ثقافات

زمنٌ في المرايا

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

-1-

فجأة ً كان معي، ربّما التقينا مصادفةً في مقهى صغير. وقف قبالتي أشبه بالممثل شون كونري في سنواته الأخيرة. اللحية وتسريحة الشعر، وكذا العينان. بدءاً اختلط عليّ الأمرُ، ما الذي جاء ب"كونري" الى هذا الحيّ الشعبي في حنية من حنايا بغد ادنا أيام الخمسينيات من القرن الماضي. لم يجلسْ، ولا أظنني كنتُ جالساً. بعد لأيٍّ تعرفته، بل هو الذي تقدّم نحوي واحتضنني. سألني عن الوضع العائلي وعني. وسألته: ما الذي جاء بك الى هنا؟. / المصادفة هي التي ساقتني اليك، أجاب بسرور. جئتُ أتسوّقُ، أحياناً أنسى أكثر الأشياء التي جئتُ من أجلها. على الرغم من الحاح زوجتي على تدوينها في ورقة. الا أني أرفض، مدعياً أنّ ذاكرتي لم تزل طريّةً. حين أصلُ الى السوق تتبدد الأشياء كلها أو بعضها. / ما الذي تشتغل عليه الآن؟ تساءلتُ. / ردّ ساخراً: لا شيءَ، أرسُمُ أحياناً، وأكتبُ حيناً. وأشربُ ليلاً حتى أفقد وعيي.. / لا يُعجبني هذا، قلتُ بحزن. / سكتَ هنيهة ً، ونظرني منكسراً، وتمتم: أنا مضطرٌ الى ذلك. نهاراً أنسى مصائبي في زحمة العمل، وليلاً تتفاقم عليّ الهموم. ويزحمُ صدري بالبكاء على ولديّ. فقبل عشرين سنة جاءوا ليلاً وقيّدوهما واقتادوهما الى مكان مجهول. وكم بذلتُ من جهد لمعرفة مكانهما فلم أفلح. كانت جميع المنافذ موصدة في وجهي ومختومة بالأحمر. كنتُ مستعداً لبيع البيتين والتخلي عن كلّ ما أملك لاطلاقهما، بل مستعدٌ للتضحية بحياتي من أجلهما. وكلّ مساعيّ ذهبت عبثاً، ولم يبقَ لديّ سوى طاحونة الحزن التي لم تتوقف أبداً. لذلك أدمنتُ على الشرب كي أنسى وجعي. / لم اُعلّق على قوله. فمصيبته ليس لها حدٌّ. اختفى ولداه، وكانا في المرحلة الأخيرة من دراستهما. الأكبر في كلية الطب، والصغير في كلية الهندسة. وبدأنا نجري في أحشاء السوق بعشوائية. تصعدُ من حولنا أصواتُ الباعة، عياطُ الناس، بكاءالأطفال. وعرفتُ منه خلل تجوالنا أنه يحمل الآن شهادة الدكتوراه في علم النفس. وتخلى عن اختصاصه في علم التأريخ، كما أنه أشتغل في تحقيق عدد من دواوين الشعر القديمة. من بينها. اذا لم تخني ذاكرتي، ديوان الشاعر صالح بن عبد القدوس. كان من مطلع أيام شبابه كلفاً بمدرسة فرويد النفسية، وتخصص في احد مجالاتها. وفيما كنا نجتاز ممر السوق المكظوظ بحاجات الناس وبهم، سمعته يقول: لدينا ضيوفٌ في المساء، وينبغي أن نحضر لهم عشاءً، علينا أنْ نفترق، لعلّ مصادفة اُخرى ستجمعنا ثانية. / صافحني وغادرني، بل ابتلعه زحامُ السوق. وتساءلتُ بيني وبين نفسي: ما الذي جاء بي الى هنا؟ فلا تربطني أيةُ وشيجة بهذا المكان. / ففي تلك الزاوية مقهى صغير يؤمه الحمّالون وعابرو السبيل، والمتعبون، ووجدتُني فجأةً الى جوارهم،أطلب استكانةً من الشاي، وحين لمحني صاحب المقهى انشرحت اساريره وسمعته يُخاطبني: الستَ الاُستاذ (. . . . )؟. نعم، أتعرفني؟. / أجل، درستني في الإعدادية. / وعرفتُ منه أنه أكمل الدراسة الجامعية واختصّ في اللغة الإنجليزية، وعمل مدرساً طيلة إثني عشر عاماً. ثم ترك سلك التعليم حين طلبوا اليه أن ينتمي الى حزبهم. رفض بشدة، لأنه يكره السياسة. وآثر أن يكون بين الناس ومعهم. انه الآن سعيدٌ بينهم بعمله. ينبض كيانه بمحبتهم. . .

-2-

كانت تبكي بحرقة. دموعها تبلل خديها. وليس أصعب عليّ من رؤية دموعها. تُرى لمَ تجهشُ وتذرفُ الدمع؟ لقد تحرّش بي أحدهم. وأنا لا أعرفه، ظلّ يُلاحقني ويسمعني كلاماً سوقياً. / احترق دمي، قلتُ: سوف القنه درساً، أين هو الآن؟ / أشارت بيدها: هناك. / لكنْ، منْ هو؟. / اسمه ( ص)،أهلُ المنطقة يعرفونه. / اذهبي الى الجامعة وأنا سأقوم بواجبي. / صحتُ بعصبية. كنتُ مذ طفولتها لا اُطيق بكاءها، بل كنتُ، حين يعتدي عليها أخواها، اُشبعهم ضرباً. بدأتُ أبحثُ عن (ص). وتلقيتُ إجابات مختلفة عنه:/ لقد ركب سيارته ومضى. / قال آخرُ: لقد طوقه أفرادُ الشرطة، بعد أن تحرّش بامرأة، واعتقلوه. انه الآن موقوفٌ. / اثناء ذلك خرج شرطي من الموقف واعتلى دراجته، متأبطاً عدداً من الأوراق. سمعته يقول: سآخذ اعترافه الى القاضي. / اذاً، لن أستطيع معاقبته، إبانئد مرّ الى جواري صديق، ورآني محتدماً غاضباً، وضع يده على كتفي وسمعتُ صوته: القانون موجود وكلّ أحد تحت نظره، وسيُعاقب (ص). سيلقنونه الدرس الذي يستحق. / ثم بدأنا نجري معاً، ولجنا السوق، اختلطنا بجموع الناس، وفيما كنا نتحدّثُ ونتطلعُ الى واجهات المحال اختفى كلّ شيء ورمتني المصادفة الى بيتنا القديم. وعاد ابي قبيل الظهر. لمَ عدتَ مبكراً يا أبي؟ / مريضٌ، عرتني حمّى وصداع. / اذاً، خذ راحتك ونم. / لا أستطيع النوم، واشعر بالجوع. / ذهب الى الغرفة الثانية، وعاد بعد قليل. حاملاً صينية تنطوي على شرائح خبز وجبن. وضعها على البساط، وجعل يأكل. أثناء ذلك، وعلى عجل، هيأت له الشاي، وبدأ يشربه بعد أن اتى على ما في الصينية. لكنْ، كيف عاد وقد غيّبه الموت من ثلاثين سنة. لم أجرؤ أن أسأله كيف آبَ من زمن اندثاره. الا أنه لحظني، بل شزرني، وهمس بلا مبالاة: كلّ شيء جائزٌ في الحلم، انه الفسحةُ الفريدة التي يلتقي فيها الغائبون بذويهم. على الرغم من كونهم صاروا غباراً. / وقبل أن أسأله سؤالاً آخر رفع يده وضرب الهواء، وسال صوته: انها الذاكرة. وهي حياة ٌ لها سخونتها وكينونتها وقرارها. وما يجري فيها هو ذاته يجري في متون الحياة. فلمَ أنت غبيّ لا تعي؛؛ / ويغيبُ أبي وبيتنا، وأجدني برفقة صديقي الذي التقيته في المشهد السابق. ما زلنا في أحشاء السوق، حين مررنا أمام بائع الفاكهة استرعت انتباهه حبة رمان كبيرة منشطرة الى نصفين. اشتراها، أعطاني نصفها، وبدأنا نتناولها حبةً حبةً. كانت ذات مذاق العسل. لكنه بغتة ً أخرجني من زحمة السوق، وجرّني الى قاعة تكتظُ جدرانها بلوحاته. ثمّ طلب اليّ أن أفتتحه. ولكزني بخفة: هيّا، أنت أفضل منْ يفهمني. . هززتُ رأسي موافقاً. ازدحم المكان بالناس، جاءوا من كلّ فجّ. وخلال تجوالي داخل الصالة كانتِ البصرةُ شطاً ونخلاً وشناشيل ونهيرات ووجوهاً. تزدان بها الجدران. الله؛؛ البصرة هنا، في صقع من أصقاع حلمي. قبل أنْ يطولها الخرابُ. تكتظ حيواتها وشخوصها وحاراتها بالضوء واللون والمشاعر، الا أنّ لوحاته، الإنطباعية، تداعت الى الماوراء، قبل أن تشوّه معالمها الحروبُ الشرسةُ، وتقطع شرايين الحياة فيها. انسحبتُ الى زاوية وبكيتُ، وتساءلتُ مع ذاتي: أين هي البصرةُ التي في هذه الرسوم من البصرة في هذه الأيام وهي تتمرأى لنا عبر الفضائيات كما لو كانت مؤل دمار، انقاض حروب، مزبلة تعرّسُ بين سكانها، تنتمي الى العصور الحجرية؟. حين رآني صديقي وأنا أجهشُ احترم وضعي، ومنحني فرصةً للتنفيس عن كربتي. الهي؛ ما أبدعَ فرشاته، وما أدقّ خطوطه وألوانَه وخياله ؛؛ لقد خلّد البصرةَ، صنع منها اُسطورة. . ثمّ أحاط به عددٌ من الصحافيين والمعجبين. ظلّ يجيبُ عن أسئلتهم. واستغللتُ هذه الفرصة لأنسحب من المشهد. عدتُ ثانية الى المقهى لأحتسي استكانة اُخرى من الشاي، وأحسستُ أنّ كل ما يتراءى لي ليس سوى شطحة حلم. ظهرت مثل ومضة واختفت. لكنّ ذاكرتي المثابرة اليقظة ستحتفظ بكل حيثيات تلك المصادفات، وبكلّ لوحاتها المدهشة ما حييتُ. . .

-3-

كلّ الزمن مفتوح أمامي، أحلامي وتداعياتي ترحل بي الى الماوراء، الى سرابيل الطفولة واليفاعة، وبوسعي أن اُلقي عصا الترحال في أيّما زاوية وحنية. يحملني الخيال وأحلام اليقظة الى تخوم المستقبل، الى قاعه الملتف بالغبار وبالضباب، وفي مُكنتي أنْ أتبين طريقي فيه. لكنْ، لمَ المجازفة وغشيان مجاهل الغد؟ فثمةَ في جنبات الماضي مشاهد خالدة حيّة تعصى على النسيان. ذا أنا مع جميل "أحمد كوزجي" عاد من سجى اندثاره. من طيات تربِ رميمه المنسي. رأيته مثلما كان، وأنا مثلما كنتُ. انتظرته أمام بابهم حتى خرج. نزل الدرحات الثلات. صافحني وقبلني. ومضينا تُجاه المجزرة القديمة. ورمتنا خطانا الى الفضاء الفسيح خلف محلتنا. كما لو كنا في أيام فتوتنا الاُولى. حيثُ نقرأ ونحفظ دروسنا، ثمّ نسبح في البرك المتبقية من مياه نهر الخاصة أيام كان يفيض، أو نهرول قرابة ربع ساعة. بعد ذلك نغني. هو يُغني بعض أغاني أخيه "عبد الواحد كوزجي". كنا، أنا وهو، مولعين باُغنية" القلعة" لأخيه ( لو كنتُ حجراً عند أسفل القلعة لصرتُ صديقاً لكلّ آيبٍ وغادٍ ). حين ينتهي من الغناء يتلو آيات من القرآن مقلداً صوت المقريء البغدادي محمود عبد الوهاب. كان صوته قويّاً شجيّاً يدق شغاف القلب. حين ينتهي يتوسل اليّ أن اُغني له اُغنية ليلى مراد" أنا قلبي دليلي". أو اُغنية "على غصون البان" لمحمد عبد الوهاب. خلال ذلك يلتم حولنا رفاقنا الذين هم معنا في المدرسة. ونعود معاً الى بيوتنا. لكنْ منْ جاء بجميل؟ لقد مات من زمن بعيد. توفي ولم يزل في ميعة شبابه. مرةً زرت مدينتي وعنّ لي زيارة محلتنا القديمة. وأرى بيتنا القديم الذي ما فتيء يقض مضجعي كلّ ليلة. حين وصلتُ الى بيت جميل. كان على يمين الباب دكان صغير اُقتطع من احدى غرف البيت. ثمة شاب كان يجلس. وقفتُ قبالته، وسألته عن جميل. غشيه الكمد، ووصلني صوته الهامس: لقد توفي. لكن من أنتَ؟ / أنا صديقه / ومنْ أنتَ أيّها الشابُ؟/ ابنُ أخيه كمال. / يا الهي ؛؛ كيف يموت هذا الجميلُ خلقاً وابداعاً وحضوراً؟. في مدرسة مصلى الإبتدائية كان صوتُه يخترق جدران قاعة الدرس، يصل الى مسامعنا ونحنُ في القاعات المقابلة. ومعلمنا الجليل أسعد النائب يدرسنا التأريخ والرسم والتربية الدينية، ويقسم نصف الدين للمحاضرة والشرح ونصفه الآخر لتلاوة القرآن. ونسمع صوتَ جميل يصدح في كلّ مكان. لكنْ، لمَ عدتُ الى محلتنا القابعة في قاع ماضينا البعيد؟؟ حتماً أنّ ملاذاتنا القديمة أشبهُ بندبة جرح عميقة ملتصقة بنا، مضى عليها أمدٌ بعيد. كيف نهربُ منها، وكيف تهربُ منا؟ ذا أنا بمعية جميل نرتقي درجات القلعة الإثنتين والسبعين، المطلة على نهر الخاصة. عند نهايتها نقفُ ونلهثُ من التعب. غريبٌ، كيف نلهثُ الآن وما كنا نُحسّ بالتعب في سني أيامنا الغابرة. من هنا نرنو الى الجسر الحجري قبل أن يُزال من الوجود، يربط بين صوبي المدينة. بوسعي أن أرى نهاية الجسر والساحة التي تتصل بثلاثة شوارع وفتحة الجسر، وكابينة شرطي المرور وسط الساحة. أمّا شارع المجيدية فكأني استطيعُ احتضانه من مكاني هنا. أكاد اُعرف عدد دكاكينه ومحلاته وأسماء أصحابها، من مبتدأ الساحة حتى مبنى القشلة البعيد. ولديّ بصر حادٌ يريني المركز الثقافي الأمريكي على اليسار، كنتُ أيامئذ استعير منه الكتب العربية والإنجليزية المبسطة، أذكر منها " الفتيات الصغيرات" ولا أتذكر اسم الكاتب. والى جوار المركز زقاق يُفضي الى ملهى الفارابي، يصدح فيه ليالي الصيف صوتُ المطرب المصري محمد عبد المطلب. ومن مكان آخر قرب سينما الحمراء يصلنا صوتُ زوجته نرجس شوقي. وعلى مبعدة أمتار من ذلك الزقاق مكتبة ُحلمي ومكتبة اُخرى نسيتُ اسمها. كانتا متجاورتين ومعلمين من معالم كركوك. وأكاد ارى، من هذا العلو، المكان الذي اضع فيه كرسياً يجلس عليه عبد المطلب أمام دكان الخياط جمال خضر باغوان الذي اعمل عنده في العطل الصيفية، وهو أحد اُشقاء زوجة أبي. أتذكر هذا المطرب ذا القوام النحيف والشعرالأسود والحاجبين الكثيفين والشارب النحيل والخلق الرفيع. كان مولعاً بتلميع حذائه، ولا يمرّ صابغ أحذية الا ويطلب اليه أن يمسح الحذاءين، وينفحه عشرة فلوس، ربّما كان يروم مساعدتهم بهذه الطريقة المهذبة. . اللهُ يا جميل؛؛ اين رميتني وحملتني؟ توغلتَ بنا في أزقة القلعة، نمتع ناظرينا بتأمل الأبواب الأثرية ذات الاُطر المرمرية المكتظة بالزخارف والرسومات والأزاهر. وتلج بنا بيتاً قديما مهجوراً من بابه المفتوح. ونصعد الى سطحه عبر درجاته الحجرية الصلبة. من هناك، من أعلى سطح في المدينة نُجيل أبصارنا خلل جسد مدينتنا. ولاسيما صوب القورية. في مُكنتا أن نرنو الى نيران بابا كركر الأزلية. وبيوت عرفة، و" تلال ملا عبد الله" على الميمنه، ومحطة القطار على الميسرة. وبساتين" كاور باغي" أمامنا، ما بين سكة القطار الصاعد الى أربيل وبين نهايات القورية. وفيما كنا نمتع عيوننا بخلائق مدينتنا التي كانت بالنسبة الينا أجمل مكان في الدنيا سألني جميلٌ بحزن كما لو كان يٌريد أن يختتم هذه الجولة الماتعة: منْ جاء بنا الى هنا، أنا أم أنت، أم مصادفة ٌ عابرة؟ قلتُ: انها الذاكرة، فحين يساورنا الملل نهرب الى أيّ مكان، ولا ملاذ لنا أجملُ واصدق وأكثر وفاءً من متون الذاكرة. . . .

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
امالنا الباقية
عبد المسيح ملكو -

ما لنا الا ماتعكسه مرايانا لنا .وصفك لفتاتك =البصرة=و لاغنيتك المفضلة =القلعة=فاق في نظري ما قاله جميل في بثينة.طوبى لمن له مداد كمدادك.