ثقافات

بنزبير: الكتابة حيوانٌ سياسيٌّ لا علاقة له بالحنين!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

حوار مع الشاعر المغربي المهجري احساين بنزبير بمناسبة صدور ديوانه: "أسمدة تليها حالات" عن (دار الغاوون)

حاوره عبداللّطيف الوراري: من جيل إلى آخر، ومن ذاتٍ إلى أخرى، لا يكفُّ الشعر المغربي عن المناداة على حداثته وشقّ دروب مغامرتها في الآن والمجهول، بمختلف الأيدي والأفواه والحساسيّات والرؤى الجمالية. وبالرّغم من ذلك، لا تزال كثيرٌ من تجارب هذا الشعر تتكلَّم التيه والعماء في الداخل والخارج على السواء، ولا يزال النقد الشعري، عندنا، يُراوِح مكانه. فليس هناك من مسوِّغ، ألبتّة، أن يظلّ نقد الشعر المغربي كما هو، وأن يثبت خطابه على ميدان هيمنة السلط والكليشيهات، فلا يغيِّر نفسه. يستنزف المستقبل بقدرما يستنزف نفسه. وإذا لم يعد هناك ما يقوله، فإنّ عليه أن يتغيَّر، لأن الخطاب حول الشعر يتغيَّر لما يتغيَّر الشعر نفسه. كما عليه أن ينظر إلى الأراضي الجديدة التي يحترثها الشعر المغربي في الداخل و"المهاجر" على السواء. وربّما اعتبرنا الوقت قد حان لتبعث "الشعرية المغربية" من تاريخها المنفيّ في أنفاق كثيرة، وتقوم بواجب الإصغاء لمسارات الشعر المغربي، حتّى تدرس خصوصيّاته، وتُقايِس إضافاته النوعية ضمن تيار الحداثة الشعرية، وتكشف عمّا يتحكّم به من قوانين وأسئلة متنوّعة ومركّبة. ومن جملة الإشكالات التي عليها أن تتصدّى لها، هذا الإشكال: عن أيِّ مُتخيَّل شعري وطني يجب أن نهندسه بصدد شعراء مغاربة يكتبون بالعربية، أو بلهجاتهم ورطاناتهم المحلّية [الأمازيغية، الحسّانية والعامية]، أو بلُغات الدول التي تُضيّفهم في المهاجر بأوربا وكندا وسواهما؟
ثُمّ هذا الإشكال: هل بإمكاننا اليوم أن نتحدّث عن جيل المهجريّين في الشعر المغربي، ولاسيّما بلغته الوطنية، حيث أنجد نفسها أمام نداء لذوات مشروخة ومحفوزة في مرايا التاريخ والمطلق، ومن ثمّة تكون الجغرافيا المقياس في التنظير والتحليل بدلاً من التاريخ، والمهجر المكاني بدلاً من التحقيب الزّمني؟
نقترح، هنا، أن نُصغي إلى تجربة شعريّة فتحت شُرْفتها على هواء البلد في بداية التسعينيّات، قبل أن تعصف بها رياح الهجرة إلى فرنسا في أواخرها؛ وهي التجربة التي يمكن أن نكتشف نصوصها ورؤاها وأساليب صوغها للعالم الشعري في مجموعة "بالصدفة، نثر الفصول"، ثُمّ في "أسمدة تليها حالات"، الصادرة حديثاً. يتعلّق الأمر بتجربة احساين بنزبير (1968م ـ الدارالبيضاء).

ـ في أيّ عام هجرْتَ من بلدك إلى أوربا؟ هل كانت الهجرة اختيارية أم اضطراريّة؟
bull;لا يهمّني في أي عام ركبت البابور من طنجة متوجّهاً إلى فرنسا. كنت ملفوفاً في قصة حب قوية. هل هربت من شيء ما أم أن شيئاً ما جعلني أهرب مني. في الواقع هاجرت مثل أي مواطن مغربي. هاجرت و لست أدري كثيرا ما الدافع الفعلي والحقيقي؟ الحب أم البحث عن أفق آخر. هذا الأفق الذي جعلني و يجعلني حتى الآن أتعلم مما أنا فيه. الهجرة بكل أشكالها نقطة هروب معمارية. حتى اللسان كان يخون. حيث لم أكن من صنف الذين يختارون. أي لست أدري تفاصيل الرحيل. رُبّما يوماً أحلل نفسي رفقة طبيب نفساني لأفهم شيئاً في حياتي العادية. الهجرة سيدة تدعى إيطو.

ـ في مهجرك الأوربي هل تُحسّ بحنين إلى الوطن، وتتابع أخباره وتساهم بالنقاش في قضاياه الراهنة المتعلّقة بالعصر والحداثة والتقدم؟
bull;بالأحرى أقول إنه مكان الازدياد أكثر من الوطن ما يرتب حركة الانتماء إلى اللحظة التاريخية. في مكان الازدياد أجد ما تبقى من الذكرى وما تبقى من سيمولاكر الوقت. وما تبقى كالآتي: الحي. العنف. الرائحة. طوطوش. بائع الفحم. الزانية. بائع الخمر.... إلخ. كل هذه العناصر تشكل أسئلة تدفع بنا إلى نحت وضعة نقدية على طريقة ابن رشد مثلا. التفكير في مكان الازدياد يقوي العنف الذي يسكننا إيجابيا. وهنا يصير الأثر أعنف من الحنين. الأثر كالذي يشكل المعادن مثلا.
المسألة مسألة الجسم و هو يعيش في حالة توتر دائم. ثم أتقدم دون مرآة ارتدادية. المهمّ هو ما أفعل أو ما بمكن أن أفعله بفعلة الأثر. والكتابة تمتصّ الديكور لتمنحه شكلاً مقاوماً من طبيعة الحال: حيوانٌ سياسيٌّ لا علاقة له بالحنين.

ـ هل تعتقد أنّ المهاجر الأوربية تُقدّم بيئة جديدة لنموّ الثقافة العربية المعاصرة وتهويتها بقيم العصر، وتسمح بلقاء الآخر دون تسلّط واستبداد، بسبب تعدد الثقافات وتنوّعها واختلاف الآداب التي تتكلّمها؟
bull;ربما في الأمر مكيدة. الآخر قد يتقمّص هيئة الغول أو يتقمص هيئة فولكلورية. لكن لما نشقّ طريقاً وطنية رمزية يضحى الأمر مهمّاً. لأن الطريق السيّار لا يمنح فرصة التعرف على الآخر.
لي أمثلة عديدة أحتفظ بها في الركن الأيسر من المُخّ. حيث كل ما منح لي التعرف على كتابات الشعراء الفرنسيين المعاصرين كان بمحض الصدفة أوّلاً، ثم بمجهود شخصي في ما بعد. العائلة تتجدّد يوميّاً في رأسي. وحيز البيئة يأخذ هنا صفة أنثربولوجية سلبية. لذلك الشعر المعاصر عموماً يحارب كلاب النثر السوداء رمزيّاً.

ـ هل تقدّم القصيدة التي تكتبها تصوُّرها حول ما يحدث في المعترك الإنساني؟ أم أنّها تُضرب عن الخارج وتهتمّ عوضاً عن ذلك بالذّات ومشاغلها؟
bull;لست أكتب القصيدة. أكتب الكتابة مُحاولاً. أكتب في المابين. أكتب في مساء الكتابة. و كل ما يتعلق بالداخل و الخارج أتركه إلى قشرة الجلد بكل بساطة. اللسان واللسان دائما. أما اللغة أتركها للآخرين. ضمنيّاً، الشعر المعاصر أو الكتابة لا تغيّر شيئاً في السياسي بل تغير الرؤية إليه. أو تغير علاقتنا بالآخر وبما هو خارج عن الذات: الواقعي وليس الواقع.

ـ هل تعتبر أنّ المهجريّين هم بالضرورة أدباء منفى؟ ثمّ ما الفرق بين أن نتحدّث عن أدب مهجريّ وأدب منفيّ وأدب مُغْترب؟
bull;لم أطرح على نفسي شيئا من قبيل المنفى أو من صنف المهجر. لست أنتمي إلا إلى نفسي. و حتى الأدب أتركه في رفوف المكتبات. الكتابة نعم. الأدب لا. الشكل ضد المعنى السوسيوليجي نعم. البحث على المعنى لا... و اللائحة طويلة. هلهل من هلهل و البقية الإيجابية ثقب في الحائط ربما.

ـ ما هي الأبعاد المعرفية والجمالية التي يأخذها مصطلح المنفى لديك، في الحياة و في الكتابة معاً؟ وبالتّالي ما المعاني الجديدة التي تأخذها في نظرك مفاهيم الهويّة والذّات والخطاب؟
bull;المنفى مفهوم معقّد و سياسي بالأحرى. لا مفهوم لي حين أكتب. لا شيء ينبلج سوى عراك ضد اللسان. أكتب رفقة قفازة ملاكم. ولست أبحث عن المعنى مرة أخرى. أغبره، أي أنه يصير غبرة أو نغرة حزمت حيطان البيوت المغربية قديما. و هنا الفن المعاصر يظهر. حين الكتّاب يقتربون شيئا ما من الفن يكون ما سوف أعتبره تغيير الحيز وبصمه كالقط الذي يبول ليعلن مكانه.

ـ هل الكتابة باللغة العربية، معرفيّاً وجماليّاً، ممكنةً وحيويّة؟ وهل هي في المهجر تُقاوِم مقدّسَها، وبالتالي تختطُّ مسارات المجهول؟
bull;اللغة العربية أعيشها وأكتبها كلغة غريبة تماما علي. و هنا يحضرني ديوان جلال الحكماوي، والذي ليس مهاجرا، "اذهبوا قليلا إلى السينما" الذي كتبه جلال في سماء لا قشرة أوزون لها. هذا الصنف من الكتابة المعاصرة يمنح فرصة عيش اللسان كهجرة أو كبحث على الشعر في آخر المطاف. الحيّز الجيوسياسي لن يغير من الأمر شيئا. اللهم إذا دخلنا في أسئلة قديمة. الأساسي ما شاط من اللسان على قارعة الطريق.

ـ إلى أيّ مدىً يمكننا القول إنّ قصيدة النثر قَدَرٌ مهجريٌّ، والمصادر الجديدة للكتابة قدرٌ مهجريٌّ، والنبرة الاحتجاجية في القصيدة لعنة المهجريّ؟
bull;لا قدر للكتابة غير قدرها. أن تكون في فرنسا أو في الهند أو في تنغير ( بلدة تقع جنوب المغرب). أما قصيدة النثر فارحمني من الإجابة. لست أحب الشعر لأنني عاقّ منذ الدار البيضاء. لست أبحث على الشعر، بل أبحث على طريقة ثالثة لكتابته. ربما في الثلاجة أعثر على شيء ما.

ـ ما معنى أن يكتب شاعرٌ مغربيّ منفيٌّ عن وطنه ولغته ومراتع طفولته ومكان حبيبه الأوّل؟
bull;وما معنى أيضاً ألا يكتب شاعر مغربي عن وطنه و لغته. وما معنى أيضاً أن أكتب في هبوط لساني و نفساني. وما معنى أيضا أن أتراجع في صمت متواضع أمام ما يحدث من كتابات. وما معنى أيضاً أن أترجم الكتابات وليس الشعر. وما معنى أن أحب تاركوس. وما معنى أيضاً أن تحيرني نصوص النفري. وما معنى أيضاً أن أحب موسيقى الروك الجيدة صحبة غودولف بيرجي الذي موسق أحسن الشعراء الفرنسيين المعاصرين دون السقوط في الركاكة الموسيقية.

ـ في ديوان "بالصدفة، نثر الفصول"، الذي صدر لك قبل عام، نجد أنفسنا أمام كتابة تفترع داخل الشعريّ جماليّات جديدة، معرفية وأسلوبية. هل نحن، حقّاً، أمام باكورة أم الأمر يتعلّق بعبور أدغال؟
bull;الكتابة عموماً صندوق أدوات يدوية. صدور هذا الديوان جاء متأخّراً لأسباب بيروقرطية تعرفها. حيث نصوصه كتبتها في مرحلة بدأت فيها من التخلص مما نسميه الغنائية. كان الأمر صعبا لأن اللغة العربية غنائية في حدّ ذاتها. و في نفس الوقت بدأت أتخلص أيضاً من شعراء فرنسيّين غنائيّين قرأتهم كثيرا. لستُ مستقرّاً في الكتابة. الرغبة تفتح باب السؤال والبحث عن ممرّات منجمية في الكتابة. لما قرأت ف.بونج قلت في نفسي إنّه أهم من بودلير. و لما اكتشفت الشاعرة دانييل كولوبير قلت إن الشعر ليس ما نعتقد أن يكون. ربما في نفسي أقول إنّ الشعر بقرة ضاحكة تحاول حفر تصوُّر متجدِّد للكتابة بشكل عام.

ـ إكتشفْتُ من خلال الديوان عملاً على الصورة، ليس من أجل بنائها وتأثيث عناصرها، ولكن بالأحرى نحو إنهاك محتواها المادّي وسلبه ذاكرته. هل نقول إنّه عمل دالٍّ لا مدلول للإقامة في الكتابة كصوت، مستفيداُ من ولعك بالفنّ التشكيلي؟
bull;هل من الممكن أن نكتب الشعر بالعربية دون الصورة التي تخنق أيضا إيقاع الكتابة. أحتاط كثيراً من الصورة. لذلك ألجأ إلى الفن التشكيلي لأكتب الصورة بالممحاة كما الفنان ماتيس رسم بها. شخصيّاً أجد أن الشعر مكتظٌّ ببلاغة ما زلنا نعتبرها تنميقاً. الفن المعاصر يمنحني حريّةً لا أجدها في بعض الكتابات.

ـ في "أسمدة تليها حالات"، عملك الشعري الثاني، هل يمكن لنا أن نتوقّع سيرورة في جرح اللسان الذي فتحته في العمل الأول، أم تقليباً لأرض ما في فصل آخر؟
bull;"أسمدة تليها حالات" كتاب اشتغلت عليه لخمس سنوات، تقريباً. أخذت الوقت في الانتقال من أسمدة لسانية تكتب ضدّ شيء ما إلى كتابة الجملة في حالات وفقرات أيضاً. اللسان هنا يصير مُسطّحاً، ويُسائل ما أرى فقط. في الواقع منذ هذا الكتاب ـ ولا أقول الديوان ـ لم أعد أهتمّ بالشعر أو بقصيدة النثر، إلخ. أضحت الكتابة تأخذ أشكالاً ضدّ ما يسود حولنا من شعر. لن يجيء حسب توقيت غرينتش.

**
احساين بنزبير من مواليد العام 1967م في الدار البيضاء بالمغرب. يحمل إجازة في علوم التربية من جامعة أفينيون - فرنسا (2004 م). صدر له ديوان شعريّ بعنوان "بالصدفة، نثر الفصول" عن منشورات وزارة الثقافة المغربية العام 2009 م، وعن منشورات "دار الغاوون" في بيروت صدر له حديثاً ديوان ثانٍ يحمل عنوان "أسمدة تليها حالات".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف