قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
صالح كاظم من برلين: تعتبر أوبرا فاغنر "خاتم النيبلونغ" بأجزائها الثلاثة التي تشمل "الفالكورة" و "سيغفريد" و "دغس الآلهة" ومقدمتها "ذهب الراين" قمة أعمال ريشارد فاغنر الأوبرالية، وخطوة جريئة في طريق تثوير الأسس التقليدية للأوبرا ووضع اللبنات الأساسية لما أطلق عليه تسمية "الدراما الموسيقية" التي رسخ لها الجزء الأكبر من عمله منذ خروجه من شرنقة الأوبرا الكلاسيكية بعد "أساتذة الغناء في نورنبرغ". وفي سعيه الدائم لتجاوز المألوف أدرك فاغنر منذ البداية أن دور الأوبرا الإعتيادية لن تتمكن من إستيعاب طموحاته الفنية، لذلك ركز جهوده على توفير الإمكانيات المادية الكافية لبناء مسرح يجسد طموحاته الفنية، وقد تحقق له هذا بالفعل من خلال تحقيق مشروع بايرويت، حيث أقيمت بناية المسرح على ما يسمى بـ "التل الأخضر" من قبل المهندس المعماري الألماني أوتو بروكفالد (1841-1917) تحت إشراف فاغنر مباشرة وبتوجيهات منه، تتعلق بشكل خاص بالتجهيزات التقنية الضرورية لإنجاز أعماله على خشبة المسرح. وقد جرى إفتتاح المسرح بتقديم "خاتم النيبلونغ" بإشراف فاغنر كمخرج وبحضور العديد من الشخصيات السياسية والثقافية لتلك المرحلة من بينهم القيصر الألماني وملك بافاريا لودفيغ الثاني(1845-1886)، وقدم العمل تحت عنوان: "خاتم النيبيلونغ، أوبرا في أمسية تمهيدية وثلاثة أيام"، وذلك في 13آب 1876.
في التطبيق العملي جاءت هذه "الدراما الموسيقية" في إطار غير مألوف لذلك العصر وأحدثت ضجة لم تقتصر على حدود ألمانيا، بل شملت أغلب العواصم الثقافية في أوروبا، حيث ووجهت بعاصفة من النقد المعارض من جهة، والإنبهار من جهة أخرى، وكان أكثر النقاد وضوحا في هذا المجال الموسيقار الروسي بيتر تشايكوفسكي (1840-1893) الذي كتب عن فاغنر في حينها لـصحيفة "نيويورك مورننغ جورنال" ما يلي: "فاغنر مؤلف سمفوني كبير، ولكنه ليس مؤلف أوبرا. وربما كان سيجد له الى جانب بيتهوفن موقعا مميزا كموسيقار لو لم يضيع وقته في صياغة الميثولوجيا الألمانية على شكل أوبرا. إنه يتعامل مع المغنين كما لو كانوا أدوات موسيقية." ويتطابق هذا الرأي مع أغلبية نقاد تلك المرحلة الذين أعتبروا أعمال فاغنر إنتهاكا للمحرمات التي كانت حدودها قد ثبتت من قبل الأوبرا الإيطالية والفرنسية. وربما لم يدرك سوى عدد محدود من العارفين بالموسيقى بأن ما حققه فاغنر سيشغل أجيالا من الموسيقيين وسيفتح أبواب الحداثة على سعتها أمام من سيخلفه في إستكشاف وسائل تعبير جديدة تتجاوز ما هو سائد ومألوف (سنرى لاحقا أن مبدعي موسيقى الـلامقام، أعتمدوا على الأغلب على ما أسسه فاغنر).
أما "خاتم النيبلونغ" فإنها تعتبر حاليا واحدة من أكثر الأعمال الأوبرالية إنتشارا وحضورا في دور الأوبرا العالمية، ذلك إنطلاقا من الطاقة التعبيرية الهائلة التي تميزها ومن قربها لأدوات التعبير المسرحية (الدرامية) في بناء الأحداث وتوظيف الموسيقى. ومن المعروف أن موسيقى فاغنر عموما، و "الخاتم" بشكل خاص وجدت لها مدخلا في السينما المعاصرة، وما زالت تستخدم من قبل العديد من مؤلفي "الموسيقى التصويرية"، وهناك العديد من النماذج المهمة في توظيف موسيقى فاغنر سينمائيا منها "القيامة الآن" لكوبولا و"نوسفيراتو" لفيرنر هيرتزوغ.
في الحديث عن "خاتم" فاغنر لا يمكن تجاهل العمل الجبار الذي قدمه المخرج الفرنسي "الشاب" في ذلك الوقت باتريك شيرو بمناسبة مرور مئة عام على إفتتاح مهرجان بايرويت، حيث قدم هذا العمل في إطار إستفزازي حداثي ما عرضه لغضب الجمهور المحافظ، حيث أخرجه عن إطاره الملحمي، مسبغا عليه طابعا طبقيا من خلال إعادة أحداثه الى بدايات الرأسمالية المعاصرة. والحقيقة فإن شيرو كان قد أقترب في تفسيره هذا ما أراده فاغنر في كشف الخراب المادي الذي جاء كظاهرة جانبية لتبلور المجتمع الرأسمالي الحديث، مجسدا في ظاهرة الاغتراب التي ما زالت تهيمن على حياة الإنسان المعاصر.
الأسطورة كما يرويها فاغنر
في قاع العالم يسكن قوم من الأقزام تطلق عليهم تسمية النيبلونغ، وهم يمتلكون ثروات طائلة يحرسها "البريش" الذي هو في الوقت ذاته القطب المضاد لـ "فوتان" كبير الآلهة. أثناء مزاحه مع بنات الراين الثلاث يكتشف القزم أن هؤلاء الحسناوات يحرسن كنزا من الذهب، فيسألهن عن سر هذا الكنز، فيفلت لسان إحداهن فتخبره بأن هذا الكنز لا يمكن أن يحصل عليه سوى كائن تخلى عن الحب، يمكن أن يصنع منه خاتما يجعله يسود على الكون. ما يكاد ألبريش يسمع هذا حتى يقوده طمعه الى أن يصرح بأنه على إستعداد للتخلي عن الحب من أجل الحصول على الذهب ولفرض سلطته على الكون. في الوقت ذاته يجد الإله فوتان نفسه، بعد بناء قلعته "والهالا" فوق قمة جبل شاهق الإرتفاع، يطل من خلاله على العالم، في مأزق يرتبط بتكاليف البناء التي يفترض أن يدفعها للعمالقة الذين قاموا ببناء القلعة شرط أن يدفع لهم تكاليف جهودهم. هكذا يتضح لنا منذ اللحظة الأولى أن الصراع الذي سنواجهه لاحقا هو صراع يرتبط بالجاه والسلطة، وما سعي مختلف أطراف الصراع، بمن فيهم الأقزام والعمالقة والآلهة لتملك الخاتم وطاقية الإخفاء سوى جانب من هذا الصراع الذي يتشعب الى صراعات جانبية بعد أسر البريش من قبل فوتان من خلال الإحتيال عليه، تشارك فيها كافة الأطراف المذكورة، إضافة الى البشر الذين يزج بهم في هذا الصراع من خلال تزاوج فوتان وولادة سيغموند الذي سيضاجع شقيقته سيغلندة فتلد له البطل وقاتل التنين سيغفريد. وفي حين تتداخل أحداث الصراع في حبكة دقيقة يقودنا فاغنر تدريجيا الى النتيجة التي تبشر بالسقوط والنهاية. ومن الجدير بالذكر أن فاغنر كان قد خصص هذا العمل لأوركسترا تتكون من 100 موسيقي، كما قام بتصميم بعض أدوات العزف الموسيقية الخاصة لهذا العمل، وشارك 34 مغنيا ومغنية في أداء الأدوار الرئيسة فيها إضافة الى كورالات نسائية ورجالية.
غوتز فريدريش و"مسرح المستقبل"
"مسرح المستقبل" هي التسمية التي أطلقها ريشارد فاغنر على "خاتم النيبلونغ"، حيث رأى أن عمله هذا لا يمكن إخضاعه للمقاييس النقدية التي كانت سائدة في عصره، لا من ناحية المضمون ولا من ناحية الشكل، وربما كان هذا هو ما حفز المخرج غوتز فريدريش على وضع العمل ككل في إطار عصري (نفق الأزمنة) كما يسميه فريدرش، وهو عبارة عن نفق يذكر بنفق المترو في واشنطن "نحن أمام زمن يجمع بين شخصيات ومواقف الحاضر والماضي. فما هو في الأعلى ينقلب الى الأسفل، وما كان مبعثا للأمل يصبح مصدرا للقلق الذي يتجسد في الحرية.."، هكذا فريدرش. ولقد تمت، كما يذكر المخرج الإستفادة من العديد من المخطوطات التي وضعها هنري مور لنفق المترو في لندن وتوظيفها في وضع الديكور. ومن خلال تداخل الأزمنة والأحداث تمكن المخرج أن يضع المشاهد وسط مشهد بانورامي يحمل في طياته بذرة الدمار التي منحها فاغنر موقعا مركزيا في عمله الملحمي هذا، حيث تتعاقب الأحداث وسط صراع مستمر من أجل السلطة والمال في أجواء تطرح العديد من الأسئلة التي تتعلق بالولاء والخيانة وخيبة الأمل. وفي الوقت الذي يتداخل فيه عالم الآلهة مع عوالم الكائنات الأخرى تفقد الأشياء ملامحها، حتى يجد فوتان نفسه عاجزا عن التحكم في مسيرة الكون، وذلك منذ اللحظة التي يهشم فيها سيف البطل سيغفريد حربة الإله، فاتحا بذلك بوابة الجحيم. وحين تصبح الآلهة عاجزة عن التحكم في مصائر الكون تزدهر الخيانة ويحاول هاغن أن يستولي على الخاتم ليحقق حلمه وحلم أبيه البرش في الهيمنة على العالم، غير أن بنات الراين يقفن في طريقه، فيموت غرقا في أعماق الراين، في الوقت الذي تلتهم فيه النيران شجرة المُران التي كانت تحمي قلعة والهالا التي يقيم فيها الآلهة. ويضعنا بناء هذا العمل الجبار وتداخل شخصياته وعوالمه أمام العديد من الأسئلة الدراماتورغية والتقنية التي تتعلق بإعادة تكوينه على المسرح، بدءا مما يتعلق بتوظيف طاقم بشري لتحقيقه وإنتهاء بالضرورات التقنية في تحقيق اجواء العمل. هنا يكمن السر الذي جعل هذا العمل في مقدمة الأعمال التي تقدمها دور الأوبرا الألمانية لمشاهديها، وما زال يقدم على مسرح "الأوبرا الألمانية" في برلين منذ 25 سنة، حتى أصبح يشكل واحدة من معالم المدينة. ويستغرق العمل بكل أجزائه ما يزيد عن 16 ساعة، موزعة على عدة أيام ضمن برنامج "الأوبرا الألمانية"، غير أن الإدارة الحالية قررت التعويض عنه بأعمال أخرى لغرض توفير الفرصة أمام جيل جديد من المخرجين لإغناء برنامجها. وربما سيجد أحدهم الشجاعة الكافية للتعرض من منظور جديد لهذا العمل الجبار بما يحتويه من عواطف متقدة وجرائم قتل ودسائس يتوّجها الموت والسقوط. ولا شك أن الإنجاز الذي حققه غوتز فريدرش من خلال تقديم هذا العمل بكادر موسيقي وأوبرالي معروف عالميا سيبقى من المعالم المهمة في طريق تحقيق "مسرح المستقبل" الذي أراده فاغنر.