أوراق أدبية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
أيام النهر..
كنت أتصفح أوراق ذكرياتي، أتنقل من واحدة لأخرى، أو أقفز... رأيتني في الزورق مع عمي، يجدف بانتظام، وطيور البجع يتهادين على مقربة وكأنهن منا، ويرقصن على أنغام السيمفونية. ولما وقع أحد المجدافين من يد عمي، ومضى في المياه، هرعت أسراب منهن نحوه، وعدن به في أمان. وعلى مقربة من الضفة الأخرى، كان الشاعر يغمس طاقيته في الماء، ويشرب بها.. غمسها متلمظا، مرة ومرة، وقد تعتعه السكر، وتمثال أبي نؤاس يطل عليه و الكأس في يده مشعا. اقتربنا منه متسللين، حتى صرنا على بعد أمتار، وهو يغمس ويشرب، ويتطلع لشاعر الخمر والغزل، ويغني: "يا دجلة الخير قد هانت مطامحنا"، فتردد معه البجعات والأسماك الراقصة: " يا نازح الدار ناغِ العود ثانية"، وأردد معه، وتردد الأمواج معي: " ماذا صنعنا بأنفسنا!" واندفعت الطاقية بعيدا، فوثبت إليها سمكتان رشيقتان، أو كانت حوريتين- لا أدري- وهما تتمايلان بغنج، وتغمزان في إغراء.. وكان أن أرسل البدر إشعاعاته الأولى إلى المرقص الفضي المتموج، وانفجرت "الأنغام السمر عن أنات محزون"، هازئة بحكم السلاطين، وبدجل العمامة... غاب الجميع، وذاب البدر، ورفع التمثال يده محييا، وشرت دمعي في غربة المكان.... وهنا ارتجت الغرفة بفعل العاصفة، فسقطت الأوراق من يدي، ورأيت مخلوقات ما قبل التاريخ، من وراء الحدود، تنزف مياه النهر وتسرقها بعد أن كان وحش آخر، من قبل، قد اغتال البجع، واعتدى على الضفاف.... كان كل من المصاصين الشرهين يلف نفسه برايات عربية وإسلامية، علامة البطولة والزهو، والنصر في معركة كان النهر وتوأمه الضحيتين.... صحت: أين أحضان جدتي لنرثي المأساة معا، فتناهي لي صوت خافت، ولكنه واضح: " دجلتك وفراتك ما ماتا، وأيام بغدادك باقيات....في الذاكرة!"
الغياب...
عرفته طفلا. ورافقته صبيا وشابا.. حلوا، رشيقا، غامض الأفكار، صافي العينين. وغاب ذات يوم، ولم يعد. مر على حياتي، وغاب، كأنه لم يكن ولا أنا، وكأن عمرنا معا ما كان، ووحدها كتبي وأوراقي عرفت هول الفاجعة. كان يحدثني عن حبلى تتوحم لشبح بيضة، وطفل يتلمظ لذكرى تفاحة، وعجوز باعت خاتم زواجها وما بقي من سجادتها، وتلميذ ينزع نعليه لخوض بحيرة المدرسة. وروى لي مرة قصة سمعها عن بعوضة لبست تاجا، وحكاية شيخ ملتحي يصلي نهارا، وينهب ليلا. وكان يردد لي "عالماك الحب والجمال، فاغفر للممسوخين في نفق الظلام"، فأجيبه: "أحرقت عمري، والعمر أحرقني، وضباب الآمال والأوهام.. حتى إذا تهت وحيدا في الفلاة، عوضني حبك عما فات."
مر علي وراح، ولولا أنني أكتب، لتداعيت أمام الأحزان..