قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
صالح كاظم من برلين: يصعب علي أن الحق صفة "البريطاني" بالمخرج المسرحي الكبير بيتر بروك الذي مرت قبل أيام ذكرى ميلاده الخامسة والثمانين، فهو رغم ولادته في بريطانيا وإنطلاقاته الأولى في المسرح البريطاني، حيث تبلورت تجاربه المسرحية في أحضان هذا المسرح وبالذات في إطار فرقة "وليام شكسبير الملكية"، أصبح رمزا لتجاوز المسرح للحدود القومية والعرقية المصطنعة، وتجلى ذلك على حد سواء في إختياره لأعضاء فرقته، كما في إختياره لمادته المسرحية. فأعضاء فرقته هم ممثلون من مختلف الأقوام، أما مادته المسرحية فهي في تحول مستمر، فهو ما يكاد أن يفاجئ مشاهديه بتقديم نص لشكسبير، حتى ينتقل لمعالجة موضوع من التراث الإسلامي "منطق الطير" للصوفي الإيراني فريد الدين عطار (1136-1220)، أو يوجه إهتمامه لعمل يبدو للوهلة الأولى بعيدا عن المعالجة المسرحية "الرجل الذي خلط بين زوجته وبين قبعة"، معتمدا على كتاب للباحث في مجال الأمراض العصبية أوليفر ساكس، لينصرف لاحقا الى معالجة دراما تقليدية من جنوب افريقيا "سيزوه بانزي مات".. في إطار هذا التنوع يبدو هم المخرج متجسدا في تحقيق منظوره للمسرح الذي وضع أصوله النظرية في "الفضاء الفارغ"، مؤكدا على جانب أساسي في المسرح هو العلاقة بين الممثل والمشاهد، حيث يقومان سوية بملأ "الفراغ" من خلال التواصل فيما بينهما.
لقد بقي بروك مخلصا لهذا المبدأ في أغلب أعماله مثل باحث أزلي عن "الفضاء" المناسب، متنقلا من بلد الى آخر، ومن قارة الى أخرى، متقشفا في إستخدام الديكور، ومؤكدا على أولوية دور الممثل، متجنبا التأكيد على دوره كمخرج، رغم أن لمساته الهادئة تهيمن مثل روح حائمة في الفضاء على أجواء العمل ككل، دون أن تفرض حضورها بشكل مفتعل على المشاهد. لقد نفذ بروك أعماله الكبيرة في أماكن عامة، في الهواء الطلق بعيدا عن جدران المسرح وضروراته التقنية، فجاءت هذه الأعمال خارقة لحدود المألوف وأقرب الى الطقوسية الملحمية التي سبق وأن بشر بها أنتونين آرتو (من الجدير بالذكر أن إرتباط بروك بآرتو مازال مستمرا منذ تقديمه لعرض يحمل تسمية "المسرح العنيف" في العام 1974 معالجا فيه نصوصا لكل من آرتو وجينيه والان روب غرييه..الخ)، وينطبق هذا بشكل خاص على الـ "مهابهاراتا" التي قدمت للمرة الأولى في مهرجان أفينيون، وأستغرق عرضها 9 ساعات بمشاركة عدد كبير من الممثلين من مختلف الجنسيات، وبنفس درجة تمازج جنسيات الممثلين وبقية منفذي العمل، تمازجت الموسيقى التي أستخدمت أثناء العرض، مجسدة مختلف التقاليد الموسيقية السائدة في العالم حينها. لقد كان هذا العمل مبشرا بتوجه جديد نحو تحرير المسرح من أطره التقليدية وشمولية إستخدام أدوات التعبير الفنية المختلفة (التمثيل، الموسيقى، الرقص..الخ) للخروج من دائرة "المؤسسة" التي تشكل في كل الأحوال عائقا كبيرا أمام الإبداع الفني بكل أشكاله. ومن المعروف بأن بروك كان قد أنطلق أصلا من تقاليد المسرح الإليزابيثي، حيث نفذ أعماله الأولى في "المسرح الملكي"، مما جعله يحمل معه شبح شكسبيير أينما حل في العالم (أخرج هاملت في العام 1955 كما قدم عددا كبيرا من مسرحيات شكسبير وأعاد إخراج هاملت في العام 2001 جاعلا الأمير الدنيماركي أسود البشرة)، وذلك بعد ما قدم "بحثا مسرحيا" -التسمية لبروك- حول هاملت تحت عنوان "من هناك؟" مع ممثلي فرقته الباريسية التي أشتهرت خلال السنوات الأخيرة بأعمالها المختبرية التي سماها بروك "بحوثا مسرحية" من ضمنها كما ذكرت أعلاه "الرجل الذي.."، وهو عرض يعتبره بروك بحثا في "أسرار المخ البشري"، يعتمد على أدوات تقنية حديثة (إستخدام الفيديو..).
ورغم تخليه عن عمله كمدير فني لـمسرح theatre des bouffes du nord، مازال يواصل نشاطاته هناك كمخرج، مساهما في الأعمال المختبرية للفرقة، إضافة الى قيامه بنشاطات مسرحية في عدد من البلدان الأوربية، كان آخرها "لماذا لماذا" وهو عمل يعالج مرة أخرى النظريات المسرحية التي كانت سائدة في القرن الماضي، من خلال تطبيقها على نصوص لشكسبيرـتقدمها الممثلة ميريام غولدشمدت التي سبق لبروك أن عمل معها في مسرحية بيكيت "ايام سعيدة". ويبدو بروك مثل رحالة يسعى من خلال أدوات المسرح للغوص في أعماق النفس البشرية، مما جعله قادرا على أن يفاجأ جمهوره بتجدده المستمر وبحثه الدائم عن النصوص الجديدة (في العام 1964 كان سباقا في تقديم مسرحية "مارا-ساد" لبيتر فايس)، غير انه أقر في مقابلة أجريت معه حديثا، بأنه لم يعد يجد نصوصا يطمح لتحقيقها على المسرح، لذا قرر العودة الى التوجه الى النصوص القديمة. ومن المحطات المهمة في حياة بروك هي محاولته لتأسيس فرقة لتقديم أعمال أوبرالية، وقد بدأ بذلك فعلا من خلال تقديم أوبرا كلود ديبوسي (1862-1918)"بيلياس وميليزانده" المبنية على نص للكاتب الرمزي موريس ميترلنك (1862-1949)، وقد تميز هذا العمل بالغاء كافة مظاهر الأبهة التي تحيط بالأوبرا التقليدية، ونقل الموسيقيين من "حفرتهم" تحت الخشبة، الى خشبة المسرح. كما أختار بروك مغنين ومغنيات شباب "نحيفين" لإداء الأدوار الرئيسية، موضحا ذلك بعدم وجود أي ضرورة لأن يكون مغني الأوبرا "بدينا"، مؤكدا في ذات الوقت على التقليل من الإنفعال المبالغ فيه الذي يميز أغلب الأعمال الأوبرالية. وربما كان بروك سيحقق نموذجا للإخراج الأوبرالي، لو كان قد أستمر في السير في هذا الإتجاه، غير انه على ما يبدو قد أستغنى عن ذلك، رغم النجاح الذي حققه في "بيلياس وميليزانده".
ولم يقتصر عمل بروك على مجال المسرح، بل عمل كذلك في مجال السينما، حيث أخرج عدة أفلام منها "أوبرا الشحاذين" و"ملك الذباب"، إضافة الى تحقيق أعماله المسرحية: "مارا-ساد"، "مهابهاراتا"، "كارمن" و"هاملت" سينمائيا.
لقد وضع بروك الحجر الأساس لنهج جديد في المسرح يعتمد "مغامرة" الخوض في أعماق الذات البشرية بكل ما يحيط بها من إبهام، مبتعدا عن التوجهات السياسية المباشرة، ومعتمدا طقوسية الجسد الإنساني الذي كان ومايزال يشكل من خلال الممثل الى جانب النص مصدرا أساسيا للإبداع المسرحي. ولا شك بأنه سيواصل السير في نهجه هذا ليقدم لنا مزيدا من الإبداع في "بحوثه المسرحية".