ثقافات

سحر وجماليات الحوار في سينما بيرجمان 1-2

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

حميد عقبي من باريس: سبق وان كتبنا العديد من المقالات في سينما انجمار بيرجمان ونشعر باننا بحاجة للغوص في عالمه الساحر والمدهش وسنحاول في هذا الموضوع التعمق في جماليات وسحر الحوار في افلام بيرجمان، الغني بصوره الفنية الحالمة وباعتباره يحمل الكثير من الصور التخيلية وليس مجرد عنصر تكميلي او مساند للصورة، كون هذا المخرج يعطي اهمية كبرى للحوار ليخلق من خلاله عوالم ميتافيزيقية ويتيح للمتفرج المشاركة الفعالة مثيرا الكثير من الجدل والقلق والاحلام.
انجمار بيرجمان شاعر سينمائي يبحث في دواخل الانسان ويحاول تلمس روح شخصياته بواسطة تصويره الوجه والاحساس بالصوت، يعمل في الكثير من الاحيان على الضغط وحبس شخصياته في كوادر مغلقة، يستخدم الاسلوب المسرحي ويعطي سطوة للديكورات، يتلاعب بكل عناصر اللغة السينمائية ليجبر شخصياته على الصراخ واخراج ما بدواخلها من شك وهوس وجنون، شخصيات بيرجمان تبحث في كل اتجاه عن الحلم والسعادة وتفر من مصير مكتوب وشقاء قاسي ومؤلم،هي كثيرة الارتباط بالحب والموت،كل فيلم اشبه بمعركة شرسة بين الكثير من المتناقضات وفي الاخير يكون هناك الفرقة وتفشل حياة الزوجيين اوالحبيبيين بصورة ماساؤية وقاسية، لدى بيرجمان رغبة لترك والهروب من التعاسة ولمس السعادة والعيش في سلام لكن الواقع القاسي لا يمكن تزويره وهولا يكتفي بعكس الواقع بل التغلغل ومحاولة قراءة ما وراء هذا الواقع بسبب المتغيرات الاجتماعية وتاثيرات اخرى مثل الإله والدين والموت والحرب وغيرها.
لذلك في افلامه يعكس هذا الخوف المسيطر على شخصياته وهذا الاضطراب الداخلي والقلق الروحي ليصور لنا الكائن الانساني في هذا الكون في سجنه وحزنه وجنونه، وهو يغذي افلامه بالكثير من سيرته الذاتية وذكريات طفولته ليخلق شعراً عنيفاً محطماً زيف الواقع لعله يريد خلق اضطراب لدى المتفرج بخلق عالم دون إِله او ملائكة.
الحوار في الافلام بيرجمان مثلها مثل الصورة موحية وتعبيرية ونوع من التلاعب اللامحدود بين الواقع وما وراء الواقع، بين المرئي واللامرئي، بين الحقيقة والخيال، بين الحاضر والماضي، وهو ليس مجرد عنصر جمالي مدهش بل هو نوع من السحر الشعري لربط المتناقضات واحداث نوع من الترابط بين الحلم والواقع ونوع من التعبير عن عذابات الجسد والروح للشخصيات.
بيرجمان يعطي نوع من الحرية للممثل لكي يعبر عن الحوار بطريقته الخاصة ويشارك بخلق هذا العالم المضطرب بحيث يكون لكل كلمة تاثير وليس مجرد ترديد وحفظ كلمات، هو يطلب من الممثل ان يشعر ويحس ويخرج كل حرف من اعماقه، وهولا يعمل الا مع ناس يعرفهم ويعوفونه ومتواصل معهم اي يفهمهم ويفهمونه ويشاركونه في خلق هذا السحر الذي نسميه سينما.
سينما بيرجمان يمكننا ان نقول انها سينما الحقيقة والكاميرا ثابيته او محمولة هي تنقل وجهة نظر المخرج،هي تبحث عن الوجه الانساني وتصطاده ثم تطبق عليه تلامس تعبيرات الوجه لتعريه وتنزع منه الاقنعة الخادعة، تتمعن في حركة الشفاه خلال نطق الكلمات او حتى خلال فترة الصمت، الصمت هنا لا يعني غياب الحوار بل يحاول المخرج تصوير ما يدور بذهن وخيال ودواخل شخصياته، شخصياته ناطقة اوفي فترات الصمت تهذي وتثرثر في لحظات السعادة والشقاء.
في الكثير من الاحيان يقوم بيرجمان بقراءة وجه الشخصية من خلال الحوار وياتي الحوار في الكثير من الاحيان لشرح الحالة النفسية لشخصية اخرى وتعابير الوجه وحركة الجسد، وهو في بعض الاحيان يقدم لنا بعض الشخصيات عبر الحوار فقط ولا يصورها رغم اهميتها وكانه يطلب منا ان نتخيلها ونخلقها ونحس بها ونعايشها وهي شخصيات فعالة وليست هامشية ويكاد لا يخلو فيلم من افلامه من شخصية غامضة ومخفيه يُظهرها عبر الحوار فقط.
يمكننا ان نتعلم كثير من اساليب بيرجمان المدهشة وخصوصا في الحوار وهذه الدراسة محاولة للتحليق والغوص في سينما بيرجمان عبر الحوار في الافلامه، لعلنا في السينما العربية بحاجة ماسة لمراجعة الاسلوب المتبع في كتابة وتادية الحوار، نحن في السينما العربية نعاني الكثير من المشاكل بخصوص الحوار كون البعض يعتبره مجرد عنصر تكميلي وهامشي وفي بعض الاحيان الحوار لا يحمل الكثير من الصور الايحائية اومجرد وصف لما يدور امام المشاهد لذلك نحن بحاجة للتوقف والتامل في سينما بيرجمان لعدة حلقات لعلنا ندرك بعض الاخطاء التي نقع بها في الكثير من الافلام العربية.
بيرجمان في حوارته حاول استنطاق روح شخصياته لذلك هو يركز على لحظات معينة مثل هذيان الشخص في حالة السكر اي عندما يكون مخمور او في حالة المرض ولحظات الألم وفي حالة النعاس وعند الاستيقاظ وفي حالة الغضب والسعادة وقبل وبعد ممارسة الجنس وفي حالة الخوف والاحتضار بل يذهب ابعد من ذلك باستنطاق الشخصية بعد الموت، كنموذج لذلك في فيلمه " صرخات وهمسات "ولعل السيدة الغنية انيس التي تموت ثم لا تجد ملاذ ولا تقبل السماء استقبال روحها تعود لتصرخ طالبة الأمن والسلام من اهل الارض، لا تجد سوى خادمتها المؤمنة لتعود لاحتضانها مرة اخرى وهنا لم تنفع صلوات القس الذي صلى كثيرا من اجلها وانما كان الحب هو قارب النجاة لتنتقل الروح بسلام الى بارئها...
يحرص بيرجمان في الكثير من الاحيان اختيار مشاهد حوارية بين الشخصيات قبل النوم او في حالة الاستيقاظ حيث لا يكون الجسد متوازن اي في لحظات تكون الشخصية فيها بين الوعي واللاوعي او بين النوم واليقظة، كثيرا ما نرى شخصية تتحدث قبل لحظات من غوصها في نوم عميق واحيانا لا نسمع العبارة او العبارات الاخيرة وعند الاستيقاظ بعض الشخصيات تكون متعبة ومرهقة وبعضها تكون نشيطة وديناميكية ولعل اختيار مثل هذه اللحظات الهامة واتاحة الفرصة للشخصيات للتحاور محاولة لاعطاء مساحة للمس الداخل بكل مصداقية والامساك بجوهر الشخصية.
نجد ايضا ان المخرج يحرص على ان تجعل شخصياته تسال الكثير من الاسئلة بطرق مختلفة حول قضايا عديدة ميتافيزيقية واشكالية مثل الحب والموت ووجود الالة والشيطان والسعادة وما بعد الموت وبعضها يتم طرحه بشكل عفوي مثلا في فيلم " الفراولة البرية " يدور جدل بين الشابان والفتاة خلال رحلتهم مع البرفيسور اسحاق ويتم النقاش حول وجود الاله والشباب والحب، قد لا تجد الشخصيات رد او تعريف محدد لهذه القضايا الاشكالية ليظل السؤال مطروح والجدل مفتوح وقد تكون الاراء متناقضة ففي اغلب افلام بيرجمان هناك رؤية للملحد وهناك اخرى للمؤمن وهو يدعهم يناقشون هذه القضايا دون ان يتدخل ويرجح كافة ضد اخرى رعم ان لديه وجهة نظر بالتاكيد وهو في احدى كتاباته قال بانه ليس بحاجة الى اله او ملاك او شيطان.
يحرص بيرجمان ايضا ان تكون بعض الحوارات في اماكن لها دلالات دينية مثل الدير او الكنيسة او في حفل او طقوس دينية ولعلنا سنلمس في فيلمه " الختم السابع" الحوار بين الفارس وملاك الموت الذي يختفي خلف قناع ويختار زاوية مظلمة ويتحدث الفارس عن شكوكة تجاه وجود الاله ولا يستطيع الموت اقناعه فالفارس لا يريد المعرفة المعتمدة على النصوص الدينية هو يريد ان يلمس ويرى الحقيقة رؤية مادية، كما اننا نلمس ان بعض الشخصيات يتاح لها فرصة للخطابة والحديث بصوت عالي اوتتاح لها فرصة ان تكون وحيدة ومعزولة لتبكي وتهذي وتعبر عن ما يدور من دواخلها من شك واضطراب والم.
انجمار بيرجمان في اغلب افلامه يجد لذة في نقل بعض ذكرياته الطفولية وخيالة الطفولي والحكايات الطفولية ولعل هذا جعل وجود طفل في فيلمه اوالحديث عن الطفولة والبنونة والابوة امر مكرر وكثيرا ما نرى شخصيات طفولية في افلامه لناخذ مثالا "فاني والاسكندر" ففي هذا الفيلم مثلا الشخصيات الطفولية ليست سهلة بل ربما تكون معقدة وقوية وهي لا تستسلم وغير قابل السيطرة عليها ولا تعترف ببعض الامور مثلا تادية الصلوات والتربية الدينية وسيطرة زوج الام وهي تقاوم هذه السلطات وتحاول التعبير عن رؤيتها تجاه القضايا، اي شخصية الطفل قد تكون معقدة وهذا التعقيد ناتج عن ظروف تربوية او تعقيدات داخل الاسرة ونجد هذه الشخصيات اكثر قربا من الام وقد تكون لها اراء تجاه الاب.
الحوار والجدل بين طفل او مراهق مع شخص اخر مسن او طاعن في السن امر نجده حاضرا بشكل ملفت في الكثير من افلام بيرجمان كمثال فيلم " الوجه " نجد الحوار بين الجدة الطاعنة بالسن وبين الشابة الخادمة سارة التي تطمح وتحلم بالحب والحياة والسعادة والطفل في افلام بيرجمان يكشف تعقيدات الواقع كمثال لذلك فيلم " الصمت" وقد تكون صورة الطفل مجرد حلم يدور حوله الحوار كما يحدث في فيلم " العار" فالزوجة تحلم بطفلة جميلة وفي المشهد الاخير حيث وجه الموت حاضرا والمستقبل مجهول فالزوجة والزوج بقارب في متاهة بعد هروبهم من شبح الحرب والزوجة تحلم بطفلتها الجميلة وتتفنن عبر الحوار بوصفها وكثيرا ما نجد في افلام بيرجمان شخصية حاضرة فقط عبر الحوار بينما لا نراها ابدا ونحس من خلال الحوار بها وعلاقاتها بالشخصيات الاخرى الحاضرة بالمشهد.
يتبع........
aloqabi14000@hotmail.com



التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف