أحمد نوفل بن رحال أو الفقيه الملحد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
"إن الكتابة تلتحق من تلقاء نفسها، عندما لا تكون رسمية، بـ"الأقليات الهامشية" التي لا تكتب بالضرورة لنفسها مثلما لا نكتب عنها، ولا نتناولها كموضوع، لكنها تجرنا إليها عن كره أو طواعية لمجرد أننا نكتب" جيل دولوز
سمعت بهذا الاسم يتردد على ألسن بعض الأساتذة في التسعينات من القرن الماضي وكان ذلك في أحد مقاهي أزيلال، مدينة مغربية صغيرة، تبعد عن مراكش بحوالى 165كلم. لم أكن حينها، في الحقيقة لأكترث بالاسم ولا الألقاب المثيرة، التي كانت تنضاف إليه، من كل حدب و صوب، بحيث ثمة من ينعته بالفقيه الملحد وهناك من يدعوه بالحداثي المتفقه وآخرون يلقبونه بـطه حسين المغرب. هكذا ظل اسم نوفل بن رحال، مكبوتا في لاشعوري، طيلة ما يناهز عقدا من الزمن ؛ إلى أن شاءت الصدف أن تجمعني بالرجل، وجعلتني الأقدار أحظى بحضور التكريم الذي أقيم على شرفه في كلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة لجامعة القاضي عياض في مراكش، يوم 3 نوفمبر 2000. كان ذلك اليوم، يوما استثنائيا بحق وحقيقي، لاعتبارات عدة منها أني تمكنت فيه أولا من فك طلاسم اللغز المحير الذي حملته معي أكثر من عقد من الزمن، ثانيا لأنني في هذا اليوم المشهود، استطعت أيضا أن أقترب من بنات أفكار نوفل، عبر الكلمة التي ألقاها خلال الحفل كما فُزْتُ منه بتوقيع كتابه "دروس ابن يوسف، مداخلات في الثقافة العربية الإسلامية". وهو كتاب تحملتْ أعباء نشره، مشكورة، لجنة تكريم ذ. نوفل. وقبل الحديث عن هذا الكتاب، أقترح عليكم أن نُعَرِّج قليلا، نحو نص الكلمة التي ألقاها المرحوم، بالمناسبة، إذ تطرق فيها بمنهج تفكيكي متمكن إلى ثنائية الأصالة و المعاصرة مسائلا إشكالية التراث و الحداثة بل و كذا أزمة النخب و المثقف المقيم في برجه العاجي. والحال أن نوفل بن رحال لا يكف يتوجه في كلمته هذه، بالنقد سواء لما يدعوه بالهوية الجامدة غير المتحركة المنقطعة عن الزمان والمكان أو لما يطلق عليه اسم الهوية المنقطعة عن الجذور، تعبث بها الرياح يمنة ويسرة ؛" فإذا كانت الهوية الأولى بتعبيره، زائغة لانقطاعها عن سيرورة التاريخ فالثانية زائفة مهزوزة منبهرة بالغرب وهي في حقيقتها انتهازية و رجعية رغم بريقها الباهت و كما قال ابن الرومي في مثل هذه الهوية المهزوزة ذات البريق الباهت :"فيهم لكنة النبيط ولكن تحتها جاهل الأعراب"
وعلى نحو ذكي يدعونا نوفل بن رحال إلى عدم القطع مع التراث، لأن هذا الأخير ليس مثلما يقدم لنا في وعاء رسمي؛فتراثنا العقلي و الأدبي قبل الإسلام و بعد الإسلام بكثير قد عرف متمردين على الإيديولوجيات الساكنة المتسلطة. إذ إن كل إيديولوجية متسلطة في أي عصر تقابَل بإيديولوجية متمردة تبعا للحتمية الفيزيكية القائلة:"إن كل فعل لا بد له من رد فعل"ولحسن الحظ لا يزال تراثنا محتفظا ببعض تراث هؤلاء المتمردين رغم محاولات طمسه، وقد تعرض بعضهم للتصفية الجسدية، وبعضهم للتعذيب وبعضهم للتهميش. فما بالنا لا نلتفت في تراثنا إلا للجوانب الساكنة، بدل أن نوظف هذه الجوانب المتمردة في معركة التغيير التي نخوضها، فليس كل تراثنا هو المسؤول عن تخلفنا و لكن المسؤول هو إغفال تلك الجوانب القلقة المتمردة من التراث. بهذه النبرة اللغوية القوية، كنت أتابع كلمات الرجل بإمعان، ورويدا رويدا، يزداد يقيني على أني لم أخطئ الوجهة، بل كل ما كان يعتمل في دماغي لعقد من الزمن صار يتحقق ويتأكد في رمشة عين: لقد شرعت أدرك أن الفقيه الملحد يقصد ما يقول، فهو لا يَنْشَدُّ إلى أخطبوط التضليل مثلما لا يغازل أو يداهن أيا كان، كيف لا وهو الذي كان في خضم محاضرته على ما أتذكر يستأذن علانية الحاضرين بمن فيهم الوزراء وغير الوزراء، مصرحا دونما تقزز أخلاقي مقيت أنه في حاجة لأن يتبول (يوحيني سلوكه هذا بمواقف ديوجين الكلبي، الذي انتفض ضد التقاليد و الأعراف فكانت لديه جرأة الاستمناء أمام الملأ، وهي جرأة مكنته من الصراخ في وجه الإسكندر بجلال قدره، طالبا إياه بأن يحيد عن شمسه). إن الرجل بصريح العبارة عاش متمردا أيما تمرد، إذ لا يكاد ينصت إلا لهواجسه ولا شيء لديه يعلو عرش حريته. وفضلا عن ذلك فهو متمكن من النظريات قديمها و جديدها وله من اليقظة الفكرية و الجرأة النادرة ما يشفع له البروز بمحيى مفكر استثنائي. أتذكر في هذا السياق تلك المرة الأولى التي اقتربت منه فيها، كانت مباشرة بعدما أنهى كلمته، بحيث تسللتُ من بين الحشود الهائلة من الطلبة و الأساتذة، الوزراء وأهل السياسة، فحييته طالبا منه أن يوقع لي كتابه سالف الذكر، ففعل و لم يبخل علي بالكلام اللطيف شاكرا لي اهتمامي كاشفا لي ما إن اقتربت منه عن عمقه الإنساني (الشعور نفسه انتابني يوم دنوتُ من الفيلسوف اليوناني " Kostas Axelos " صاحب مؤلف "ماركس مفكر التقنية"، طالبا منه أن يفسر لي بعض المفاهيم الفلسفية و الكلمات اليونانية، بحيث تأكدت من أن العباقرة هم دوما على بساطة عز نظيرها لا في المعرفة فحسب بل أيضا في التعامل الإنساني. وما أدهشني أمام هذا العبقري كونه يجيب عن بعض تساؤلاتي في الوقت نفسه الذي يقر فيه بعدم معرفته لما قد تعنيه هذه اللفظة أو تلك و هو لعمري سلوك ينم من بين ما قد ينم عليه، على نضج و سعة اطلاع كبيرين عند الرجل، خلافا لبعض أساتذتنا الجامعيين، الذين يستبقون جهلهم بالأشياء فيتملكهم التبجح القاتل ؛ تبجح يحول دونما مشافاتهم من عجزهم على الإنتاج وينقلب مع مرور الزمن إلى حقد وضغينة تمتلئ به أنفسهم ضد أولئك الذين أنتجوا و أفادوا واستفادوا: من بين هؤلاء الأساتذة، أتذكر "الكونسيبت " هكذا أصبحنا نناديه أنا وبعض زملائي، بعدما حدث أن التقيتُه ذات مرة وأبان لي في سياق الحديث بيننا عما ينطوي عليه من ذحل ضد كل اسم أذكره له، هو المتخصص في ميشيل فوكو؛ فلا أعمال مطاع صفدي ترضيه ولا كتابات عبد السلام بنعبد العالي تشفي غليله ولا ترجمات الفكر المعاصر في مستوى انتظاراته، دعواه وحججه في ذلك كونه قرأ ودرس على يد فوكو. وعندما أذكر له أسماء درَست على يد صاحب أركيولوجيا المعرفة، و أنتجت بما فيه الكفاية، يشمئز ويبدأ في التصنيف المجاني و بلا أساس، لكني في آخر المطاف جاريته في ادعائه و طلبت منه هو العارف دونما غيره أن يترجم أو يشرح لي كلمة Le misarchisme فلم يتوان عن التأكيد على أنها مفهوم دولوزي، هكذا و الله حصل علما بأن المعني يُدَرِّس الفلسفة في جامعتنا المغربية ) وبعدما قرأتُ كتابه، لم أتمالك أنفاسي، وازداد شوقي أكثر من ذي قبل لربط أواصر الصداقة مع الرجل، الصداقة الفكرية أقصد، ما اضطرني إلى أن أقترح على زملائي في مركز الأبحاث الفلسفية في المغرب، إجراء حوار مطول معه، على أساس نشره في كتاب. فكان لنا أول لقاء معه في بيته بجليز، نتفق معه على الجدولة الزمنية و كذا محاور الحوار. بعد ذلك بقليل، زرته في بيته مانحا إياه سلسلة من الخطوط العريضة، واتفقنا على أن تكون أول جلسة عما قريب، ريثما ينتهي من بعض الالتزامات العائلية. على هذا الشكل، غادرته، إلى أن جاءني النبأ الفاجعة، أقصد خبر وفاته دونما وداع. كان ذلك سنة 2003بالضبط. لكن وعلى كل حال، فلئن ضاع الحوار و خسرنا رهانه، لا بأس أننا لا نزال اليوم نحتفظ بثمرة مجهود العلامة الذي ظل يفكر بحس فلسفي واضح، عز نظيره، في إشكالية التراث مسائلا إياه من منظور جديد أشبه ما يكون بالمنظور التاريخاني الذي يدعو إليه محمد أركون. لكن مع فارق كبير هو أن الثاني يخط محرابه في جامعة متحررة كالسربون بينما الأول في جامعة ابن يوسف التقليدية. وبحسب ما يشهد له به تلاميذه، فالمرحوم كان حريصا أيما حرص على إذكاء الحس النقدي لدى طلبته، وظل في كل حصة من حصصه يكرر عليهم سؤال :"ما القرآن ؟"واستمر الأمر كذلك لما يناهز الشهر الواحد، دون أن يجيب عليه. ليتنبه الطلبة، الذين كان البعض منهم يرد متسرعا :"على أنه كلام الله المنزل " إلى أن السؤال ينطوي على أكثر من سر و على أن الإلمام به يتطلب أكثر من جهد. وهو الجهد الذي مكن نوفل بن رحال نفسه من رفع شعار التحدي أمام عصره، ومواكبة رهان الفكر النقدي مهما كلفه ذلك من ثمن، فاستطاع بذلك أن يُحَوِّل جامعة ابن يوسف إلى ورشة للتحرر الفكري و قلعة للنقد العقلاني في عز الخمسينات من القرن الماضي. و يُروى أن الدرس بالنسبة له لا يعرف ما إن يبدأ متى سينتهي وإلى ما سيؤول ؛لذلك بقي اسم نوفل لصيقا بذاكرة كل المراكشيين لا بل حتى غير المراكشيين مثلي، إنه على ما يبدو من طينة عباقرة زمانهم، فهو لم يكن في نظري، في حاجة إلى قسم كبير كيما يقدم به دروسه بل كان بالأحرى، في حاجة لحديقة أبيقور. يقول عنه زميلي عبد الصمد الكباص : "كان نوفل يرتاد حي ليفرناج وذلك مابين سنة 1993 و1994، وكنت بمعية صديقتي أسماء نتأمل حركاته البهلوانية فنخال أنه أحمق، إذ بعدما يتسلق شجرة" لاجاكاروند" ينزل ويرمي بعيدا عددا من الحصى، وفي كل مرة يمر بالقرب منا يباغتنا بابتسامة تكاد تغمرنا فرحا و أريحية، وصادف أن عَرَّفنا به أحد أعضاء اتحاد كتاب المغرب حينها، مؤكدا أنه أحد عباقرة الساعة و مُفْرِز لأسئلة ضخمة ".
أجل هي أسئلة ضخمة يطرحها نوفل، في زمن من الصعب بمكان مناقشة المقدسات الدينية وبالأحرى التشكيك فيها؛ ويكفينا توضيحا لذلك أن نقوم بإطلالة قصيرة على كتابه حيث نلاحظ أنه يرفض منذ البداية ودونما مواربة، استعمال عبارة "علوم القرآن" مقترحا بدلا منها اصطلاح الدراسات القرآنية أو الثقافة العربية الإسلامية. "إن صيغة علوم القرآن كما أطلق على هذه الدراسات ليس مجرد اصطلاح أو مجرد عنوان وإنما هو شعار رفعته السلفية القديمة في منتصف القرن الرابع الهجري وهي الفترة التي احتدم فيها الصراع بين السلفية القديمة من جهة والفلسفة و العلوم الدنيوية من جهة أخرى حيث وجدت السلفية القديمة نفسها في موقف دفاع فرفعت السلفية القديمة شعار علوم القرآن في هذه الحقبة لتعلن أن المعارف المستمدة من القرآن هي المعارف الحقيقية التي ينبغي أن يكون لها الاعتبار الأول لأنها مستمدة من القرآن و لأنها المأخوذة من نص موحى به من السماوي بخلاف الفلسفة و العلوم الدنيوية فإن مصدرها هو الأرضي. ومن ثمة تحاول السلفية القديمة إضفاء المشروعية على هذه العلوم ونزع المشروعية عن العلوم الدنيوية وإلا كيف نفسر تأخر هذه الصيغة "علوم القرآن" إلى منتصف القرن الرابع الهجري. مع أن بعض علوم القرآن نشأت على أيدي النبي ثم على يد أصحابه وظلت تتطور و لم يطلق عليها قط علوم القرآن لا في القرن الأول و لا في القرن الثاني ولا في القرن الثالث بل حتى النصف الأول من القرن الرابع. "(ص. 8) بعد هذا يمر نوفل إلى قضية شائكة في تاريخ القرآن وهي التي ترتبط بجمعه مشيرا باعتماده على كتاب الإتقان في علوم القرآن للسيوطي إلى أن ثمة محاولتين اثنتين على إثرهما جمع القرآن:"الأولى على يد أبي بكر خشية ضياع القرآن أما الثانية فجاءت من قبل عثمان و ذلك لتفاقم الاختلاف في قراءة القرآن و تعدد المصاحف، فكانت محاولة عثمان ترمي إلى إيجاد مصحف رسمي يحل محل تلك المصاحف العديدة"(ص. 18)و يضيف أن عثمان "لما عزم على تدوين هذا المصحف الرسمي ألف لجنة رباعية وقد سمى البخاري أفراد هذه اللجنة:ثلاثة قرشيون مكيون والرابع أنصاري هو زيد بن ثابت. ومن كيفية تأليف اللجنة ندرك أن عثمان كان يعتزم ترجيح لهجة قريش واعتمادها في النص القرآني عند اختلاف أفراد هذه النخبة. وبالفعل فقد أصدر تعليماته إليها قائلا :"إذا اختلفتم في شيء فردوه إلى لغة قريش". ويضيف في موضع آخر:ويعطينا صاحب كتاب البرهان مثلا فيقول:"اختلفوا في كتابة "التابوت"فقال زيد بن ثابت:"التابوه" وقال الآخرون"التابوت". ورفعوا الأمر إلى عثمان فقال : اكتبوا "التابوت" فإنما نزل القرآن بلغة قريش. (ص. 18) ومن قضية التدوين يمضي بنا نوفل بن رحال في كتابه هذا إلى قضايا أخرى شائكة في تاريخ النص الديني منها على سبيل الذكر لا الحصر قضية المصادر المعتمدة من عسب ولخاف و ذاكرة الأشخاص ما" أدى إلى الخلاف بين القدماء في رواية بعض النص القرآني برواية الآحاد، ويؤيد ذلك أن المالكية لا يجعلون جملة "باسم الله الرحمن الرحيم " آية من القرآن لأنها ليست متواترة و إنما هي جملة للفصل بين الآيات و استشهدوا بأنها لم ترد للفصل بين سورة البراءة و سورة الأنفال. وقال الزركشي في كتاب البرهان : التحقيق أن القراءات القرآنية إنما هي متواترة عن الأئمة السبعة. أما عن النبي فقد رويت فقط بالسند، وهو نقل الواحد عن الآخر. ويؤيده أيضا أن عبد الله بن مسعود كان ينكر :أن تكون الفاتحة والمعودتان آيات من القرآن، و"لم يكفر" بناء على أن رواية النص القرآني عن النبي لم يرد عن طريق التواتر في عهد الصحابة. "(ص. 19)كما يثير أيضا قضية القرآن المرفوع، والناسخ و المنسوخ و قضية ورود آيات من النص القرآني على لسان شخصيات لا علاقة لها بالوحي ثم قضية أخطاء الكتّاب الذين كتبوا المصحف و التي لا نزال نقرأ بها المصحف و لم تصحح بعد :"فقد روى أبو عبيد في كتاب الفضائل على شرط البخاري و مسلم أن عائشة لما سئلت عن آية "إن هذان لساحران يريدان ؟ قالت :إن هذا من خطإ الكتاب. وأخرج ابن جرير بسنده عن أبي عباس قوله في آية "حتى تستأذنوا وتسلموا على أهلها "إنما هي "حتى تستأنسوا و تسلموا على أهلها " وأخرج ابن الأنباري بسنده عن ابن العباس أنه كان يقرأ "أفلم يتبين الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا " فقيل له : إنها في المصحف "أفلم ييأس الذين آمنوا "قال :أظن أن الكاتب كتبها وهو ناعس. (ص. 25) و أخرج ابن سعد بسنده عن ابن عباس أنه كان يقرأ"ووصى ربك" بدل "وقضى ربك "كما هي في المصحف. ويؤيد قراءة ابن عباس ما ورد في آية أخرى "ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم و اياكم أن اتقوا الله" وقد أيد كثير من الأقدمين قراءة أبي عباس وعللوا ذلك أن لو كان النص "وقضى ربك " لم يستطع أحد رد قضاء الله ولكنها وصية من شاء فعلها و من شاء تركها. (ص. 25) و فضلا عن ذلك يتناول بن رحال بكثير من التفصيل الدقيق إشكاليات أخرى من قبيل : تعدد القراءات القرآنية، عواملها و مظاهرها و مضاعفاتها وكذا قضية إعجاز القرآن و تطور التفسير القرآني مقدما لاستدراكات أغفلتها بحسبه محاولة طه حسين، الأولى :في كتابه في الأدب الجاهلي. وإذ لا ينكر نوفل بن رحال إيجابيات المنهج النقدي التاريخي الذي اعتمده طه حسين، باعتباره أول من "تعامل مع النص القرآني بصفته نصا أدبيا ينتمي إلى العصر الجاهلي. كما أن طه حسين أول من أعطى للنص القرآني بعدا دنيويا صرفا بصفته وثيقة تاريخية عن العصر الجاهلي"(ص. 84) فهو يؤاخذه على وقوفه من النص القرآني موقف الشك في الطبعة الأولى -الشعر الجاهلي-ثم وقوفه موقف الجازم بصحته في الطبعة الثانية -الأدب الجاهلي -تحت الضغوط الدينية و السياسية التي لم يستطع الصمود أمامها(ص. 86) مثلما يلح نوفل على أن طه حسين قد غالى في الشك في الشعر الجاهلي حتى قام بالتشطيب عليه كليا تبعا لبعض المستشرقين مع أن الشعر الجاهلي بعضه مقطوع بصحته و بعضه مقطوع بوضعه و بعضه مشكوك فيه. أما عرض طه حسين من ناحية أخرى فقد جاء مبتسرا و كأنه كان في عجالة من أمره فلم يطبق منهجه كاملا. الحاصل أن هذا الفقيه الملحد استطاع، في وقت مبكر أن يخلخل الأرضية الدينية أكثر من أهل المنطق و الفلاسفة، وذلك باعتماده على منهج علمي، عقلاني و صارم، ينطوي على ما يكفي من جرأة هي ما حدا، حينئذ بالسلطات إلى توقيفه عن العمل؛و ثنيه عما هو مقدم عليه، لكنه على الرغم من كل الإكراهات التي عانى منها، ما لبث أن استأنف دروسه بابن يوسف، بفضل الإضرابات التي قام بها طلبته من أجله، و هكذا عاش متمردا، لا يطأطئ الرأس أمام أي كان ومهما كان، داركا أن الفكر هو قبل أي شيء آخر فن للمقاومة من أجل حياة أفضل، وإلا ما استدعى منا ولو لحظة عناء. فأين لنا بأمثال هذا الرجل اليوم، في عصر يُزْعم فيه أننا على أهبة تكوين رجال أحرار بيد أننا في الحقيقة لا نعمل إلا على الإكثار من المدجَّنين والطَّيِّعين، الخنوعين والإرتكاسيين.
ملحوظة: أرقام الصفحات الواردة في النص هي من كتاب نوفل بن رحال: "دروس ابن يوسف - مداخلات في الثقافة العربية الإسلامية-" نشر لجنة تكريم ذ. نوفل الطبعة الأولى 2000.