ثقافات

أولغا توكارتشوك: البروفسور أندروز في وارسو

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

قصة من الأدب البولندي المعاصر
المؤلف: أولغا توكارتشوك: البروفسور أندروز في وارسو
ترجمها عن البولندية: د. هاتف جنابي


كان البروفسور أندروز ممثلا لإحدى مدارس علم النفس، الهامة جدا، العميقة جدا، التي تملك أمامها مستقبلا. شأنها شأن كل المدارس المماثلة، أصلها من علم النفس التحليلي، لكنها انفصلت عن الجذور، وكونت لنفسها منهجا خاصا بها، نظرية خاصة، تاريخا خاصا، أسلوبا حياتيا خاصا، أحلاما خاصة، وطرقا خاصة لتربية الأطفال. طارَ البروفسور أندروز الآن إلى بولندا بحقيبة مليئة بالكتب، وحقيبة فيها ملابس دافئة- قالوا له، إن شهر كانون الأول/ديسمبر في بولندا بارد جدا وكريه.
كل شيء سار بصورة طبيعية: أقلعت الطائراتُ، تحدث الناسُ مع بعضهم بلغات مختلفة، تدلت غيوم ديسمبر الثقيلة فوق الأرض استعدادا لشتاء التعميد- إرسال الملايين من رقائق الثلج البيضاء إلى الأرض، واحدة لكل كائن.
قبل ساعة، نظر إلى نفسه في مرايا مطار هيثرو فتراءى له، أنه يشبه بائعا متجولا- تذكرهم من فترة الطفولة: كانوا يتنقلون من بيت لبيت لبيع الكتاب المقدس. سوى أن مدرسة علم النفس التي مثلها كانت تستحق مثل هذه الرحلة. بولندا بلد ناس أذكياء. كان الغرض أن يزرع بذرة ويعود بعد أسبوع إلى بيته.
أن يترك لهم كتبا، أكيد، هم يقرئون بالإنجليزية، إذن، فكيف بمستطاعهم ألا يعتمدوا على هذا المرجع المؤسس.
بفرح تذكر البروفيسور حلما، وهو يرتشف شرابا عملته له المضيفة من فودكا بولندية مشهورة، كيف كانت ليلته قبل السفر- كانت الأحلام في مدرسته النفسية، بمثابة ورق مختبري للواقع. على أية حال، حلم بغراب، وأنه لعب في حلمه مع طائر كبير أسود. يمكن القول، إنه تشجع على الاعتراف أمام نفسه- بأنه قد داعب الغراب كما لو كان جِرْوا. كان الغرابُ يمثل في نظام الدلالات الرمزية في مدرسته تحولا، شيئا جديدا، جيدا: لذلك طلب شرابا ثانيا.
كان المطار في وارسو صغيرا بشكل مدهش ومليئا بالتيارات الهوائية. هنأ نفسه لجلبه في هذه الرحلة قبعة ذات أذنين، كان يملكها للذكرى من رحلاته إلى آسيا. فورا، رأى (بيئاتريس) واقفة قرب الخروج وهي تحمل لافتة مكتوب عليها لقبه واسمه. كانت ناعمة وجميلة. استقلا سيارة مقرقعة، بينما هي تقود السيارة بتوتر عبر فضاءات المدينة الكئيبة، قدمتْ له جدول الأسبوع المقبل. اليوم هو السبت، يوم عطلة. سيأكلان العشاء معا وبعدها سيرتاح. غدا الأحد- لقاء مع طلبة الجامعة. قالت فجأة: الوضع هنا متوتر قليلا. تطلع عبرَ النافذة، لكنه لم يلحظ أي شيء استثنائي. بعد ذلك، حوار مع مجلة نفسية، فيما بعد العشاء. في يوم الاثنين، إذا أراد، يمكنه زيارة المدينة. في يوم الثلاثاء، لقاء مع أطباء الأمراض النفسية في مؤسسة ما، لم يكنْ في وضع يؤهله لتذكر اسمها
المخشخش. يوم الأربعاء، سيسافرون إلى كراكوف للجامعة. تحظى مدرسة أندروز النفسية هناك باحترام كبير. في يوم الخميس، - زيارة معسكر أوشفينتشيم، هو نفسه طلب ذلك. أن تكون في بولندا ولا ترى أوشفينتشيم... مساء، العودة إلى وارسو. في يومي الجمعة والسبت، طوال اليوم ورشات عمل لأطباء الأمراض النفسية المطبقين. في يوم الأحد، الطيران والعودة إلى البيت.
أحس للتو أن حقيبته مع الكتب والملابس الداخلية غير موجودة. هرعا عائدين، لكن الحقيبة قد اختفت. الفتاة التي اسمها(غوشا) ذهبت إلى مكان ما ثم غابت لمدة نصف ساعة. عادتْ بخفي حنين. ربما، عادت الحقيبة إلى لندن. لا توجد مشكلة، قالت، غدا ستأتي من أجلها، حتما ستكون موجودة. وهو ينظر من نافذة السيارة، لم يصغ إلى ثرثرتها المثيرة؛ كان يفكر بالأشياء الأخرى التي كانت في حقيبته- كتب، ونسخ فوتوغرافية للمقالات.
أكلا عشاء لطيفا مع خطيبها. كانت تغطي وجهه لحية كثة ونظارتان. لم يكن يتكلم الإنجليزية، لذلك كان يبدو عابسا بالنسبة للبروفسور. أكل البروفسور أندروز حساء من البنجر الأحمر مع فطائر صغيرة وأدرك أنه ذات "البورش" الشهير الذي كان جده يتحدث عنه. جدّه ولد في مدينة لودز. صححت له الفتاة بابتسامة، أعادت عليه كما لو كان طفلا: ""بارتش"، "ووج". كان لسانه عاجزا إزاء هاتين الكلمتين.
شعر بأنه ثمل للغاية، حينما وصلوا أخيرا لمحلة ممتلئة بالمباني العالية. صعدوا بالمصعد حتى الطابق(الدور) الأخير، حيث أطلعته الفتاة على شقته. كانت شقة ذات غرفة واحدة ومطبخ عالق بين الغرفة والحمام. كان المجاز صغيرا، بحيث لم يتسع للثلاثة. اتفق البولنديان معه على اليوم التالي محدثين جلبة، وعدته الفتاة بجلب حقيبته. تكلم خطيبها عبر التلفون مع شخص ما بهمس كتوم حتى خرجا أخيرا. ارتمى البروفسور على فراشه وغفا متعبا من "البارتش" والكحول. نام قلقا، أراد أن يشرب الماء لكنه لم يمتلك القوة للنهوض من سريره. فيما بعد، سمع اهتياجا فوق السلالم، صفق أبواب، وخطوات. ربما تراءى له ذلك.
استيقظ مذعورا وتأكد بأن الساعة هي الحادية عشر. نظر إلى ملابسه المتغضنة بنفور. أخذ دوشا في الحمام المتعفن الصغير وللأسف، اضطر أن يرتدي ملابسه الداخلية الوسخة. بعد ذلك راح يبحث في المجرات الصغيرة عن قهوة. عثر على بقايا منها في شيشة مربّى صغيرة. لم يكن هناك جهاز لعمل القهوة، لذلك أعدّها في الكوب. كانت تافهة، ذات مذاق مثل نقيع لحاء الشجر. انقطع التلفون، أكيد أن غوشا قد استلمت حقيبته. نظر إلى الكتب فوق الرفوف وكوب القهوة بيده. جميعها باللغة البولندية، بأغلفة قبيحة تخدش النظر. غوشا لم تتصل، انقضى الوقتُ بطيئا عبر هواء ساخن، كثيف وناعس. تقدم البروفسور صوب النافذة ورأى أفقا مُعَلّما بكتل متساوية من البنايات. كانت جميعها بنفس لون- السماء الرمادية، الشيباء. حتى الثلج كان يبدو رماديا. أشرقت الشمسُ بدون إقناع.
كانت تقف في الشارع دبابةٌ. فتح البروفسور أندروز النافذة، كان المنظر لا يُصَدّق. ضرب وجهه هواء شديدُ البرودة. كانت تدور حول الدبابة ظلالٌ صغيرة، من المؤكد أنهم جنود. فجأة، ساوره قلق، ربما كانت القهوة قوية جدا. بحث في جيبه عن وريقة فيها رقم تلفون غوشا، ورَتّبَ سؤالا مهذبا، لكنه حازم: لماذا لم تتصل به بعد، ثم ماذا حصل لحقيبته. لم تكن هناك نبرة صوت في سماعة التلفون. كرر الرقم عدة مرات. بعدها حاول الاتصال بانكلترا - نفس الشيء. جرّبَ كل الأرقام التي خطرت بباله. كان التلفون عاطلا، لكنه تذكر بأن خطيبها الملتحي قد هتف البارحة من نفس التلفون. اعترته فورة غضب. لبس ملابسه بسرعة وهبط بالسلم نحو الأسفل. بعد ساعة من ضياعه بين البنايات(كانت تبدو له متماثلة) عثر أخيرا على تلفون آخر، لكنه أدرك أنه لا يملك نقودا بولندية، باستثناء ورقتين، حتى أنه لم يكنْ يعرف، هل هذا قليل أم كثير. تحرك بحثا عن مكان يصرفهما فيه، لكن الكشك الصغير الوحيد الذي وجده كان يبدو مهجورا تماما. اليوم كان هو الأحد. أدرك برعب، أنه ارتكب خطأ بخروجه من البيت، هي حاولت بكل تأكيد أن تجده، ربما تكون قد انتظرته. قرر الرجوع وأحس أنه قد تاه. لم يعرف من هي بنايته ضمن البنايات. لم يتذكر العنوان. يا للحماقة. أي بلاد هذه. لمح عجوزين يتأبط أحدهما يد الآخر فهرع باتجاههما. لكن، عن ماذا سيسألهما وبأية لغة؟ تجاوزاه، وهما ينظران باتجاه آخر. تاه بين البنايات، أصبح أكثر شعورا بالبرد واليأس. حتى أنه لم يشعر بحلول الظلام. لقد عثر بأعجوبة على الدبابة حيث النار مضرمة في صفيحة معدنية بقربها. والجنود الذين كانوا يحملون السلاح على أكتافهم، الآن يدفئون أيديهم بالنار. شعر بخوف ارتدادي ما فتراجع بسرعة نحو حديقة معتمة، لكنه بفضل تلك الدبابة تمكن من تحديد موقع بنايته- تذكر المنظر (الذي رآه) من نافذته. وجد نفسه وهو منبسط في شقته- الغريبة، أغلق الباب وراءه بالمفتاح. كانت الساعة السادسة، وموعد محاضرته قد بدأ. بدونه. ربما معه، قد يكون هذا حلما، قد تكون هذه حالة وعي سببها التعب، الرحلة بالطائرة، الطقس، وأشياء أخرى لا نعرفها. عرفت مدرسته النفسية مثل هذه الأشياء.
تطلع داخل الثلاجة فوجد قطعة جبن صفراء يابسة، علبة فطيرة، زبدة وبيضتين. صارت معدة البروفسور أندروز بسبب مرأى الأكل تتحكم بقيادة جهازه العصبي. وما هي إلا لحظات حتى أخذ الأومليت(عٌجّة البيض) يئز (في المقلاة). كانت قنينة -الجوني ووكر التي اشتراها وهو في مطار هيثرو أكبر هدية يحصل عليها البروفسور من الحياة في ذلك اليوم الغريب. صبّ لنفسه نصف قدح وابتلعه دفعة واحدة.
استيقظ صباح اليوم التالي مبكرا، حيث السماء أخذت للتو تصير رمادية. استلقى عاريا في الفراش- قرر احترام ملابسه وعدم النوم في ملابسه الداخلية- من يدري، كم من الوقت ستكفيه. انتظر حتى الساعة السابعة ثم رفع سماعة التلفون برقة. لا شيء. ما زال الخط مقطوعا، رغم أن البروفسور كان لديه أمل طفلي. أحيانا، تحدث للواقع الذي هو في النهاية محض عرض للنفس(هكذا يعتقد في مدرسته النفسية)، أشياء غريبة. صبّ الماء في حوض الاستحمام وقام بوضع خطة عمله وهو مستلق في الدفء.
سيشتري خريطة المدينة، وسيجد السفارة. بعد ذلك سيكون كل شيء بسيطا. ثم المشتريات، يجب أن يأكل شيئا حقيقيا. لبس ملابسه بنشاط ونزل إلى الأسفل. تحرك باتجاه الدبابة- توقف في شارع ما، قد يكون رئيسيا. لم تكن الدبابة موجودة. بدلا من ذلك، كانت العربات المصفحة تسير في الشارع الواحدة تلو الأخرى، بأزيز مشئوم. نظر السابلة إليها وعلامات الاستغراب على وجوههم. دنا من أحدهم، كان رجلا بعمره حاملا كيسا ممتلئا للغاية. بعد نظرة، أدرك مباشرة، أن هذا الرجل لا يفهمه. لذلك قطع سؤاله. أما الرجل فقد رفع كتفيه وأسبلهما عاجزا. اعتذر منه البروفسور بأدب وواصل سيره هناك، حيث تراءى له، أنه قد سمع ضوضاء سيارات كثيرة. وجد نفسه في شارع ذي اتجاهين. نادرا ما كانت تسير فيه السيارات والحافلات الحمراء. لم يكنْ يعرف، أين تتوقف وإلى أين تمضي، هل هو في مركز المدينة أم في ضواحيها.
قرر أن يصغي لغريزته- كانت إحدى أهم المقدمات المنطقية في مدرسته النفسية التي مثلها- الإصغاء للغريزة، للحدس والهجس. سار على الرصيف، وهو يشعر ببرودة متزايدة، حتى وصل إلى ساحة تتشعب منها الشوارع. كانت فارغة بارتياب، كما لو كان عيد، لكن اليوم كان الاثنين أو الثلاثاء. في تلك الأثناء لمح كلمة معروفة لديه وسط اللافتات: بار. فتح البابَ. للوهلة الأولى، لم يرَ شيئا، لأن عدسة نظارته كانت مكسوة بطبقة حليبية من البخار. مسحها بالمنديل فرأى مكانا معتما وعددا من الطاولات البالية. جلست عند إحداها عجوز بلا أسنان. لم تكن تأكل أي شيء. ببساطة، كانت جالسة تنظر إلى اللوح الزجاجي في النافذة. وكانت خلف الكاونتر- المنضدة تقف فتاة ضخمة بمئزر داكن. لم يكن هناك أثر للأكل، لذلك فكرَ أن كلمة "بار" قد يكون لها معنى آخر باللغة البولندية مختلف عما هو في الإنكليزية. تنحنح مترددا. قالت له الفتاةُ شيئا ما. سألها، هل يمكنه أن يأكل شيئا. حدجته بنظرة استغراب. هي لم تفهمه. بعد لحظة صمت خرقاء، أشار لها بإصبعه على فمه. وقال: "إيت، إيت، فود"((Eat, eat, food. فكرت الفتاة لحظة، وبعدها اختفت خلف الباب المفتوح على النصف. عادت إليه بصحبة امرأة أكبر منها سنا. كرر بخجل نفس الإشارة البسيطة. أخت المرأتان تتكلمان فيما بينهما بسرعة وعنف. حددتا له مكان الجلوس وبعد لحظات وضعتا عليه: إحداهن الحساء، والأخرى صحنا فيه كريات من عجينة البطاطا.
وقفتا جنبه لحظة حتى تأكدتا من أن الطعام يختفي في فمه. كان الأكل سيئا، بلا مذاق، لكن جوع البروفسور قد تبخر. دفن الشوكة داخل الفطائر ومسح فمه بمنديل ورقي. تقدم نحو المنضدة وسلم الفتاة عملة ورقية. أعطته البقية فكانت كثيرة، على الأقل، هكذا افتكر الأمر- أوراق نقدية كثيرة وكثير من العملات المعدنية. خرج إلى الشارع رغبة منه في نسيان هذا البار. شعر بأنه مضحك وبائس. تمنى أن يجد نفسه مرة أخرى في شقته في الطابق الحادي عشر، من المؤكد أن التلفون قد تم إصلاحه. رأى حافلة قادمة من الجهة المعاكسة، توقفت- على مبعدة عشرات الأمتار منه. تدافع الناس نازلين وصاعدين. قفز البروفسور بحركة تلقائية إلى داخل الحافلة. تحركوا، وسرعان ما شعر بالضيق، لأن الحافلة لم تسر في الاتجاه الذي تصوره. استدارت الحافلة بمهارة نحو الساحة ثم دخلت في نفق قصير، وبعد ذلك وجدت نفسها فجأة فوق الجسر، حينئذ رأى البروفسور أندروز في الأسفل نهرا كانت تجري فوقه بكسل رقاقة جليدية عائمة. بدا له أن الناس ينظرون إليه بحقدٍ، لذلك حاول أن يهدئ من روعه لكي لا يعطي انطباعا عن نفسه بأن استدارة الحافلة المفاجئة قد أخافته. علاوة على ذلك فهو لم يقطع التذكرة. لو كان الجنود يقفون في الشارع، ربما سيدخل السجن بسبب ذلك. هكذا، سمع عن مثل هذه الحالات حيث تم تغييب الناس إلى الأبد في سجون آسيا. قفز بانشراح في أقرب محطة وتحرك مباشرة عائدا باتجاه الساحة. هبت الريح بفظاعة. توجب عليه أن يربط شريط قبعته ذات الأذنين تحت ذقنه. تجمد أنفه تقريبا. أخيرا، وصل إلى الساحة التي يعرفها وعثر على الطريق المؤدية إلى مسكنه. لم يحسّ بأصابعه من شدة البرد، كان يعدو تقريبا. شاهد في الشارع مكانا مضيئا. فذهب إليه لدواعي الشوق إلى الأضواء والألوان أكثر مما هو لحب الاستطلاع. كان ذلك دكانا، دكانا عاديا، توجد فوق رفوفه كثير من البضائع الملونة. ورأى عبر النافذة المحاطة بشباك ذي قضبان حديدية، الكحولَ بعلامات معروفة، علبا، حلويات، ملابسَ ولعبا. لم يكن الوقت متأخرا، لكن الدكان مغلق. حاول أن يحل رموز اللوحة وساعات الافتتاح. أدرك، أن الدكان ينبغي أن يكون مفتوحا، لكنه كان مغلقا. نظر عبر الزجاجة خائبا. حينما كان واقفا هكذا، مرّ به رجل ما، كان يحمل شجيرة عيد الميلاد في حالة يرثى لها. قال للبروفسور شيئا وضحك. قابله البروفسور بالمثل، غير أن الرجل تجاوزه واختفى.
رجل يحمل شجيرة. كان ذلك بمثابة فألٍ ما، لم يعرف البروفسور ما هو، لأن عقله تحرر من عادة التفكير الرمزي، النفسي، الواضح. أخذت تجري الآن عبر ذهنه مشاعر متقطعة وغير مكتملة. مثلا، الغضب الذي تحول الآن إلى يأس طفلي. ثم فجأة، اعترته ضحكة هادئة داخلية. شيطانية. كان البروفسور أندروز أستاذا في مراقبة عواطفه، لقد تعلم ذلك طويلا. غير أن هذه المهارة بدت له غير مجدية في هذا المقام بتاتا. كان يدرك، أنه، منذ يومين، لم يقلْ أية جملة ذات معنى عدا الجملة التي قالها للرجل الماشي في الشارع، والجملة البائسة "Eat, eat, food".
في اليوم التالي، بعدما تأكد له أن التلفون مازال عاطلا، وجد حانوتا صغيرا مفتوحا في محلته. كان هذا الحانوت مختلفا. كانت فيه فقط قناني فيها سائل كاشف اللون، ربما فودكا، وقناني زجاجية صغيرة فيها خردل. كما وضعت فوق الرفوف قناني من سلاطة البنجر. اعترف بأن عليه أن يشتري ما هو موجود. أثناء خروجه جلبوا الخبز فامتلأ الحانوت في غضون دقائق بالناس. وقف في نهاية الصف، أعطته البائعة بلا تردد رغيفا من الخبز، فدفع لها وانصرف. الظاهر، أنه انجذب للناس، جذبه الحشد المصطف في خطوط أفعوانية طويلة، لأنه لا يريد العودة مباشرة إلى شقته الضيقة الفارغة. وقف جنب طاولات من الصفيح موضوعة فوق الرصيف بموازاة الطريق، حيث اصطفّ الناس أمامها مذعنين. نظر إلى وجوههم، باحثا عن (غوشا) بينهم، ربما كانت هنا. صمت الناس بشؤم. كانوا جديين، متوترين، كما لو أنهم لم يناموا ليلتهم. نقروا بأرجلهم. إنهم أكثر شعوب العالم عبوسا. ومع ذلك وقف بالقرب منهم. لا، لا، لحاجته إليهم، بل، لأن دفئا إنسانيا عاديا تسرب منهم. لقد ذاب الهواء المتجمد بفضل تنفسهم. نظر إلى البائعات المتلفعات اللواتي غرفنَ من براميل كبيرة أسماك شبوط شيباء اللون، حسنة المنظر. رمين السمك مباشرة في الميزان. أخذت الأسماك تتخبط في الزمهرير. كانت البائعات تسألن كل مشتر: "زيفون تشي نا ميسّو". بدا السؤال كلازمة، كترجيع صوتي. التقطت أذن البروفسور أندروز لحن ذلك النشيد والآن يدندن في رأسه: "زيفون تشي نا ميسُّو"(حية أو ميتة)" كان باستطاعة البروفسور أن يُخمّنَ المعنى. حينما يومئ المشتري برأسه إطراقا تضرب البائعة السمكة بوزن الميزان. بعدها تجد الأسماكُ راحتها الأبدية في أكياس خيطية مُشَبّكة.
سرتْ في جسمه رعشة. صار لديه انطباعٌ بأنه يشترك في طقس ديني. قتل السمكة. "زيفون تشي نا ميسُّو؟"، لقد نومته مغناطيسا تلك الكلمات المكررة. تولدت لديه رغبة مفاجئة بالانخراط في هذا التكرار القاسي والانصراف بسمكة ميتة في الكيس، شأنه شأن الجميع. لا إراديا، وقف في الصف، لكنه استعاد وعيه، بعد أن شاهد مجموعة مكونة من أربعة جنود بصحبة كلب. حتى أنه أحسّ بالخجل. أشاح الناس بوجوههم عن الجنود في صمت. محدقين في أرجلهم أو في نقطة ما في الهواء. فكر البروفسور بمكتبه اللندني مغتما، بكتبه ودفء موقده الكهربائي.
كانت تباع شجيرات عيد الميلاد في الفسحة تحت بنايته السكنية. تشكل أمامها صفٌ من الناس أصغر بكثير من الصف السابق. حسنا، لقد ابتاع شجيرة. حملها تحت إبطه عائدا إلى مسكنه، كان يبدو مثل كل الناس. جلب ذلك له فرحا مفاجئا. راح يصفر. صعد إلى شقته-الغريبة، جلس في معطفه وقبعته ذات الأذنين خلف الطاولة ثم فتح القنينة ذات السائل الكاشف اللون. كان ذلك خَلاّ. "يا إلهي- فكّرَ- هذا لا يمكن أن يكون مفرحا. لدي حدث من الذُّهان. لقد حصل لي شيء سيء". أراد أن يعين تلك اللحظة التي بدأ فيها كل ذلك، لكن التفكير قد استعصى على عقله. جلّ ما تذكره، كان تلك السندويتشات اللذيذة التي أكلها في الطائرة.
تعجب البروفسور نفسه لكثرة تفكيره في الأكل، لقد تقبل ذهنه هذه الأفكار بعجز- كان معتادا على أن تقعد في داخله أفكار مجردة أنيقة، كما في الكنبات المريحة. أما الآن فقد شغلتْ صورةُ الحانوت خلف القضبان برفوفه المليئة بالبضائع ذاكرةَ البروفسور. "هذا شيء مضحك، وغير مسبوق"، فكر البروفسور، كيف كان متسليا في البداية، ثم أصبح في ذعر حقيقي. وضع الشجيرة أمام جدار الغرفة وراح يتطلع في غصيناتها الدقيقة الناعمة. أدرك، بدون رغبة، أن عليه القيام بعمل ما، يجب أن يشرع بالفعل.
وضع أشياءه في الحقيبة، أطفأ النور، ألقى نظرة أخيرة على مدخل الشقة، ثم أغلق الباب وراءه. نزل بالمصعد إلى الأسفل وحاول أن يرمي مفتاح الشقة داخل صندوق الرسائل. كان مستعدا لكل شيء. يجب عليه أن يعثر على السفارة. لا مخرج آخر لديه. قابل أمام السكن رجلا سمينا محمرّ الوجه، كان رغم البرد يجمع الثلج بالمجرفة. انحنى له الرجل بشكل طفيف، وقال شيئا ما، من المؤكد أنه ألقى التحية عليه. شعر البروفسور أندروز بهبوب طاقة غير متوقعة، وبدون أن يكترث بشيء، حيث هو نفسه قد تفاجأ، حدثه عن اليومين الأخيرين: أنه يسكن في الطابق العلوي، وأنه قدمَ من لندن لإلقاء المحاضرات، وأن مرشدته كان عليها أن تتصل به تلفونيا، لكن الخطوط مقطوعة، وأن هناك دبابة تقف في الشارع، وأن الدكان مغلق، والحافلة، وشجيرة عيد الميلاد، والخلّ في الكأس. كان الرجل السمين ينظر إلى فمه بإمعان. لم يعبّرْ وجهه عن شيء.
بعد ذلك ألفى نفسه بشكل ما في شقة صغيرة مملوءة بالعفش. كان من الصعب عليه أن يتحرك داخلها. جلس أمام طاولة واطئة، شرب الشايَ بكأس ذي عروة بلاستيكية، ومرة تلو الأخرى رفع الكأس إلى فمه بتلهف. كان للفودكا طعم فاكهة غريب. كانت قوية إلى حد أن مريء البروفسور قد ضاق ألما بعد كل رشفة. كان يسمع نفسه وهو يحدث الرجلَ وزوجتَه(ظهرت ممتلئة ووردية البشرة، بسوسج ساخن وُضِعَ بشهية فوق صينية) عن مدرسته النفسية، ومؤسسها، عن الهاجس، وبأية طريقة تعمل الذاتُ البشرية. وبعد ذلك استحوذ عليه ذلك القلق المفاجئ، حيث تذكر السفارة، ثم أخذ يكرر متمتما الكلمة ذاتها: "السفارة"، "السفارة البريطانية". إنها "الحرب"، رد عليه الرجل قائلا، ورفع كلتا يديه بحركة في الهواء بحيث تجسدتا تقريبا في هيئة بندقية. ربض الرجلُ أغمض عينيه وأطلق صوتا يقلد الرماية. رمى الجدران المليئة بالسرخس المعلق. "الحرب"، كرّر. تحرك البروفسور متمايلا باتجاه المرافق الصحية فوجد نفسه في مدخل المطبخ. كان على الطاولة يوجد جهاز كيميائي معقد مليء بالأنابيب والصنابير. شعر بالغثيان بسبب الرائحة الحادة. لكن دفعة رقيقة من صاحب البيت وجهته نحو الحمّام. أغلق البروفسور البابَ وراءه، وحينما استدار رأى سمكة كبيرة تسبح في حوض الاستحمام. كانت حية. لم يصدقْ ما رأى. توقف عند زرّ سرواله ونظر مباشرة في عينها المسطحة تحت الماء. شعر بأنه سجين نظرتها. حرّكت السمكة ذيلها بكسل. ثمة ملابس معلقة فوق حوض الاستحمام لتجفيفها. هكذا ظل واقفا مدة ربع ساعة تقريبا، لا يستطيع الحراك، إلى أن قام المضيف بسبب قلقه بطرق الباب. "إشْ ش.." هدّأه البروفسور. حدق بعضهما في عين البعض الآخر هو والسمكة. كان ذلك فظيعا وسارّا في الوقت ذاته، ممتلئا معنى وعبثيا في آن واحد. خاف لكنه شعر بالسعادة بطريقة غريبة ما. كانت السمكة حية، تحركت، تلفظت بشفتيها الغليظتين بكلمات غير مسموعة. توكأ البروفسور أندروز على الحائط وأطبق جفنيه. آه، أن تبقى في هذا الحمام الصغير، في بطن المبنى الكبير، وسط هذه المدينة المتجمدة الكبيرة، أن تكون مجردا من الكلمات، ألا تفهمَ ولا تُفهمَ. متطلعا في وسط عين السمكة المسطحة المدورة بافتتان. ألا تتحركْ من هنا.
انفتح البابُ بقعقعة فوقع البروفسور بين ذراعي المضيف الدافئتين القويتين. حضنه مثل طفل. ونشج.
بعد ذلك، استقلا التاكسي وهي تقودهم عبر مدينة مغمورة بلمعة الشمس الباردة. وضع البروفسور حقيبته فوق ركبتيه. فيما بعد، حينما ودّع الرجلَ السمينَ أمام بوابة السفارة، قبله الرجلُ في كلا خديه غير الحليقين منذ يومين. ما الذي كان باستطاعة البروفسور أن يقول له عند الوداع؟ توقف لسانه متمردا لحظة، سكران، وبعدها همس غير متأكد:
"زيفون تشي نا ميسّو؟". نظر البولندي إليه مستغربا. وأجابه "زيفون".
المصدر: نقلا عن البولندية، من المجموعة القصصية: "العزف على طبول عديدةrdquo;، دار نشر روتا، فاوبشيخ 2001، ص 217-229. العنوان بالأصل البولندي:
Gra na wielu bębenkach, wyd. Ruta, , Wałbrzych 2001: 217-229.

سيرة القاصة
أولغا توكارتشوك- Olga Tokarczuk(1962- ): قاصة وروائية وكاتبة مقالات مشهورة تنتمي إلى الجيل الأوسط. حققت لها رواية"ما قبل التاريخ وأزمان أخرى"(1996) نجاحا فائقا. كانت مرشحة لنيل جائزة "نيكه"، التي فازت بها في دورة العام 2008 على روايتها"الرَحّالة". تعتبر جائزة "نيكه" أكبر وأشهر جائزة أدبية في بولندا. حازت كذلك على جائزة قراء جريدة "غازيتا فيبورتشا" للمرة الرابعة على التوالي. كما وحازت على جائزة مؤسسة كوشتشيلسكي. نذكر من بين أعمالها الروائية: "رحلة أهل الكتاب"(1993)، و"بيت النهار، بيت الليل"(1998)، و"الرَحّالة"(2007)، ومجموعتين قصصيتين هما: "العزف على طبول عديدة"(2001) و"تواريخ أخيرة"(2004)، إضافة إلى مجموعة شعرية بعنوان"المدينة في المرايا"(1989).
حققت مستوى عاليا في الأشكال الأدبية القصيرة. معجبة بأعمال كارل غوستاف يونغ والمعرفة السرية. بدأت أعمالها بالواقعية السحرية"ما قبل التاريخ وأزمان أخرى"، مرورا بنوع من الكتابات المجهولة(تصل إلى تواريخ حقيقية ذات خلفية ساحرة من منطقتها التي تقطن فيها- سوديتي)، وصولا إلى النثر الواقعي مع هيمنة ذات طبيعة نفسية- اجتماعية. نثرها مصقول وبارع، بإمكانها استخراج المعاني العميقة للنور من وصف الأشياء الميتة ظاهريا، كتابتها ذاتها هي خلق يحدث أمام أنظار القارئ. تمتزج المعاني الأسطورية مع النفسية، بحيث يكتشف القارئ العالم من جديد، ذلك العالم الذي كان يبدو له قبل ذلك مألوفا ومعروفا.
أما قصة"البروفسور أندروز في وارسو" فتعرض لنا ببراعة عبثية حالة الحرب في بولندا(13 كانون الثاني/ ديسمبر 1981) من منظور شخص أجنبي، قدم إلى وارسو لإلقاء المحاضرات قبل يوم من إعلانها. ضياعه المضحك في واقع غريب وغير مفهوم تماما يعكس معاناة البولنديين في تلك الفترة.
حصلت على جائزة"نيكه"الأدبية لسنة 2008 على روايتها (الرحّالة) وهي أرفع جائزة أدبية في بولندا.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف