راجي عنايت في كتابه ديمقراطية جديدة لمجتمع المعلومات
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أخطر وسائل منع الفهم الانطلاق من نظرية أو أيديولوجية أو عقيدة
محمد الحمامصي من القاهرة: على مدى نصف قرن، عايش الكاتب راجي عنايت المئات من المؤتمرات وحلقات البحث والدوائر المستديرة، التي جمعت بين العديد من الأذكياء الجادّين، الساعين بصدق لحلّ مشاكل مصر، والبحث عن مستقبل مضيء لها، وقرأ مئات المقالات الجادة عن هذا في صحافتنا، وفي كتابه الصادر عن دار العين أخيرا بعنوان "ديمقراطية جديدة لمجتمع المعلومات" تتجلى خلاصة رؤيته، حيث يؤكد أن الواقع المرير يقول إن خلاصة الآراء والأفكار والسياسات التي توصّل إليها هؤلاء الأذكياء، جاءت عقيمة، ولم تنجح في تشخيص المشكلة الحقيقية، ورسم الحلول العملية الواقعية، والسرّ وراء هذا كلّه، وسائل منع الفهم التي تشيع في حياتنا الفكرية!.
ويورد عنايت جانبا من وسائل منع الفهم، "التي تمنع إدراكنا لأبعاد عملية التحوّل الكبرى التي يمر بها كل شيء في حياة البشر، ومن بين ذلك الممارسة السياسية ومؤسساتها": أولا ليس المزيد ممّا كان: يعوق فهمنا لما يجري، اعتبار أن الآتي هو المزيد - أو الأقل - ممّا كان. أي أن الأمر مجرّد تغيّر كمّي، يجوز فيه الخضوع لنفس المبادئ والقوانين التي اعتمدنا عليها، على مدى القرنين الماضيين، وحقيقة الأمر أننا بصدد نسق حياة جديد تماما، تقوم على مبادئ وأسس جديدة في جميع المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. والفشل السائد - عندنا وفي معظم المجتمعات البشرية - يرجع إلى محاولة فرض حلول تاريخية على واقع مستجد. وفهم طبيعة مجتمع المعلومات الجديد، تفسّر لنا سر المشاكل الحالية المتضخّمة، في الاقتصاد، والتعليم، والممارسة السياسية، والإدارة، والأسرة.
ثانيا تشابكالظواهر: كما يعوق فهمنا، تصوّر أنه من الممكن النظر إلى كلّ جانب، ودراسته بشكل جزئي بمعزل عن الجوانب الأخرى، كأن يتصور الإنسان إمكان البحث عن حلول مستقبلية للتعليم، دون معرفة مستقبل اقتصاد عصر المعلومات، واختلافه عن اقتصاد عصر الصناعة، وهذا هو الخطأ الذي يقع فيه الوزراء بحكم تخصصهم، عند تصوّرهم إمكان حل كلّ مجال على حدة، دون إدراك لتشابك الظواهر المستجدّة، ولهذا تتكرر دعوتنا للتوصّل إلى رؤية مستقبلية شاملة لمصر، تنبع منها إستراتيجياتنا وخططنا في كل مجال، وتتحدّد بها أولوياتنا في التطبيق.
ثالثا المصطلح كائن حيّ: ومن أسباب الخلط، اسـتخدام الكلمات والمصطلحات بمعانيها القديمة، دون الاتفاق عن معانيها الجـديدة في ظل المجتمع الجديد. كلمة "الديمقراطية" قد لا تعني شيئا في مجتمع قبلي، ولكنها تعني الشورى في المجتمع الزراعي، وقد ابتدعت القيادات الفكرية لعصر الصناعة نوعا جديدا من الديمقراطية، ينسجم مع درجة تعقّد الحياة وتركيبها، أحدث شرخا في جسم سلطة اتخاذ القرار دخلت منه أعداد من الطبقة المتوسطة، لم يسبق لها أن دخلت ذلك المجال، وكانت تلك ديمقراطية التمثيل النيابي. واليوم، تفقد هذه الممارسة الديمقراطية جدواها في كل أنحاء العالم، وبدأ المفكّرون في البحث عن أشكال للممارسة الديمقراطية تناسب المبادئ والأسس الجديدة لمجتمع المعلومات، وبدأنا نسمع عن الديمقراطية نصف المباشرة، وديمقراطية المشاركة، والديمقراطية التوقّعية.
رابعا الأيديولوجيات السابقة: من أخطر وسائل منع الفهم، الانطلاق من نظرية أو أيديولوجية أو عقيدة سابقة، نبعت من ظروف مجتمعية تختلف عن الظروف الراهنة. يتّصل هذا بأهم أركان التفكير الناقد، الذي يلزم بمراجعة الافتراضات الأساسية التي تقوم عليها أي نظرية أو عقيدة أو نظام أو مذهب، للتثبّت من أن تلك الافتراضات ما زالت قائمة وسليمة.
مثال ذلك، ما نشهده حاليا من حديث عن السقوط النهائي للاشتراكية، وانتصار الرأسمالية، مع كلّ ما تعانيه الرأسمالية حاليا من مشاكل غير مسبوقة، يستحيل الوصول إلى حلّ لها، دون إجراء تعديلات غير مسبوقة، تفقدها الصلة بشكلها التقليدي، والسبب هو أن الاشتراكية والرأسمالية هما معا وجهان لعملة واحدة هي المجتمع الصناعي، وأن هذه العملة ترفع حاليا من التعامل، بعد أن بدأنا الدخول إلى مجتمع المعلومات. النظريات والقواعد التي وضعت لمجتمع رعوي أو قبلي أو زراعي، لا يصحّ أن يأخذ بها أبناء المجتمع الصناعي، وكذلك لا يصح لأبناء عصر المعلومات أن يأخذوا بأي نظم أو نظريات أو عقائد نابعة من مجتمع سابق، إلا بعد التثبّت من أن الافتراضات التي قامت عليها ما زالت سليمة.
خامسا التغيير متكامل: من الأمور التي تسبب لنا الكثير من الخلط الفكري، وتعوق فهمنا لما يجري حولنا، تناول عنصر واحد من عناصر التغيير، ومحاولة تصوّر المسـتقبل من خلال ذلك، دون أن ندرك أن التغييرات تتبادل التأثير فيما بينها، لا قيمة لجهد أي وزارة من الوزارات، في مجال إعادة البناء من أجل العبور إلى مجتمع المعلومات، على مدى نصف القرن الماضي، تعددت المشاريع الوزارية في هذا المجال، دون أن تنجح في تحقيق هدفها. في زمن التغيير الشامل الذي نعيشه، لا يمكن لوزير التعليم - أي وزير - أن يعيد بناء العملية التعليمية دون أن يتم هذا بالتنسيق المحكم مع العمليات المناظرة في الاقتصاد والعمل والممارسة الديمقراطية.
لو نجح وزير التعليم - بمعجــزة - في التحوّل من تعليم التلقين الذي نعتمده، إلى التعليم القائم على التفكير الناقد والابتكاري، أو التعليم خالق المعرفة، إذا تم هذا دون أن يتم التحوّل من العمل القائم على العمالة العضلية إلى العمل القائم على العمالة المعرفية، فستكون النتيجة بطالة بنيوية شاملة.. والعكس صحيح. كذلك سينهار المجتمع لو أتاح التعليم أجيالا تفكّر وتناقش وتبتكر، بينما بقيت ممارستنا الديمقراطية على حالها من الشكلية والادعاء، لهذا، كنت أقول دائما: لا يكفي أن نحصر مؤشرات التغيير الحالية لنفهم طبيعة الحياة التي نمضي إليها، بل لا بد من أن نفهم جيدا التأثيرات المتبادلة بينها.
ويشدد عنايت على أهمية رصد مؤشرات التغيير الحالية التي تمر بها البشرية، ثم محاولة فهم طبيعة العلاقات متبادلة التأثير فيما بينها، الأمر الذي يتيح نتبين معالم مجتمع المعلومات الذي نمضي إليه، و"يسمح لنا بوضع رؤية مستقبلية شاملة تفيدنا في فهم حركة الأشياء المركبة، ونحن نعبر من عصر الصناعة إلى عصر المعلومات".
ويضيف: الرؤية المستقبلية، هي التي ستتيح لنا أن نستنبط صورة الحياة القادمة في أي مجال من مجالات حياتنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، دون أيّ تناقض في تصوّراتنا المختلفة. وهي التي تتيح لنا وضع الإستراتيجية العامة لإعادة بناء مصر، ووضع الإستراتيجيات الفرعية، والخطط طويلة المدى وقصيرته، وفق الأولويات المناسبة لقدراتنا.
ويرى أن ذلك يتطلب نوعين من التفكير: التفكير الناقد، والتفكير الابتكاري، الأول يتيح أن "نتثبّت من صلاحية الافتراضات القديمة أو السابقة، التي نبني عليها أفكارنا، ويتيح لنا أن نختبر مدى مصداقية تلك الافتراضات في الزمن الحالي: هل يجوز لنا أن نعتمد عليها الآن، أم أنها فقدت صلاحيتها، وأخلت السـبيل لافتراضـات جديدة؟ كذلك يساعدنا التفكير الناقد على اكتشاف السياق الذي خرجت منه الممارسات والنظريات والأفكار والقيم، التي نستند إليها في حياتنا، ويحضّنا على اختبار ذلك السياق لمعرفة مدى مصداقيته الحالية، ومن ثمّ مدى صلاحية الأفكار التي نبعت منه".
والتفكير الابتكاري، يتيح أن نتخلّص من قبضة مسارات التفكير التقليدية التي لم تعد تتيح الوصول إلى حلول للمشاكل المستجدّة في حياتنا، وهو الذي يتيح لنا أن نتخلّص من سـيطرة المخطط العقلي الذي فرضته علينا نظـم مجتمعية سابقة، والذي قام على أسس تاريخية منقضية.. لكي نبحث عن رؤى جديدة، ونلتزم بمسارات في التفكير، لم نكن نعتمد عليها من قبل.
والوصول إلى الرؤية المستقبلية الشاملة كما يرى راجي عنايت يتم من خلال رصد مؤشّرات التغيير الأساسية في حياة البشر الراهنة، وبخاصّة المؤشرات المتنامية متزايدة التأثير (مثال ذلك في تحولنا إلى مجتمع المعلومات: التحوّل من المركزية إلى اللامركزية، ومن العمل الجسدي إلى العمل العقلي، ومن النمطية إلى التنوّع والتفرّد، ومن الدولية إلى العالمية.. إلى آخر ذلك)، والتعرّف على التأثيرات المتبادلة بين مؤشرات التغيير الأساسية (مثال ذلك أثر شيوع العمل العقلي، في مكان العمل العضلي الذي ساد عصر الصناعة.. أثر ذلك على التعليم، وعلى الاقتصاد، وعلى الممارسة الديمقراطية)، والتوصّل إلى إطار المجتمع الجديد الذي يتشكّل، وإلى خصائصه المتميزة، وإلى اختلافه عن المجتمعات التي سبقته، مثل الزراعة والصناعة، ودراسة أثر هذه الخصائص على حياتنا الاجتماعية والاقتصادية والسـياسية، بما يتيح لنا أن نكوّن رؤية مسـتقبلية واضحة لكل شيء في حياتنا: التعـليم، والاقتصـاد، والعمل والعمالة، والإدارة، والأسـرة، وطبيعة الممارسة السياسية، وأيضا طبيعة القيـم السائدة.
وفيما يتعلق بالرؤية المستقبلية لمصر فيشير عنايت إلى أن ذلك يقتضي التعرّف على الواقع الحقيقي للحياة على أرض مصر، ممّا يحتاج إلى: أوّلا: معرفة حقيقة الأوضاع الحالية في مصر، بعيدا عن دعايات وأجهزة وإعلام النظام الحاكم، والدعايات المضادة في نفس الوقت. وبذل جهد علمي شاق للوصول إلى الأرقام الحقيقية في كل مجال، وثانيا: رسم خريطة حضارية لشعب مصر.. توضّح إلى أي مدى ما زلنا نمضي في حياتنا وفق عقلية وقيم عصر الزراعة، وإلى أي مدى تشيع قيم عصر الصناعة، وعمّا إذا كنّا قد بدأنا العبور إلى قيم عصر المعلومات، (هذه مسألة تحتاج إلى توضيح، فمن الممكن - على سبيل المثال - أن تقود سيادة قيم المجتمع الزراعي إلى إضعاف أثر الاعتماد على تكنولوجيا المعلومات، عند وضع إستراتيجية التحوّل إلى مجتمع المعلومات).