الهامشي والمهمَّش: أية علاقة؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
"علينا أن نتعلم فن توجيه السفن، مادام أننا لا نستطيع تغيير مجرى الرياح" James Dean
إن مفهوم الهامش مفهوم أساسي لتشريح لعبة السلطة وفهم آليات اشتغالها، مادام أن كل كائن كائن متورط لا محالة، في علاقات سلطوية كثيرة التشابك والتعقيد. فهو إذن مفتاح استراتيجي لفهم على أي نحو، تنشأ العلاقات السلطوية، داخل كل مجتمع مجتمع، وتقوم تلك التقطيعات المحدِّدة لتموضع الأفراد بحيث ينتهي بهم الأمر إلى الانقسام وفق معيارية جاهزة، والتصنيف بحساب معادلات ثنائية من قبيل: مرضى وأسوياء، حمقى وعقلاء، فقراء وأغنياء، كفار ومؤمنين، غرباء ومواطنين... لكن هذا التأطير والتقسيم إن كان يدل على شيء فإنما يدل على أن ميكروفيزيائية السلطة بتعبير فوكو، تشتغل حيث لا تكون مرئية ولا مضبوطة، فتعمل على جدولة الأفراد ومراقبتهم في أدق تفاصيل الحياة سواء أثناء عملهم وراحتهم، أو أثناء استيقاظهم ونومهم أو عند مرضهم وصحتهم أو وقت تناسلهم وتكاثرهم. إنها (أي السلطة الانضباطية) هي ما يخلق الهوة مابين الهامش والمركز، ويسهر على إقامة التضاد مابين الطرفين صيانة لمشروعيتها وضمانا لاستمراريتها: استمرارية منطقها الاستحواذي بالطبع هو ما يبقي على أطراف المعادلة قائمة الذات، حد اتساع الهوة وازدياد الشرخ مابينها. لكن هذا التقسيم العمودي، ينطوي على تقسيم آخر أفقي هو في نظري ما سيفيدنا تفكيكا لآليات السلطة التي ليست تشتغل كما أوضح فوكو على نحو عمودي فحسب بل أنها، وهو الأهم، تشتغل أيضا على نحو أفقي. وهي كآلة حربية سليلة مفهوم الهامش، ما يمكننا أن نرمز إليه بثنائية: الهامشي والمهمَّش. وحتى نوضح مغزانا، أؤكد على أن الفقير مثلا إن كان بحسب المعادلة الأولى هو من يتموضع في خانة الهامش لا المركز فهو بحسب المعادلة الثانية من لا يمكننا موضعته لا كهامشي ولا كمهمَّش. آيتنا في ذلك إنما هي كون الفرق مابين الهامشي والمهمَّش، فرق من حيث الطبيعة لا من حيث الدرجة فحسب. فإذا كان الهامش يتميز عن المركز من حيث الدرجة لا غير، فذلك ليس يرجع إلا لكون الانتقال مابين الطرفين ممكن بحسب فقط، القدْر المستحوذ عليه من السلطة: لأن السلطة عند هذا المستوى قابلة لأن تُنْتَزَع ولأن تُفْتَقَد. السلطة هنا موضع جدال ومسألة هيمنة واستحواذ. لذلك مثلا بوسع الفقير أن يغدو بين عشية وضحاها غنيا كما بوسع الحاكم أن ينقلب محكوما(أشير إلى تاريخ الانقلابات بل وكذا مسارات انتقال السلطة حتى ديمقراطيا) والعاقل أن يصبح مجنونا والحر أن يضحى معتقلا... إن تبادل الأدوار عند هذا الحد من المعادلة ممكن، بخلاف الثنائية الثانية، التي إذ تتميز من حيث الطبع، تجعل الانتقال مابين الطرفين أمرا مستحيلا بالمرة. يكفيني هنا، أن أشير إلى البون الشاسع، مابين الهامشي والمهمَّش. فإذا صح القول بأن الأول كائن فاعل، فالثاني كائن مفعول به. الهامشي إنسان قوي بينما المهمَّش ضعيف. من ثمة فالفرق والاختلاف مابين الاثنين هو تماما مثلما الفرق مابين القوة والضعف. فالهامشي بحكم طبعه، نموذج الكائن الاثباتي بلغة نتشه أما المهمَّش فهو دوما ارتكاسي بطبعه، ليس يعرف إلا النفي تلو النفي؛ بعكس نقيضه الذي يبدأ دوما بالاثبات، اثباتُ كيانِه وكيان الآخرين على حد سواء. لكن هذا التباين في الطباع مابين قوى الارتكاس من جهة وقوى الاثبات من جهة أخرى، إن كان يدل على شيء فإنما يدل على أن المسألة هي مسألة أحاسيس وعواطف. فالهامشي بطبعه قوي، لا يعرف معنى الذحل ولا البغض أو الضغينة بخلاف المهمَّش الغاص في الحقد حتى أخمص قدميه، والذي لا تقوم له قائمة ولا يستقر له حال إلا إذا نال من غيره ومارس حقه في زرع السموم من حوله. المهمَّش بتعبير صاحب إرادة القوة، كائن مريض، محكوم سلفا بسيكولوجيا الأنين والشكوى؛إنه ماجسده نتشه بالرتيلاء؛رتيلاء الأخلاق بطبيعة الحال، تلك التي لا تنفك تعِظ وتدعو للتقوى والورع الدينيَّيْن، متمسكة أيما تمسك بأخطبوط الوعي الشقي، مسكونة دوما بوخز الضمير، داعية نفسها والآخرين إلى الكف عن الحياة والتسريع ما أمكن، من وتيرة الانتحار. للمهمَّش أخلاق ليست إلا عكس أخلاق الهامشي (اللاأخلاقي بالمرة، وثمة قوته). فالمهمَّش من فرط حرمانه في الوجود، يبغض كل ما هو قوي، ويكن الضغينة لكل الفرادات المتميزة، كما لكل من هو عظيم ومتأنق، وواقف لا يطأطئ الرأس. لذلك فهو من لا يكل، يُمَجد جوهره: أقصد الضعف وقيم التصاغر كما القبح والموت وسفك الدماء. إنه لا يرى ولا يحب إلا دمار الحياة، استعدادا للقاء ربه، مضحيا بالهنا والآن من أجل الماورائيات والخلاص. مُحَرِّك المهمَّش إذن هو الذحل وديناموه هو النزوع الطبيعي نحو السلبي وكل ما قد يحيل عليه من قوى ارتكاس. إن المهمش يبغض الواقع والحياة بقدرما هو عليه من حرمان. وهو إذ يكره المتعة فليس إلا لأنها مستحيلة المنال بالنسبة إليه. وبقدرما يجد نفسه أكثر حرمانا من الاستلذاذ بالعالم بقدرما يعمل جاهدا لتوجيه سهام حقده نحو العالم. إنه بذلك راغب في كل شيء عدا المتعة: لا يُمْتِع ولا يَسْتَمْتِع. همُّه الوحيد، هو صك صفقات الاتهام وشغله الشاغل، السهر على توزيع الخطايا استعدادا للتكفير والعقاب. المهمَّش هو من يستلذ من فرط عدم استلذاذه، أي من فرط إمساكه وصيامه عن المتعة. وبذلك لا يكون كل المهمَّشون إلا أنصاف الناس، أولئك المجهضين برغبة منهم، المتيقنين بأن ليس بوسعهم أن يستمتعوا إطلاقا، مؤمنين بألا حياة تستأهل أن تُعاش عدا حياة الفقر والأنين كما المعاناة والشقاء. المهمَّشون يمتازون أول ما يمتازون، بسيكولوجيا خاصة، وفقها يتصورون أن لا أحد غيرهم يمتلك الحقيقة. بل لا أحد سواهم على حق. من ثمة فالعالم كله على خُطى الضلال والإثم. وهو بذلك عالم يستحق التقويم على أيديهم مادام أنهم الخير والحقيقة عينها أما غيرهم فهو الشر والنقص والعاهة. إلى هنا يتبدى أننا استوفينا المهمَّشين حقهم تعريفا وتحديدا، وهو لعمري أمر يكاد يُيَسِّر لنا فهم الهامشيين بدقة. ذلك أن هؤلاء، هم من ينهجون نظرية الفعل التحرري في أبسط تفاصيل الحياة. إنهم على حد توصيف نتشه أولئك الذين لا يحبون أن يقودوا ولا أن ينقادوا. طبعهم يجعلهم متمردين على الدوام. يرفضون الانصياع قدرما يرفضون الهيمنة. لا ينساقون وراء المنطق الاجتماعي الآسر، ولا ينزعون وراء لغط الدهماء والناطحة والمتردية، وهم بذلك لا اجتماعيين بالمرة. لا يَنْجَرُّون وراء التقسيمات القطيعية ولا يستعينون بالمقابل، بالقوة إلا انفلاتا من براثن هيمنة الآخرين. الهامشي بنظري صورة ملغزة ومحيرة، أو لنقل بتعبير دولوز أنه بالأحرى شخصية مفهومية. فأن تكون هامشيا اليوم أمر لا معنى له، طالما لم نعمل على ربط الهامشية بوقائع تاريخ الدم والسفك ناهيك عن الحرق والصلب التي نالت وماتزال تنال من كل كائن هامشي بطبعه. تحضرني بالمناسبة أسماء وتغيب أخرى لكن لأكتفي بذكر هاته التي هي عالقة بذهني الآن، لأن كل اسم اسم، يكاد يرمز وبامتياز إلى الهامشي من حيث هو كائن ذا قيمة. أتذكر "بشار بن برد" الشاعر الذي اتهم بالزندقة فقتله المهدي بن المنصورسنة167هـ. وأبو نواس الذي ظل يمجد قيم الابتهاج والحبور واعتلى عرش أكبر وَصَّافي الخمر، لكني لا أنسى كذلك "ديوجين" الفيلسوف الكلبي، الذي ظل يكره المال ومراكمة الثروات وكل التوافقات القاتلة للحرية، وأختم قولي بإضافة اسمين اثنين: الأول هو"جيوردانو برونو"الذي مات حرقا من لدن المسيحيين سنة 1600 م لقوله بامتداد الله في الكون وتجسده فيه؛أما الثاني فهو "فرونوف" الطبيب الذي لم ييأس يوما من النضال علميا خلقا لإنسان قوي، متحرر من قدر الطبيعة التي يسميها البعض الله.