعة وأسطرة الموت والانبعاث، إلّا أننا نكتشف اليوم شعراء رأوا في البطريق ابتعاث رؤيا ما، وقد لمحوا فيه، وفي خصاله السخيّة المتناقضة، وفي علاقاته المتلولبة بالشاطئ، وبالفضاء الممتدّ في زرقته بلانهاية، وبالبحر الذي يستوحي من تلاطم أمواجه إيقاع الأزمنة العابرة إلى الأبديّة، ما يُلهم قصائدهم ويقذف بذواتهم ومصائرها في المجهول، حتى غدا لدى بعضهم قناعاً رمزيّاً يتراوح بين الإيثار والتضحية من جهة، والحيرة والعزلة والحنين إلى الأصل من جهة ثانية. ولا أعرف شاعراً من شعراء العربية اليوم مغربيّاً من ارتفع بالبطريق إلى مستوى الاستعارة الكلّية الناظمة لمجمل أمشاج العمل، والعابرة لأخيلته وصوره ومكابداته وترحيلاته، مثل الذي فعل الشاعر مصطفى غلمان في "قاعدة البطريق"، حيث لا شيء أخفى عليه من ظلّه الذي يسحبه متهالكاً بين زمنين، وحيث يشعُّ في ضميره ماء الأمل في الضفاف.
يرمز البطريق، هنا، إلى ذات الشاعر التي تحيا فرديّتها كما عزلتها في فضاء مائل للعماء، لكنّها تصطرع لكي ترى وتكصف وتتّهم، من البداية ذلك:
" يتقطّع أمداء
على وجه الطير الأبيض الدمقسي
يُرمى به من فوق الصدّ المارج
ويُدحض بالعين المدلّلة
ناراً تأكله
مضغة..مضغة." (الديوان، ص11)
هذه النار التي تُحيط بالذات هي فعل تحفيز به تسلك سبل شرطها الأرضي الذي يحفزها على أن تتجدّد ليس بالمعنى الذي تُفيده أسطورة من نوع ما، ولكن بمعنى أن تكون أو لا تكون وهي على "شفا موت"، وفي مواجهة مصيرها المنذور للجراح والآلام، فلا تجد من عزاء إلّا الحبّ:
"أرفع رسمها ووجه النصال
ليمتدّ النبع
من طلقة واحدة
سيأتي نبيذها وقتاً للحياة
وتعود أسفاري لقلادتها السادرة
حلماً جميلاً
يُخلّصني من موت الجسد" (ص129)
بالرغم ممّا تطفح به الذات من معاني الحزن وخيبة الأمل، وما تحمله من ندوب الحياة، لكنّ ذلك لا يقودها، رأساً، إلى أن تتبنّى رؤيا عدمية أو عبثيّة تستقيل بموجبها من العالم وإلزاماته، بل بالعكس: إنّها تواجه بحبٍّ أسطورتها الشخصية، مثلما يواجه البطريق "قدره التُّخومي" بين السماء والأرض، وبين البحر واليابسة، وبين الضوء والعتمة، لأجل أن تظلَّ الرؤيا متيقّظة تصبو إلى معانقة المطلق الذي به ترى الذات:
والتحفْتُ بالكلام الحجاب
خرجْتُ من فم وصلي واحترقْت
من مشي قيدي السنيّ نور الجلال المجتبى" (ص177)
إنّ هذا العبور الذي يتمُّ بمعراج الحبّ هو ما يجعل تلك الذات لا تنسى واجب كينونتها التي تنتصر لقيم الإيثار والانطلاق والتأمُّل، مثلما لقيمة الصداقة حيث يهدي الشاعر أصدقاءه من الموتى والأحياء (محمد بنطلحة، محمد الطوبي، أحمد بلحاج آيت وارهام، علي القاسمي، صلاح نيازي، لطيفة الدليمي...) قصائد تطلّ من شرفة المجاز على ما تبقّى من أثرهم الجميل في الورق، ومن عطرهم العابر في الذاكرة، فييشتبكون بنسيج الكلمات، ويحضرون طيّها بأفكارهم وضحكاتهم وظلال أغانيهم.
3. تأويل مكبوت اللغة:
مثل ذلك العماء الذي تواجه ذات الشاعر وتمشي فيه، هو ما يجعلها تُحدث في اللغة جرحاً يوقظ مكبوتها في لاوعي نصوص الديوان، ويفتح مسار إنتاج المعنى على تأويلات لا تلتئم. فاللغة تلوح قلقة ومتوتّرة تُطوّح بالجاهز منها، وتُحلّ محلَّه البكر والغريب والمهمل والحوشي الذي تمتحه من المعجم العربي القديم، وتحتفي به داخل دلالات جديدة لم يتعوّد عليها، كهذه الدلالة التي تأخذها مراكش مسقط رأس الشاعر، التي صارت تقترن لديه مع سموّ منزلتها بالوحدة وانكسار الأفق لا يقولهما إلّا غريباً:
"مُرّا على الأرض التي تكشّأت في وحدة ليلها
وانتشرت بفلول المعارج والظلال
وقُولا لمن دخل التراب عريرا
أشح بالسرجين مفازة..." (ص23)
يلجأ الشاعر إلى مثل هذا المعجم ويُلحّ عليه، كأنّما يُضاعف لدى القارئ شعوره بالغربة، عدا أنّه يتقصّد استفزازه وإيقاظ ما خمل من ذاكرته ولاوعيه. إلى ذلك، يريد الشاعر أن يأتي إلى المعنى من مكان آخر يخلق علاقات جديدة بين الكلمات وما تتركّب منه، وبالتالي لا يجب أن نهتمَّ بمعجمٍ من هذه الطبيعة داخل وحداته المعزولة، ولكن في ما ينتسجه من علائق لغوية مغايرة وغير مسبوقة تُشعرنا بمعنى أن يكون مع الشاعر بإزاء عالم غريب ومبتذل تفضحه لغةٌ تقدم من المجهول، وتفضح فيه وظيفته الاستعمالية التي طالت حياتنا، وأعجزتنا عن أن نشقّ سبلاً تلهمنا ضوءاً بداخلنا يخفق، كهذه السبل التي تحترثها تجربة مصطفى غلملن بغير قليلٍ من الحبّ والإيثار، وإن كان ما يعترضها في مثل هذا السوء:
"يكون أو لا يكون
مسمار في بئر الأكوان المجيدة
أو في بيداء الزعامات المحصنة
سيلقي الرماة طواحين هواء مقعر
مثل أساطير الدونكيشوط
وليفعلوا ما تشاء الأحقاد
والأصفاد
والنواعير المحرفة وغير المحرفة" (ص199).
شاعر من المغرب
El_ouarari@yahoo.fr