ثقافات

شعريّة الجسد والتأويل الإيروسي لِلُّغة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

عبداللّطيف الوراري: نقترح، هنا، أن نُصغي إلى تجربة شعريّة فتحت شُرْفتها على هواء البلد في بداية التسعينات، قبل أن تعصف بها رياح الهجرة إلى ألمانيا في أواخرها؛ وهي التجربة التي يمكن أن نكتشف نصوصها ورؤاها وأساليب صوغها للعالم الشعري في مجموعة "زغب المياه الراكدة" الصادرة حديثاً عن دار الغاوون في بيروت. يتعلّق الأمر بتجربة محمد مسعاد (1967م ـ الدارالبيضاء).


1. شعريّة لأسرار الجسد المتعدّد:
في "زغب المياه الراكدة" نكتشف تجربةً شعريّة جديرة بالنظر لا يزال الشعر المغربي إلى اليوم يتحرّج من خوضها وكشف مسمَّياتها، وهي تجربة فضّ أسرار الجسد، المادِّي والمتعيَّن. إنّنا نجد أنفسنا مًواجَهين من طاقة الرغبة اللانهائية التي تُحرِّك متخيَّل النصوص وتبتعث من رمادها أسباباً لحياة تُستحَقّ أن تُعاش:
"وباسم هذه الشهوة/ أقول سلاماً/ وأُقيم الشهادة كلَّها/ تحيّةً إلى هذه الأخّاذة السابية لحظاتي"(ص10)
بارتعاشاته وروائحه وأشواقه يصير للجسد معنى أن يخلق شعريّته المُفْردة والخاصّة، وضرورته. في "فاتحة" العمل تتقدّم إلينا ذات الشاعر مثخنةً بجراح السؤال، لكنّها تنطوي على طاقةٍ تشعُّ من داخلها وتحفزها على الرغبة والمعرفة، وعلى الرؤيا والكشف، وقد منحها الله هبة اللغة التي بها تتعافى وتُحبّ:
"كلّما لملمني الجسد/ أرى الله يرميني بمحبّة اللغة"(ص7).
لذلك، يحضر جسد الذّات بكثافته الماديّة والرمزية، فلا يأخذ الجسد شكلاً وحيداً من الوجود، بل أشكالاً لا تنتهي من الكينونة المتحوّلة التي تتعدّد بتعدّد مستويات الحبّ والحياة والحلم والسفر التي تعيشها، وتتقاسم مع المحبوب صورها ولذائذها:
"وأنا لباسك اغسليني بمائك الساخن/ وكواكبي/ تنزف/ صنوْبراً/ ونخْباً" (ص13).
من اجتماع الجسد بمحبوبه وتشوّقه الدائم إليه، تتخلّق كيمياء "الجسد المقدّس" بتعبير الخطيبي، وبعد ذلك لا نفاجأ ـ ابتداءً من القصيدة التي يعمل العمل عنوانها ـ أمام هذا الحضور الطافح والبليغ والمُخْصب الذي يتجلّى به الجسد في بعديه الإيروتيكي والصوفي معاً، حيث "نُطفةٌ تتدلّى/ جسدٌ يتملّى". وإذا كان البعد الأوّل يُدمج النصوص في متخيَّلٍ كايروسي ـ شهوانيٍّ حيث الذّات تُتأْتِئ بعطش الأعضاء، وتتعرّف إلى صورتها عبر ماء الرغبات الموسْوِسة: "الأشجار/ مخالب للجسد/ والأيادي كانت/ منْدافاً يشتفُّ/ وسوسة الرغبات" (ص18). وفي موضعٍ آخر أكثر محسوسيّةً وانفراجاً: "..أغويك وأعضُّ على أزرار قميصك. شهيٌّ هذا الأحمر على شفتيك. وهذا العشب الأخضر طازجٌ، لزِجٌ. يناديني كعريس بين وديانك" (ص46)؛ فإنّ البعد الصوفي بتجلّياته الرمزية يصعد بالذّات إلى مدارج من حالة السُّكْر، ولا يحضر إلا بمقدار ما يكون الجسد موضوعاً لتأويلٍ آخر يفيض عن معانٍ جديدة تفضّ عنه إسار المادّة: "واللّيْل مُجاهدة،/ أن تُقيم/ الجسد/ معناه/ الفتنة تحيا"(ص22)، أو يعد أن تستغرق الجسد مياه الشبق واللّذاذة، فيما هي تسترخي فرحانةً بما أتتْها الرغبة، وحرّكت فيها المياه الراكدة: "يا امرأة "السرّ الهاتِك"/ اجتمعي بي/ ونامي في موج القصيدة.."(ص23). فالذات المتلفّظة، وُفْقاً لذلك، تُدْمج المرأة الأنثى في لعبة من التمثيلات الرمزية لصياغة عالمها، وتركيب تضاريس جسدها وإنعاش ذكرياتها المعطّلة، إذ تتحوّل إلى بُؤرة جذب مُشعّة بحضورها المستحوذ ورغبوتها الهائل: "إطرحي/ عوراتكِ كلَّها/ وغرّري بأقْلامي كي يُسكب الحليب/ على فخّار الحروف"(ص29).

2. تأويل اللغة إيروتيكيّاً:
ونكتشف من خلال التناصات المركّبة التي تمزج بين النص المقدّس وبين النص الإيروتيكي وتُعيد تأويلهما من جديد، أنّ هناك رغبة لدى الذّات في تضويء ليل الجسد والتنفيس عن تاريخ المسكوت عنه بمنأى من مسكوكاته، والعبور به إلى عالمٍ أكثر تمثيلاً وموجوديّة. لا تعمل اللغة الشعرية بمنأى عن ذلك، إنّها تتحمّل أعباء هذه الشعرية وتُفجّر أنساقها في اتّجاهات مختلفة ومتنوّعة، وتدع الرؤية الكايروسية لأنا الشاعر، بوصفه ملّاحاً للشبق واللّذاذة، تتحرّك في موشورٍ هائل من الصور والحقول الاستعارية الحسّية والمفارِقة التي ترصد التحوّلات الخلاقة للصورة، وتدفع بشعريّةٍ جامحةٍ منشغلة بتجربة الجسد الحية حدّ الهوس، إلى أقصاها. هنا، ليست الأنا من تلفحها شهوة الجسد، بل اللغة أيضاً، بوصفها موضوعاً للتأويل الإيروتيكي أكثر من أنّها وسيلة تعبير فحسب:
"تتعرّى الحروف/ واللّغة تغوي/ تستطيع أن تسأل البحر!"(ص12)
وفي موضوع آخر يُجلّي متاهيّة اللغة التي تفيض بأكثر من معنى بين الذّات وما تتشوّف إليه: "لغتك ضيّعتني/ والبحر لم يتعب من فيض المدى/ بل من اضطراب الضغط في أعصاب اللُّغة.."(ص39). وفي موضع آخر إيحاءً يتقاطع فيه البعدان الإيروتيكي والأنطولوجي على نحو غير قابل للفصل: "الكلماتُ تُضاجع بعضها البعض/ وأنا متعبٌ/ ينهارُ الحكي منّي تحت عطركِ/ الأبجديّة فرْجٌ مخبأ للشهوات.."(ص39).
وربّما أفصحت الأنفاس الأخيرة من العمل عن هذا التأويل الكايروسي للغة، ولاسيّما في قصيدتي "سيرة العشب" و"الغاوون"، حيث لِلّغة، الهبة التي لاتعوّض، رائحة شفّافة ومدوّخة تدفع بالذّات إلى أقصاها، وبالمحسوس إلى أقاصي المجهول. واضحة، سيّالة ونضّاحة. ببساطتها تشفّ وتغوي وتسبر الدفين. بدون أن تسقط في الإباحية ومهاوي الإسفاف والابتذال.
تمتح اللغة شجرة معجمها من حقولٍ مختلفة بلسانٍ عربي وغير عربي ( الأورغازم، الستالايت، الهوتبورد، السكس،Orgasmus،Bitte، Gin..). ومن أحواضٍ دلاليّة متنوّعة (صوفي، صناعي، معلوماتي، جنساني، موسيقي..)، بها تتشكّل حقولها الاستعارية إمّا بشكْلٍ صافٍ أو بشكل هجين أو غرائبي كما في هذه الصورة:
"قُضي الأمر/ كلّما جنَّ الليل/ بعدك/ الجثّة معلَّقة/ الفم غارة/ النّهود أيضاً/ فزّاعات على هيئة المولوتوف" (ص18).
كأنّ هويّة الجسد موزّعة بين هويّات كثيرة، ومَنافٍ سحيقة. فهكذا تتعدّد صور الجسد المادّي المتعيّن الذي تحيط به عباءات من حريرٍ إشراقي، بين الجسد المتحوّل، المتوثّب، الحيويّ والزاخر بمياه الحب واللذّة. وهو بهذه الصفة يعني موجوديّة الأنا وحياة اللغة، مثلما يخصّ الموت والوطن والأرض جميعاً. في المقابل، هناك الجسد "المتلاشي" و"المتهالك" و"الإلكتروني" الذي يقع ضحيّته من "يتحسّسون فحولتهم/ بين الكراسي/ في مقاهي الإنترنت"(ص24)، وهو نفسه الذي أضاع عرش سيف الدولة وصيّر المتنبي هاجياً "الخيل والليل والجراد"(ص41)، مثلما أضاع مهندسي مشروعات الثورة الأممية "بين فخذي صاحبة الجلالة"، غيفارا، كاسترو، لينين وماركس الذي اكتفى "بنصف لحيته/ كي/ يحرق/ بطون الرأسمالية" (ص43).
يسترفد الجسد، إذن، شعريّته من إسقاطات الذات وذاكرتها وتمثيلاتها الرمزية واللاواعية، كما من تراكم الأساطير والأيقونات الإيروتيكية، وتعيد من مجموع ذلك تحرير متخيَّله من فضاءات قامعة لسلطته، وبالتالي إضاءة بعضٍ من مسالك الذّات إلى مجهولها، حيث" الإيقاع لا يأتي من الكلمات، بل من وحدة الجسدين في ليْلٍ طويل" (ص28)، بتعبير شاعرٍ ما.

**
محمد مسعاد، زغب المياه الراكدة، منشورات الغاوون، بيروت، ط1، 2009م.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف