ثقافات

شعراء ونقاد يتحدثون عن مغامرة الشعر المغربي اليوم

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

عبد اللطيف الوراري:

1.الشعر أوّلاً، من أجل المستقبل وابتكار لغة جيدة:

بعض المشاركين من الشعراء والنقاد في "أمسيات فاس الشعرية" التي ينظّمها بيت الشعر في المغرب

طوال أيّامٍ ثلاثة بفاس العامرة، 21 و22 و23 من ماي 2010م، نظّم بيت الشعر في المغرب، بشراكة مع وزارة الثقافة وتعاون مع مجلس مدينة فاس وجامعة سيدي محمد بن عبد الله و كلية الآداب و العلوم الإنسانية - ظهر المهراز، أمسيات فاس الشعرية؛ وهو التقليد الشعري الأهمّ الذي استنّهُ البيت منذ سنوات، لأجل إيلاء التعبير الشعري ما يستحقّه من عناية في المشهد الثقافي المغربي، وتقييم مسارات الشعر المغربي والأوضاع التي يمرّ بها راهناً.
وكانت دورة هذا العام ذات اعتبار، أوّلاً لأنّها طرحت لأوّل مرة في تاريخ نقد الشعر المغربي مفهوم الحساسية لمقاربته وتتبُّع مسالك جماليّاته في النصوص، بعدما كان مفهوم الجيل هو المهيمن في دراساته لسنوات طوال، وثانياً لأنّها جمعت التجارب الشعرية والنقدية بمختلف حساسيّاتها ومرجعيّاتها جنباً إلى جنب، في صفاء نادر لا يوحي إلّا بصداقة الشعراء وأخوّتهم.
من فناء متحف البطحاء بمعماره المغربي الآسر، افتتح رئيس بيت الشعر نجيب خداري أمسيات فاس الشعرية بكلمة موجزة أكّد فيها على قيمة مثل هذه الفعاليّات الثقافية في ردّ الاعتبار للشعر والشعراء في المغرب، وعلى سيرورة العمل الجادّ والحيوي الذي التزم به البيت وراهن عليه للغاية نفسها، في مجمل الأنشطة والمبادرات التي استنّها وطوّرها. ومن جهته، أوجز عميد كلية الآداب و العلوم الإنسانية بفاس الأستاذ الجامعي ورئيس البيت الأسبق عبدالرحمان طنكول كلمته بقوله: "لا للسخافة، لا للابتذال ولغة الخشب، ونعم للمستقبل وابتكار لغةٍ جديدة"، مشيراً إلى أن الذين حضروا وجاؤوا إلى فاس لإحياء الأمسيات، هذا هو لسان حالهم.

2.الشعر المهجري بحثاً عن استحقاق آخر للمغامرة:
إنطلقت أولى جلستي الدورة الأكاديمية حول "الحساسيات الجديدة في الشعر المغربي الحديث"، في فضاء المكتبة الوسائطية الكلئنة في قلب فاس الجديدة، بمشاركة الشعراء والنقاد عبد اللطيف الوراري،عبد السلام المساوي، محمد غزال، محمد أيت لعميم. ويوسف ناوري، وأدارها الشاعر والناقد نبيل منصر. في بدء مداخلته التي عنونها ب"عن الشعر المغربي المهجري: منفى الكتابة وأسئلة التجربة"، أشار الشاعر والناقد عبد اللطيف الوراري إلى أنّ ثمّة تعالُقٌ دلاليٌّ، في اللغة العربية، بين مفردات المنفى والهجرة والاغتراب، إذ بينها قرابة واضحة دلاليّاً ونفسيّاً: هناك معنى التنحّي والبعد والنزوح عن الوطن من جهة، وهناك معنى الطّرْد والنّفْي من جهة ثانية. وهذا التّعالُق هو نفسه الذي وجده في أدبيّات المنفى، مُحيلاً على إدوارد سعيد ومنظّري ما بعد الدراسات الاستعمارية. ومتسائلاً عن أدب المنفى أم أدب المهجر، قال الوراري إنّه عبر التاريخ الثقافي، كان هناك دائماً حيّزٌ محفوظ لأدب المنفى بتعبيراته المتنوّعة والنوعيّة في الأدب العربي، من عصر إلى آخر، ومن تجربة إلى آخرى، ذاتية وجمعيّة؛ بدءأ من طلليّات الشاعر الجاهلي، ومروراً بكتّاب وشعراء ذاقوا النفي حنظلاً وكتبوا عنه، ثمّ بالمهجر اللبناني إلى أميركا في الربع الأوّل من القرن العشرين، وصولاً إلى ظاهرة المهجريّة حيث تعدّدت المَهاجر، بدايةً من الربع الأخير من القرن العشرين، وانخرط المئات من الأدباء في الكتابة باللغة العربية أو باللُّغات الأجنبية، وقد امتزجت في كتاباتهم هموم أوطانهم بالواقع الذي يحيونه في الدول المضيفة. وبما أنّ المنفى مفهوم مُلْتبس وفضفاض وغير قارّ ويوحي بمدلول سياسي وإيديولوجي لايمكن أن تعميمه على كتاّب المهجر وشعرائه أجمعين، آثر الناقد أن يأخذ بمصطلح "أدب المهجر"، لأنّه يتّسع لأدب المنفى، ويشتمل حتّى على معاني والغربة والنفي والحنين إلي الوطن والإغتراب بالمعني الوجودي، وهي المعاني التي ظلّت ملازمة له، والموتيفات التي وسمته كظاهرةٍ أدبيّةٍ خلال النصف الأول من القرن الماضي وما بعده بتأويلات جديدة. وقال: "يُعاد اليوم طرح السؤال المتعلّق بأدب المهجر، بقوّة وداخل تفسيرات خصبة وحادّة. وصار دراسوه يتحدّثون عمّا أسموه بـ"المهجرية الجديدة" في الأدب العربي، بعد أن هاجر المئات من الأدباء والكتّاب بلادهم إلى دول وفضاءات وعوالم جديدة، في أوربا وأميركا الشمالية وأستراليا. وقد تأثّر هؤلاء بالثقافة والمحيط الاجتماعي الجديدين، ممّا وسم كتاباتهم الشعرية والنثرية في مجملها بسماتٍ خاصّة وجديرة للانتباه. لكن صيغة السؤال تبدو مختلفة هذه المرّة، فالبحث عن سمات وخصائص في نصوص هؤلاء المهاجرين الجدد، قد لا يتأتى بالقدر نفسه من السهولة والوضوح التي استطاع بها دارسو الأدب تحديد سمات أدب المهجر الذي نشأ في بدايات القرن العشرين". وفي هذا السياق، أثار عبداللطيف الوراري موضوع ظاهرة المهجريّة في الأدب المغربي، مركّزاً على أربع تجارب شعريّة مغربية (عبد الإله الصالحي، طه عدنان، محمد مسعاد واحساين بنزبير) تُقيم في المهجر الأوربي، مُنْصتاً لنوع التمايزات بينهم في شكل الكتابة وانبناء الذّات واللغة والمتخيّل والتيمات، ولنوع الموقف الذي يتّخذه كلُّ شاعرٍ من ذاته ومن الآخر، وكذلك من الشعر نفسه. وركّز الشاعر والناقد عبد السلام المساوي، في مداخلته التي لم تبتعد عن روح الأولى، على تجربة طه عدنان كما تمثَّلها في ديوانه "أكره الحب"، وقال في مستهلّها: "وإذا كان الشاعر طه عدنان قد افتتح تجربته الإبداعية المتمردة بالمغرب إلى جوار زملائه رشيد نيني وياسين عدنان وسعد سرحان في حركة شعرية أطلقت على نفسها "الغارة الشعرية"، وهو اسم يحمل أكثر من دلالة، وبشَّر بتوجه جديد في مفهوم الشعر وكتابته، فإن هذه التجربة ستغتني أكثر بعد استقراره في بروكسيل، ليجد نفسه في قلب العولمة وعواصفها العاتية، حيث التكنولوجيا أصبحت بديلاً عن العلاقات الإنسانية". وأشار المساوي إلى أنّ في ديوان طه عدنان (أكره الحب) "مفارقة تصور هشاشة الكائن في واقع أصبح كل شيء فيه عرضة للتسويق والماركتينغ، بما في ذلك القيم والأخلاق والمشاعر والرمزيات. إنه عصر العولمة الذي أُعْلِيَ فيه من شأن الآلة لتصبح حاكمةً على الإنسان متحكمة فيه"، وقال: "إن هذا الديوان ليضعنا في صميم تجربة أدب المهجر، إلا أنه أدب مهجري بطعم آخر يختلف تماماً عن أجواء أشعار جبران ونعيمة وأبي ماضي.. إنها تجربة تشبه نفسها متفاعلة ومنفعلة مع "مهجر جديد".. مهجر بطعم العولمة". واعتبر الناقد أنّ ما يميز تجربة (أكره الحب)، هو الإمعان في تأجيج متخيل الصور الشعرية بأشكال السخرية التي تطول الذات والآخر والأشياء. وفي تجربة العيش في المهجر، لم ينس الشاعر رصد بعض اختلالات هذا العيش، وتتمثل في الكوابيس الحقيقية التي يعاني منها مهاجرون وجدوا أنفسهم بحكم ظروفهم الاجتماعية والأسرية في مهب عواصف الحقد والكراهية والتنكيل، يؤججها متطرفون عنصريون. وفي هذا السياق يستحضر الشاعر نماذج دالة في قالب شعري يميل نحو التكثيف الدرامي واستغلال التقطيع السينمائي في فقرات شعرية متوالية، لا يُعجزِها الإيجاز عن بناء مشاهد درامية متكاملة كما في قصيدة "نينو". وختم بقوله: "ولعل السخرية أن تكون ديدن شعراء قصيدة النثر ومسعاهم في فنّ كان لا بد من تطعيمه بروح العصر، وإثرائه بكل ما يمكن أن يجلب له الجدوى والفاعلية. لقد استعاد الشاعر طه عدنان بتجربته، في هذا الديوان، خاصية الالتزام في الشعر، لكن بطريقة تحفظ للشعر أدبيته، وتضمن للقارئ متعة لا تخفى".

3.معمارية للقصيدة وتعبيريّتها بين الذّاتية والإحساس بالزمن:

الشاعرة أمينة لمريني في قراءة شعرية، ويظهر بجانبها الشعراء إدريس الملياني وإكرام عبدي ومحمد بوجبيري

وفي قراءة مزجت بين المرجعين الصوفي والفلسفي، قارب الأستاذ الباحث محمد غزال إحدى أهمّ قصائد ديوان "قليلاً أكثر" لمحمد بنطلحة، وهي قصيدة "الوجود والعدم"، من خلال شكلها المعماري. في بداية مداخلته التي شدّت أنفاس الحضور إليها، فكّك الباحث معاني أفعال: وجد ـ عدم ـ صدف، واستنتج أنّ "الوجود هواء، والعدم ماء، والصدفة صفير"، وعدّ الدالّ هو حرف المعاني الغائبة، فلا يذكر، كأنّه دالّ الدايزن الهايدغري. المعنى الحاضر ـ الغائب. الأثر المشترك بين الكلمات الثلاث: الوجود ـ العدم ـ الصدفة. إنّه نقطة الدائرة، به تفتح خطوط المعنى وأشكاله، متتبّعاً ذلك من خلال مقاطع دالّة من القصيدة، حيث تكسير الإيقاع وتنقيط المتعرّج المفتوح. وأوضح أنّ القصيدة في بنيتها الروحية مُثلّثة، جاءت على الشكل التالي: الوجود ـ العدم ـ الصدفة، وأن هذه البنية يحكمها ضرورة الصدفة. الصدفة إشراقة المجهول. يقول الشاعر محمد بنطلحة: "عثرْتُ عليها/ بالصدفة/ بين أوراقي/ بدون تاريخ. الخطُّ زِناتيٌّ. وفي الهامش:/ الوجود أريكةٌ/ والعدم صولجانُ". إنّ الشكل الذي يحكم معمارية القصيدة ـ كما ذهب إلى ذلك ـ هو الصدفة التي "لا تخاطب أبداً الأذن وحدها، بل الروح التي انبثق منها. فليست خيالاً خلّاقاً، بل فنتازيا، لا وهماً". وفي المقطعين الأخيرين من القصيدة، وبخصوص التموّج الذي فيها، أشار إلى أن الشاعر لا يقدّم حكمة بل سؤالاً، وقال: "ينجح الشاعر بنطلحة، في نهاية المشهد الكلي للقصيدة، بحشد توليفةٍ مكثّفةٍ في مشهد سردي. توليفة مأساوية ذات تركيب معقد جدّاً كمتاهة في صحراء: فكر ممزّق بين ثنائيات ميتافزيقية مزعجة(بدون تاريخ)، حركة إلى الأسفل توحي بالنزول إلى القبر(وفي الهامش). إحساس بالوطن الضائع، بما هو خطوط، نتذمّر بسرعة مقرفة عند قراءة حروفه، أرقامه، علاماته، رموزه (الخطّ زناتي). شعور يائس بالزمن المتعذّر استعادته (بين أوراقي). خروج في جنازة بوصفه الراحة الأبدية والسكون الدائم (الوجود أريكة). أخيراً، واخيبتاه، السيادة على العالم بالعصا (والعدم صولجان)". وعن الصولجان، قال إنّه رمزٌ كهنوتيٌّ في يد الكهنة ـ الوجه الكريه للحياة، وإن كان مادّياً ليس أكثر من عصا: "الصولجان إرادة مستقيمة، استقامة العصا، حازمة ثابتة، لا تتزعزع. خليط من تاريخ وذاكرة، دين ومدينة، فنّ وعبارة، وسائل وغاية". وعرض الباحث والمترجم محمد أيت لعميم بعض خصائص الكتابة الشعرية الجديدة بالمغرب، متسائلاً: هل حصل تطوّرٌ في الشعرية الجديدة؟ وهل أفرزت حساسيّات نوعية؟، وأشار ـ بعد توطئة لمّاحة أبرز فيها كشوفات قصيدة النثر العربية وما حقّقته على صعُدٍ فكرية وجمالية ـ إلى أنّ أهم هذه الخصائص: غياب العروض والاهتمام بالأوزان الخليلية، وتجاوز الغنائية، ثمّ الابتعاد عن الرؤية الإيديولوجية. وهو يحلّل نماذج من الديوان الشعري المغربي المعاصر، رأى أيت لعميم لدى حسن نجمي في ديوانه "على انفراد" حضوراً لتيمة العمى في استحضاره للشاعر الأرجنتيني بورخيس، ولدى طه عدنان حضوراً للإرث الشُّطّاري، ولدى محمد الصالحي اهتماماً بالكثافة والتشذير وإعادة الكتابة، ولدى ياسين عدنان شفوفاً عن الأدب القيامي، ولدى نبيل منصر حضوراًُ لفكرة الكتاب والكتابة. وختم الباحث مداخلته بقوله: "إنّ التجربة الشعرية الجديدة في المغرب متعدّدة المشارب والمراجع، ومتنوّعة في الاختيارات الجمالية، ممّا أكسبها تنوُّعاً واختلافاً؛ فهذه التجارب وإن جمعتها حساسية جديدة، فإنّها تختلف من شاعر لآخر".
وهو يتنقّل عبر التاريخ الأدبي والفلسفي للقرن العشرين، قدّم الناقد يوسف ناوري مادّة مهمّة نقّبت في معاني الحساسية وما تفرضه من إحساس بالتغيّر الذي لا يطال الزمن فحسب، بل الذّات أيضاً. ومن خلال ديواني علال الحجّام وكمال أخلاقي الأخيرين قارب موضوع " الشعر المغربي والتعبير عن حساسيات الراهن".

4.الحساسية كمفهوم فرضته الكتابات الشعرية الجديدة:
أما ثاني جلستي الدورة الأكاديمية، فقد شارك فيها الشعراء والنقاد محمد بودويك وأحمد العمراوي وعلي أيت أوشن، وأدارها الأكاديمي عبدالرحمان طنكول الذي مهّد لها بتوطئة مفيدة حدّدت ما ينطوي عليه مفهوم الحساسية من قيمة إجرائية تكمن في تجاوزه لطرح التجييل والمقاربة على أساس الجيل، لأنّ الشعر يتجاوز كلّ تصنيف. كما لفت إلى أن هذا المفهوم فرضته الكتابات الجديدة، وساهم في طرحه الشعراء الشباب، كمفهوم يعيد مقاربة الشعر المغربي من منظور مغاير. وقال: "إنّ الموجة الجديدة من اشعراء الشباب تستدعي الحديث عن الحساسية، بقدر الحديث عن "فضاء الأثر" لا عن "فضاء المعنى"، انطلاقاً من نداء مُضْمر، مجهول"، وأضاف "نحن أمام كتابة جديدة قلبت كثيراً من الأشياء، لا هي بيضاء ولا هي سوداء. إنّها تكمن في "فضاء الأثر" الذي خلّفته الكتابات الجديدة، وهو نفسه فضاء مربك ينزاح بالقصيدة إلى الرؤيا، أي ما يتجاوز به الموقف، سواء من الأخلاق أو من العالم وغيرهما. هذه الرؤيا ملتبسة تكتسي طابع السخرية والتباس مستويات الدلالة واختلاط البعد الذّاتي بالبعد الموضوعي". وأكّد، في موجز كلمته الثاقبة، على أنّ هذه الحساسية لا يكتب فيها أو يحتكرها الشعراء الشباب، بل حتّى الشعراء من أجيال سابقة واكبوها وبصمَتْ كتاباتهم، ولعلّ أشهرهم محمد السرغيني ومحمد بنطلحة اللّذان تردّد اسمهما كثيراً في حديث النقّاد، وهو ما جعله يقتنع بأنّ "المعاصرة حجاب، تحجب عنّا التغيُّر الذي يحدث، فيما الحساسية تدلّ على الصمت، بل الصدمة، وتتكلّم الفجوة التي تعبرها وتسمها. بهذا المعنى، يجب أن نلتقطها ونسائلها".
وفي"مدخل حذر وجائع إلى حساسية شعرية مستفزة وشهية"، دشّن الشاعر والناقد محمد بودويك مداخلته بهذا الاستهلال الآسر، قائلاً: "ما أقدر أن الفن بإجمال ومنه الشعر، يستبشع ما صنعته يد الإنسان من غرس لأزهار الشر، ونشر للفساد، وسعي لا يَعْيَا إلى القمع والقتل من أجل إشباع رغبة جَوْعى إلى البطش والاستبداد والرَّهَبوت. قدر الشعر -إذا- أن يقول هذا، ويتخطى باللغة والحلم عالم الخسارة والخسائر. ضمن هذا المنظور، يندرج في -زعمي- جوهر الفن، وجوهر اللغة بما هما جوهران ميتافيزيقيان يرددان، بطريقة أو بأخرى، رؤية شُوبْنَهَاوَرْ، وكلام كيرجارد: (نحن في وجود موجود على حافة الهاوية، إن لم يكن فيها). ومن هنا، توقنا إلى الجمال، والتحرر من أسر الزائل، ولو أن العادي والبسيط -وأحيانا- المبتذل يجد كل توهجه في المتن الشعري الجديد أو في الحساسية الشعرية الجديدة". ولفت بودويك إلى أنّ المتن الشعري الجديد بالجمع والإفراد يكشف أوجاع الذات، وانسحاقها في رَحَى الخييات والخسارات. ويكشف، من جهة ثانية، عن مقوم الإدهاش، سمة هذه التجربة الشعرية بأسرها؛ وأكّد على أنّ هذه التجربة متمردة وعاقة لأنها لا تكثرت للوصايا، وللوعظ والتوجيه، مما يفضي إلى القول بأن قانونها ومعيارها -إن كان لها ذلك، يَسْتَكِنُّ في كيفيات تشغيلها العين، والمخيال، وترويض اللغة، واستنزال مفارقات الدلالة، وتباعدات المعنى الناطقة بأسرار اللغة، البائحة بجراح الذات، وَتَغَوُّلِ الواقع، في إهاب أسلوبي عنوانه: الغرابة والإدهاش المتأتيان من التنافر والتبعيد، وتقليب الجمل، وشقلبة الصورة والتشبيه. وقال:"إنها حساسية شعرية لا تتحدد بالمهمة الشعرية للشعر، بل تُعْنَى باكتشاف العالم، ومواجهته، ورفضه".
ورأى من خلال تأمُّله لبعض الأمثلة الشعرية، أنها تستضمر أصواتاً شعرية ذائعة عالميا ومشرقيا ومغربيا، مثلما تستضمر البعد الوجودي والواقع المغربي المشروخ، بما يفيد تشخيص الذات والواقع المعطوبين ضمن جدلية القلب والإلغاز أحيانا، حيث تجد الفكرة المعروفة: (الواقع أَغْرَبُ من الخيال) كامل تفسيرها في هذا المتن الشعري الجديد. ورأى في "الغارة الشعرية" تجربة لغوية وجمالية مغايرة شكلاً، وشكّلت - في تقديره الشخصي- إلى جانب مُنَاصَصَات أخرى- لاَوَعْي الحساسية الشعرية الجديدة، ونصها الغائب. ولتقريب هذه الحساسية الشعرية الجديدة، وقع اختيار الناقد على عدد من المجاميع الشعرية التي تُوِّج معظمها بجوائز مغربية أو عربية، مثل "لن أساعد الزلزال" لأحمد بركات، "رصيف القيامة" لياسين عدنان، و"كتاب الظل" لجمال الموساوي، و"تفاصيل السراب" لعبد الهادي السعيد، و"ملائكة في السديم" لعبد الرحيم سليلي، و"غمغمات قاطفي الموت" لنبيل منصر، و"طعم لأسماك طائرة" لرشيد منسوم، و"أكثر من جبل" لكمال أخلاقي، و"بصحبة جبل أعمى" لمحمد أحمد بنيس، و"كلما لمست شيئا كسرته" لعبد الإله الصالحي، و"ضجر الموتى" لسعيد الباز، و"ترياق" لعبد اللطيف الوراري، و"الموت بكل خفة" ليونس الحيول.
وأشار محمد بودويك إلى أنّ هذه الكتابات الشعرية تقيم في قلق الحالة، مبلبلة سؤال المؤسسات المستفزة، وهي شعرية منقوعة في ماء الألم والخسارات، تحتضن نصوصاً لاهثة تركض وراء المعنى المنفلت، المعنى الذي يضفي على يباس الوجود وجوداً ملوّناً، ويجعل من الانوجاد بالكون مدعاة إلى الأمل، وحافزا على الاستمرار والحياة.
من جهته، قارب الشاعر والناقد أحمد العمراوي أسئلة الذات والآخر والوجود داخل الحساسيات الشعرية الجديدة في راهن الشعر المغربي الحديث، منطلقاً من سؤال إشكالي: ما الذي يطرحه الشعراء المغاربة المحدثون على ذواتهم، والشعر والقصيدة؟ وحاول أن يجيب عن الاستشكال من خلال فهمه للحساسية بأنّها تعني الحسم مع قوالب الماضي والمسلّمات التقليدية، ومن منطلق أنّ الحساسية الجديدة ارتبط ظهورها بسؤال الكتابة (لماذا أكتب بهذا الشكل؟)، وسؤال الوجود أيضاً، مع الألفية الشعرية الجديدة.
ومن منظور اهتمامه الأكاديمي والبيداغوجي، ربط العمراوي الشعر بالمدرسة، وقال إنّ تلقّي التلاميذ للشعر هو تلقٍّ سلبي وملتبس، بحيث لم يتعرّفوا على الشعر إلّا من خلال الكتب المدرسية التي تكرّس ذلك التلقّي بجهاز قراءة نمطي يرفض التجارب الجديدة، وبالنتيجة لا تزال هذه الكتب تقاوم احتضانها لقصيدة النثر. وإن كان هذا يوحي بشيء فإنّه يبرز خوف المؤسسة من التعامل مع الشعر الجديد، وترى في خصائص الدهشة والالتباس التي يثيرها رفضاً لها ولأعرافها.
وأما الأستاذ الباحث علي أيت أوشن فناقش "التخييل في الشعر المغربي الحديث"، منطلقاً من فرضية أنّ بلاغة الخطاب الشعري تستند على ثلاثة أسس هي: الإنسان والكون واللغة، ومتسائلاً عن مدى حضور الذات المنتجة في خطابها داخل النصوص الشعرية، ومجال التخيُّل الذي تعبّر عنه. واختار الباحث للتحقّق من فرضيّته نصوصاً من المتن الشعري الجديد لكلّ من طه عدنان، وعبدالرحيم الخصار، وعبد الإله الصالحي، وعزيز أزغاي وعائشة البصري. واستخلص أنّ هؤلاء الشعراء يمثّلون تجارب شعرية متباينة، ويستقون من مرجعيّات مختلفة تعتمد على صيغ متنوّعة في الكتابة، وإن كان يجمع بينهم بعض السمات مثل هيمنة الذات المنتجة للخطاب، وحضورها بأشكال متعددة، وتذويب المسافة بين الأنا الواقعية والأنا المتخيَّلة.

5.قراءات، شهادات ونكت:
إلى جانب أوراق الدورة النقدية الأكاديمية، التي لاقت استحساناً وأكّد الشاعر نجيب خداري أنها سوف تُجمع في كتاب، استمتع الحضور بقراءات شعرية لشعراء متعدّدي المشارب وقادمين من أجيال مختلفة، هم: عبد الرحمان بوعلي، وأحمد لمسيح، ومحمد عزيزالحصيني، ومحمد بوجبيري، وأمينة المريني، وحسن الوزاني، وعزيز أزغاي، وفاتحة مرشيد،و سعيد عاهد، وخالد الريسوني، ومحمد أحمد بنيس، ونبيل منصر، وإكرام عبدي، ومحمد بشكار، وكمال أخلاقي، ومحمد مسعاد الذي تعذّر عليه الحضور، وقرأ نصّه بالنيابة عنه الشاعر الزجّال المراد القادري. لكنّ القراءة الشعرية التي خطفت الأضواء وشدّت الأنفاس إليها، هي قراءة الشاعر العابر للأجيال إدريس الملياني، وهو ينشد، مترنّحاً، قصيدة أخّاذة إستحضر فيها روح الشاعر الروسي ماياكوفسكي. مثلما استمع إلى شهادات مؤثّرة في سير الشعراء: محمد الصالحي بين الكتب، وعزيز أزغاي في توتُّر جسده بين الشعر والرسم، وجمال الموساوي داخل أخلاقيّات كتابته والجدوى منها، وعدنان ياسين في ذكرياته الممتعة التي ارتجلها عن ذكرى أخيه طه، وصحبة أستاذه في الرياضيات الشاعر سعد سرحان، ودور "الغارة الشعرية" في الحركة الشعرية الجديدة، ورفاق الجامعة، والطريق من مراكش إلى الجنوب، والصدمة بعد "رصيف القيامة". ولم تخْلُ مجالس الشعراء والنقاد، خلال الأيّام الثلاثة السعيدة، من جوّ المرح والبهجة الذي كانت تؤثثه المستملحات والنكات في لحظات من الانتشاء والاسترخاء، ولعلّ أطرفها أنّ أحداً ممّن دعوا للمشاركة لم يحضر، بدعوى أنَّه لم يأخذ لقاحاً (جلبة بالعامية المغربية) ضدّ الحساسية، في إشارة إلى المرض، لا المفهوم. وأمّا جمهور الشّعر فعُدْواه أفدح.
**

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
Bonne chance
Naima -

Une vie sans poesie, est une vie sans ame.bonne chance a tous nos poetes de qualiteNaima/ Emirats

Bonne chance
Naima -

Une vie sans poesie, est une vie sans ame.bonne chance a tous nos poetes de qualiteNaima/ Emirats

Bonne chance
Naima -

Une vie sans poesie, est une vie sans ame.bonne chance a tous nos poetes de qualiteNaima/ Emirats

Bonne chance
Naima -

Une vie sans poesie, est une vie sans ame.bonne chance a tous nos poetes de qualiteNaima/ Emirats