معرض حول الجريمة والعقاب بباريس
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
"يلزمنا أن نقرّ بأن أي قاتل يمكن أن يكون نظيرا لنا"
ترجمة وإعداد عبد الله كرمون: يقام حاليا معرض هام في متحف أورسيه الباريسي تحت عنوان "الجريمة والعقاب"، وذلك باقتراح من روبير بادانتِر، وزير العدل السابق الذي ألغى عقوبة الإعدام بفرنسا سنة 1981، وبتنفيذ من الأكاديمي جان كلير، صاحب معارض أخرى متميزة في الماضي، مثل معرضه حول مارسيل ديشون سنة 1977 بمركز بومبيدو، ثم معرض "الكآبة" الذي أقامه سنة 2005. ويحتوي معرضه الحالي على عدد كبير من القطع التي تسعى إلى جعل الزائر يتأمل أكثر معنى الجريمة، ويدفعه إلى طرح الأسئلة المضنية. فيما يلي ترجمة للحوار الذي أجراه معه الصحفي إيريك بيتري ريفيير من جريدة لوفيغارو. وللإشارة فقط، لم أرد أن أثقل النص بالشروحات والهوامش، والتي يستلزمها، في كثير من مواضعه، مع ذلك.
لماذا احتوى المعرض على عدد وفير من القِطع (457)؟
قليلة هي المواضيع التي أفاض الفن في تجسيدها مثل الجريمة. ويصورها في المتاحف أزيد من نصف أعمالها! تَذَكَّرْ الشهداء، الصَّلب، الحروب! إن الحب مؤثِّر، لكنه جد نادر، وأكثر مدعاة للرتابة! وكيف يمكن تجسيده في حد ذاته؟ أما بخصوص الجريمة فهناك، خلاف ذلك، تنوع يبعث على الدوار. العنف يبهر بكل تأكيد، لأن بإمكاننا، عكس الحب، أن نصور لحظة تنفيذ الفعل. فوق ذلك، فهو مضاعف هنا، إذ نعالج الجريمة التي يليها العقاب، والذي يعتبر نفسه جريمة أخرى.
في حالة مضطربة. يبدأ المعرض بشخصية قابيل البارزة. فأول أجدادنا كان قاتلا. أراد أن يكون وحيدا وفريدا. لقد أفشى كتاب العهد القديم خاصية هامة من خاصيات الشرط الإنساني. نشعر جميعنا بنزوات قتل. يلزمنا القبول بها، مثلما يلزمنا أن نقرّ بأن أي قاتل يمكن أن يكون نظيرا لنا. ما يجعله مختلفا عنا، بطبيعة الحال، هو إقدامه على الفعل، لكن الحد الفاصل بيننا هين، أحيانا، ورفيع. وقد نشعر أيضا لدى خروجنا من المعرض بنوع من التفريج. فكل تجسيدات الجريمة تلك نائية عنا، ويتخذ الكل شكل تطهير. وقد أُبعد أخيرا شبح المقصلة المشؤوم.
غير أن ختام المعرض الذي يحيط بالسريالية يطرح سؤالا: لماذا افتتن الطليعيون بالقتل، وجعلوا من المجرمين أبطالا لأعمالهم، من دو ساد إلى الأخوات بابان، ومن الرعب إلى الملذات، من التعذيب الصيني إلى تقريظ الجريمة الطقوسية عند باطاي، في حين أن هذه الأمور تبعث على الفزع في العالم القديم؟
تقترح رفقة روبير بادانتِر معرضا متعدد الاهتمامات. فهو كعالم بالآداب وكمفكر، وقارئ كبير لكوندوغسيه والأب غريغوار، يتساءل لماذا يكون القانون الذي يحارب الخروقات عاجزا تماما عندما يتعلق الأمر بتفسيرها. وترد عليه بصفتك محللا نفسانيا، مع ساد، جوزيف دو مايستر وجورج باطاي...
لم نقارع أفكارنا حقا لانعدام الوقت الكافي لذلك. نملك رؤيتين جد مختلفتين، على ما يبدو، حول عصر الأنوار وحول الثورة اللذين يقدم المعرض أشد وجوههما حلكة. أن أعرض لوحة إبليس المارد لستوك إلى جانب المقصلة فتلك مُلحة بالنسبة للعارفين: فإن جوزيف دو مايستر هو الذي اعتبر أن الثورة شيطانية...وأقرأ اليوم أكثر، عن طواعية، إدموند بيرك وتأملاته حول الثورة أقل مما أقرأ سوبول الذي فُرض علي في الجامعة...ومنحت لما يمكن أن نسميه "الكشف الطبي للشر"، وللنظريات حول التموضع الدماغي الذي يسعى إلى تحديد "حدبة الجريمة" أو ترصد جينات العنف، أهمية بالغة، ربما لم يكن روبير بادانتِر يرغب في ذلك. ففكرة أن يكون بالإمكان وجود مجرم عن فطرة أو أن نصير مجرما عن طريق وراثة تصرفات الأجداد أو بسبب فساد الأصل، كانت كل هذه العلوم الجبرية للشر، في أصلها، نظريات رجال ميالين إلى التقدم ويساريين، بدءا بلومبروزو وانتهاء بزولا. ثم صارت بذلك فيما بعد في عداد أفكار اليمين، بل اليمين المتطرف. فأين تتموقع العدالة والحق في خضم هذا الخليط إذن،...؟ يمكننا أن نحيّي هذه الأفكار عندما تقود، عن هم إنساني، إلى إلغاء حكم الإعدام، ولكن كيف لا يتم انتقاد أفكار التقدم هذه عندما تخترع المقصلة؟ اخْتُرِعَت هذه الآلة عن مسعى إنساني، مثل وسيلة أقل إيلاما وأكثر مساواة لتجرع الموت. وهي في نفس الوقت أول آلة تُميت بشكل أوتوماتيكي إذ لم تعد تتدخل فيها اليد: يتحرر النصل بوسيلةٍ آلية و"دافع خفي" وينزلق...وقد جَعَلتْ منها دقتُها أيضا ويسرُ استعمالها فاتحة جرائم قتل صناعي بالجملة.
لكن ماذا يوحد بينكما إذن؟
الذي يوحد بيننا هو: "لا تسفك الدماء" (عن الكتاب المقدس. المترجم): أَيْ جور حكم الإعدام. لا يصح أن ينتقم شخصٌ ما من مجرمٍ بأن يقتله بدوره. كان إلغاء الإعدام ضروريا، وأُكْبِرُ في روبير بادانتِر نجاحه في التوصل إلى إلغائه.
المعرض متعدد الاختصاصات، فهو يتجاوز الإطار العادي لتاريخ الفن كي يصير انثربولوجيا. ومع ذلك فهو يقام في متحف كلاسيكي، في أورسيه. هل هناك مخاطرة بأن تؤخذ الوثائق أو المواد التاريخية، في تماسها مع إبداعات الفنانين، على أنها مجرد تخييل؟
خططت دائما معارضي على هذه الكيفية، منذ "الروح في الجسد" سنة 1993 معية جان بيير شونجو دارس الخلايا ولأنسجة العصبية. أركز على تاريخ الأفكار، وأتهرب من حرم تاريخ الفن باعتباره معرفة مكتفية بذاتها. لا يمكن خلط بوابة السجن المدهشة التي نعرضها، أو المقصلة، مع أعمال فنية: فقد عرضتا كما كانتا دون أية مسحة "جمالية"، وتتجسدان، مع ذلك، كنواة أساسية، في كثير من أعمال المعرض. إنهما حاضرتان هنا كحد للشكلانية، التجريد وانعدام المحتوى التي اكتسحت جميعها ثقافتنا البصرية. بالمقابل فأشياء العالم الملموس تلك قد تم عرضها في سياق مؤيد لها: المقصلة تذكر بتجسيد الشيطان عند ستوك، ثم أيضا الرأس المقطوعة للقديس يوحنا المعمدان المرفوع لدى جيستاف مورو.
على ماذا يحيل، بالنسبة لمجتمعنا، هذا الاختيار الخاص لهذا النوع من تقنية القتل؟
يحيل على علاقة مخالفة بالجسد. وتدل على ذلك، بشكل مهووس، أعمال الفنانين، عن طريق جمالية تبدو طبيعية أكثر فأكثر عند جيريكو (Geacute;ricault)، أو أكثر فأكثر استيهاما لدى رودون (Redon): تذكرْ أننا نتوفر هنا على تجسيدات لخمس وأربعين رأسا مقطوعة!
يختم المعرض بفترة ما قبل الحرب العالمية الثانية...
إذا ما واصلنا، سيكون علينا، أن نتطرق إلى جريمة أخرى: الجريمة ضد الإنسانية. مصراع آخر، وتتمة شاسعة...لننوه إذن بغي كوجيفال رئيس متحف أورسيه الذي قبل مباشرة مبدأ هذا المعرض متعدد الجوانب بمجرد أن اقترحناه عليه. لقد وضع رهن إشارة هذا المشروع مجموع منتخباته، علاقاته والطاقات التي يتوفر عليها.
حقيقة لا. ربما لأنني أهتم بشكل خاص بالجانب المرَضي بشأن تنفيذ الجريمة. أرى في المجرم بائسا أكثر مما أرى فيه مسؤولا. يهمني لاندري لأنه خادع (هو مجرم فرنسي كبير أعدم سنة 1922، كما أنه ألهم الكاتب رامون غوميس دي لاسيرنا كتابه el chalet de las rosas سنة 1923. المترجم): أفظع السفاحين هو رجل عادي، وليست في سَمته أدنى بشاعة. إنه موظف الجريمة.
لا نحفظ أسماء الضحايا نهائيا. لكن، من يمكنك أن تذكره منها؟
شارلوت كوردي. صحيح أنها أولا مجرمة، وفي ذلك انتهاك مضاعف، لكونها امرأة (كان من المفروض أن تمنح الحياة وليس أن تنفث الموت) ولأنها قتلت مارا "أب الشعب"، (ثوري فرنسي معروف، كان طبيبا، فيزيائيا وصحفيا أيضا، عرف بدعوته لاستئصال أعداء الثورة. قتلته شارلوت سنة 1793 في بيته بباريس مدعية أنها تريد أن تخلص الناس من أحد كبار المحرضين على القتل. المترجم). لكن قاعة أخرى في المعرض تظهر التحولات العجيبة التي ما برحت تعرفها صورتها على مر التاريخ. من المدانة إلى منصفة وشهيدة. عذراء، حسناء، بطلة، أرستقراطية نورماندية، وميرا هو الذي تحول شيئا فشيئا إلى شرير. وقد انقلبت فيما بعد، مرة أخرى، صورة شارلوت كوردي. وصارت مشؤومة. وقد وظفها كل من بيكاسو ومونك لتصفية حساباتهما مع الجنس الأنثوي.
بين الجريمة والعقاب، هناك لحظة وسيطة هي المحاكمة. لكن الفضاءات المخصصة لها في المعرض قليلة جدا. لماذا؟
طالما كانت المحاكم والمحاكمات موصدة في وجه عموم الناس، في حين أن إنزال العقوبات كان عموميا. انقلبت الأمور في القرن العشرين: وتُقدم دعاية هامة للمحاكمة، لكن تنفيذ الحكم صار سريا. فماذا يُظهر دومييه؟ أضحوكات عدالتنا الإنسانية تحديدا. أما البورتريهات الأكاديمية لكبار القضاة، فإنها تحوي جانبا مخيفا. فهي توحي بعنف "هادئ" وحازم.
لنعود إلى الصور. من هو بالنسبة إليك أكبر قاتل في عالم الرسم؟
لم يستطع كاندينسكي أن يبلغ التجريد المحض أبدا، مهما كان قوله عنه. أفكر في ديشون (Duchamp) الذي اختار أن يقلع عن الفن. أو في بيكاسو "مصفي الحسابات" كما أطلق عليه روجي كايوا. يختم المعرض مع ذلك بمنحوتة "رأس على ساق" لجياكوميتي سنة 1947. وكأنه يستحيل على الإنسان المعاصر أن يتصور وجها في هيأة أخرى من غير الاحتضار. يبدو لي أن إرادة الرجوع إلى التجسيد، البورتريه، الوجه، بعد عدد من الأجساد المقطوعة الأعناق، المبتورة الأعضاء والمقوضة، يعتبر اليوم مغامرة كبرى للفن، بدءا ببالتيس وانتهاء بفرويد (الرسام البريطاني وليس سيغموند "مستقبل وهم". المترجم)...