ثقافات

الحلقة الحادية عشرة: أعراس أهل النجع... كان غريبا ان يجد اهل النجع عند عودتهم من الشعبة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

رواية جديدة لاحمد ابراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة الحادية عشرة: أعراس أهل النجع

ــــ 16 ــــ

كان غريبا ان يجد اهل النجع عند عودتهم من الشعبة، ان خيمة جديدة قد اقيمت، وان صاحب الخيمة ليس الا خليل مكاري، الذي اكتسب اسمه من مهنته التي اشتهر بها، باعتباره اكبر واغنى مكاري للحمير بمنطقة القبلة، ومركزه بلدة مزدة، كما كانت هي مركز اسلافه من اصحاب هذه التجارة، فهو يملك مئات من هذه الحمير، يبيعها ويقوم بتأجيرها لاهل المنطقة، كما يقوم ببيعها وشرائها في مختلف اسواق البلاد ويقصده الناس من سكان الجبل الغربي، يستفيدون من خدماته، ويؤجرون حميره، احيانا بالسائس الذي يقودها، ووصل عدد هؤلاء الرجال من سائسي الحمير ما يقرب من خمسين فردا يعملون تحت امرته، لكن تجارة الحمير بدأت تفقد اهمتها، بدءا من ختام الحرب، فقد صارت تتدفق على الاسواق سيارات نصف النقل والاخرى ذات الدفع الرباعي، وسيارات الشحن، واغلبها ياتي الى السوق نصف عمر، ويباع باسعار متهاودة، فهي سيارات عسكرية من مخلفات الحرب، احيلت الى سيارات مدنية، وطرحت في اسواق هذا الجزء من العالم، بعد ان انتهت الحاجة اليها عقب الحرب وتسريح الجيوش، وشيئا فشيئا صارت الحمير تتناقص في اسطبلات صاحبها بعد ان امتنع الناس عن تأجيرها، فصار يبيعها بارخص الاسعار يتخلص من نفقاتها، ويقوم بالاستغناء عن الشباب والصبيان الذين يسوسونها، ولم يستطع ان يكيف نفسه ومهنته مع اعمال ما بعد الحرب، فظل ينفق من مذخراته، ويستنزفها يوما وراء الآخر، وما وجوده اليوم هنا في وكالة بانايوتي، بين فقراء القوم الذين يبحثون عن لقمة عيشهم باقتلاع الحلفاء، الا دليلا على ما وصل اليه حاله من سوء، وما بلغه من انحدار بعد ايام الزهزهة والرخاء. وما ان رآه بعض الرجال يتجول في الوكالة متنقلا بين المتجر والمقهى والهناجر، في عملية استكشاف لمكان اقامته الجديد، ورأوا ما يرتدي من اسمال، حتى ادركوا حقيقة الوضع الذي وصل اليه، وقد وجد من بينهم من اقبل يحييه، ويبادر بتقديمه الى بانايوتي، مشيدا بمكانته عندما كان اكبر مكاري للحمير في منطقة القبلة، فلم يجد من صاحب الوكالة الا الترحيب والتحية، مؤكدا له انه سيجد هو واسرته في هذه الوكالة اخوة واخوات يشكلون اسرة كبيرة تحتضن كل من ينضم اليها، فأكد خليل مكاري لبانايوتي انه لم يأت ليكون رقما يضاف الى ارقام جامعي الحلفاء، وانما ليؤدي خدمة اكبر واكثر نفعا تسهم في رفع معدلات الانتاج وتعم بالفائدة على الجميع، اذ انه ما زال في حوزته ما يربو عن عشرين حمارا، احتفظ بها من سائر ما كان يملكه من حمير لانها عفية قوية ما تزال في سن الشباب وقادرة على حمل الاثقال بيسر ودون كلل، وقد راى استجابة لنصيحة بعض اهل البلدة، الا تبقى عاطلة هناك، وانما يأتي بها الى الوكالة، لتمكين جامعي الحلفاء من استخدامها في نقل محاصيلهم، ولن يطلب ايجارا كبيرا مقابل تاجيرها لهم، فاي ايجار هو بالنسبة له افضل من لاشي، ولذلك فلن يأخذ غير نسبة عشرة في المائة من قيمة الحلفاء التي سيحملها الحمار، وهو يامل ان يكون مجيئه بحميره هذه اسهاما في انجاح الوكالة ورفع العناء عن جمهور العاملين فيها، مضيفا الى ما قاله انه لن يتاخر هو واسرته في المشاركة في جمع الحلفاء بالاضافة الى تأجير الحمير، وعندما سأله بانايوتي عن مكان هذه الحمير لانه لا يراها، اجابه بانها قادمة في الطريق، يسوقها السائس ويهتم بتغذيتها اثناء رحلتها من مزده متوقفا بها عند المناطق المعشوشبة، ولذلك وصل هو واسرته يقودون حمارا واحدا يحمل عنهم الخيمة وبعض الادباش. وانتشر الخبر بين اهل النجع عن وجوده ووجود ما جلبه من حمير لتأجيرها بهذه النسبة الضئيلة فلم يترددوا في تاجيرها وساهمت احيانا اكثر من عائلة في تاجير حمار واحد لقلة هذه الحمير الى حد ان بقية ارباب العائلات ممن لم يتمكنوا من الحصول على حمير، ذهبوا يطالبون خليل مكاري بان يسعى لتزويد الوكالة بمزيد منها، ولم يحتفظ هو بغير حمار واحد لنفسه، وصار كل من قام بتأجير حمار يبقيه معه ويتولى الاهتمام به ويتركه يرعى في الشعاب ويبقيه مربوطا امام خيمته اثناء الليل وتزويده بما يحتاجه من شراب وعلوق وكانه صاحبه، ويقدم لخليل مكاري النسبة المتفق عليها من بيع الحلفاء التي يحملها الى الوكالة يوما بيوم في شكل كوبونات مما يقوم باستلامها عند البيع، وقد وجد الرجل نفسه محاطا بالود والتقدير، حيث افسح له شيوخ النجع مكانا بينهم ليكون احد افراد الحلقة التي تنعقد كل مساء حول صاحب الوكالة، مثله مثل الاومباشي جبران والحاج رضوان والفقي عمار واحيانا السيرجينتي خليفة، خاصة وانه ينتمي لذات المرحلة العمرية التي ينتمون اليها، وكلهم اصحاب عائلات ولهم اولاد وبنات بلغوا سن المراهقة والشباب، ولخليل مكاري ابن مثلهم، على مشارف العشرين هو ايضا، الا ان وجود الابن مع والده في النجع اثار شيئا من القلق لدى هؤلاء الشيوخ، لان للابن سمعة في العنف وسوء السلوك سبقت مجيئه، ورغم انه لم تبدر منه اية بادرة سوء منذ ان وصل، الا ان هناك تخوفا من سجل سيئاته، راى شيوخ النجع الافصاح عنه لرفيقهم الجديد بشكل لا يستفزه ولا يثير لديه حرجا ولا كدرا، وتم اسناد المهمة للفقي عمار الذي اتخذ حديثه سياقا قريبا من السياقات التي يستخدمها في خطب الجمعة، بما يرصعها به من احاديث نبوية واستشهادات من الذكر الحكيم، قائلا ان الحياة هنا تفرض على الناس نوعا من السلوك يختلف في اسلوبه عن سلوكهم في المراكز الحضرية مثل مزده، حيث الفصل كاملا ناجزا بين مجتمع الرجال ومجتمع النساء، اما هنا فقد حتمت طبيعة العمل على الناس ان يخرجوا بنسائهم واولادهم وبناتهم في مسيرة واحدة وان يعملوا جنبا الى جنب وهم يلتقطون الحلفاء في مكان واحد، هو دائما شعبة ضيقة بين جبلين، لا تفصل بينهم جدران ولا حواجز من اي نوع، ورغم ان الامهات وبناتهن يتخذن جانبا، ويتخذ الأباء والابناء جانبا اخر من الشعبة، فان هناك اتصالا وتعاونا وحديثا دائرا بين الجانبين، في حدود اللياقة والادب، ولهذا فقد كانت المهمة الاساسية للأباء والامهات امام هذا الوضع الجديد وغير المألوف في اماكن اقامتهم السابقة عن المجيء للوكالة، هي افهام اولادهم وبناتهم، ضرورة الالتزام الصارم بمحاسن الاخلاق، مع تشديد الرقابة عليهم، لكي لا يحدث انحراف او خروج عن السلوك القويم بسبب هذا النوع من التجاور الذي يصل الى حد الاختلاط، وان تضرب النساء الحجاب على وجوههن، وان يحترم الصبيان والشبان سمعة واعراض الاخرين، واكتفى الفقي عمار بهذا الشرح مخلوطا ببعض الاحاديث والآيات، متجها بالكلام الى خليل مكاري، دون اشارة صريحة الى ما تناهى لاهل النجع من سمعة ابنه السيئة، فقد وضعه في الصورة التي يلتزم بها الاباء والامهات ازاء ابنائهم وبناتهم في هذا النجع، متعشما ان يعرف الرجل واجبه في تشديد الرقابة على ابنه، وارغامه على التزام السلوك السوي، فلا تغريه حالة التواصل بين العائلات نساء ورجالا على استغلالها في ارضاء شهواته وممارسة انحرافه، ولم يكن خليل مكاري عاجزا عن فهم ما يقصده الفقيه من حديثه، او غافلا عن سمعة ابنه في هذا الصدد، ولهذا فانه فور انفضاض الجلسة، نهض مسرعا باتجاه خيمة المقهى، التي لم تكن تبعد سوى خطوات عن مكان الجلسة امام مكتب بانايوتي، ليجد ابنه يلعب الورق مع الفونسو، واستدعاه لكي يعود معه الى الخيمة، وفي الطريق اعاد على مسمعه ما كانه يقوله الفقي عمار، حول طبيعة الحياة والسلوك التي تقتضيها ظروف العمل في الوكالة، مذكرا اياه بانه تجاوز الان سن الطيش والرعونة، ويتوقع منه سلوكا يحكمه العقل والاتزان، جديرا بمن بلغ مثله مبلغ الرجال، فلا يريد ان يسمع عنه شيئا سيئا يجلب به المشاكل لنفسه واهل بيته، خاصة وان امامه بدل المهمة الواحدة مهمتين اثنين، اولاهما ان يجتهد في جمع محصول وافر من الحلفاء يحصل عن طريقه بيعه بمذخرات تعينه في تكوين نفسه وبناء مستقبل لحياته، لانه سيجعله يحتفظ بكل فلس لمواجهة ما يريده من مصاريف بناء اسرة وبيت، وثانيهما يقوم بمراقبة الحمير التي اكتراها اهل النجع، فهي في النهاية حميره وحمير والده، التي يجب ان يحرص على سلامتها، رغم وجودها في عهدة من قام بتاجيرها، فلا يسمح لاحد بان يسيء استخدامها او يهمل في اطعامها، لانه اذا فعل ذلك فسيتم سحب الحمار منه، وعليه ان يبتعد عن طريق اي فتاة من اهل النجع ويكتفي بالحرص على اكتساب صداقات الشباب امثاله ومعاملتهم بتهذيب واسلوب نبيل كريم، ولم يكن الاب اثناء هذا الحديث يسمع من ابنه الا ردا احدا هو كلمتي حاضر ونعم، مما اعطاه انطباعا بان موسى استوعب ما يدعوه اليه من انضباط والتزام، فذهب الى مهجعه راضيا هانئا، ولم يمض على هذا الحديث اكثر من يومين حتى راى الاب بمثل ما راى بقية الناس الذين كانوا يتواجدون في الشعبة عراكا شرسا ينشب بين ابنه وبين يوسف ابن الامباشي جبران، بسبب ان ابن الاومباشي شاهد ابن المكاري موسى يتبع اخته مريم وهي تقتلع الحلفاء، ويلقي باتجاهها بعض كلمات الغزل، مبديا اعجابه برشاقة جسمها و جمال ضفيرتيها، فراى في هذه الكلمات اجتراء على اخته وتحرشا بها، فما كان منه الا ان هجم عليه، يلكمه ويصفعه، ويطرحه ارضا قبل ان ينته الولد الثاني لما يحدث له فينهض ليباشر رد اللكمات والصفعات لمهاجمه، وبسرعة هرع اليهما بعض الرجال يفضون الاشتباك بينهما، ويسحبون كل واحد منهما الى مكان من الشعبة بعيدا عن الآخر، الا ان الامر لم ينته عند هذا الحد، وانما انتقل في المساء الى خصومة بين الابوين، فقد امتنع الاومباشي جبران عن ارتياد الجلسة اليومية التي تعقد امام الادارة، وارسل الى بانايوتي يعتذر عن حضور الجلسة بسبب انه لا يريد ان يكون موجودا في مكان واحد مع خليل مكاري، الذي لم يستطع رغم التوضيح والتحذير كبح جماح ابنه ومنعه من الاساءة لاعراض الناس، وكان رد خليل مكاري، انه مستعد لتقديم الاعتذار له عما بدر من ابنه، ويعده بانه لن يتكرر منه أي سلوك من هذا النوع، واذا لم يرضه هذا القول، فليتفضل الاومباشي جبران بابلاغه ما الذي يريده منه، وسيستجيب له في الحال، ونقل الحاج رضوان رد خليل مكاري اليه في خيمته، لكنه بقى غاضبا، رافضا ان يغادر الخيمة، قائلا له ان ما حدث جعله يفكر جادا في ان ينأى بعائلته عن موقع تلحقه فيه الاهانات، عائدا الى مكان اقامته في ضاحية مزدة، وكان اثر عودته من الشعبة قد اعاد الحمار الذي اكتراه من مكاري الى صاحبه، لانه لا يريد ان تجمعه اية علاقة مع هذا الرجل، وابلغ الحاج رضوان عن اسفه لانه لن يستجيب لاية وساطة تتصل بالشرف، ولا ينفع مع حادثة مثل هذه الا مقاطعة خليل مكاري وعائلته، تمشيا مع المثل الذي يقول " الباب الذي ياتي منه الريح سده واسترح "ولكن الرجل الذي قام بالوساطة رفض ان يعود الى الجماعة الذين ارسلوه بدون نتيجة، ملحا على صاحبه الاومباشي ان يقول له الشرط الذي يرضيه لينهي هذه الخصومة مع خليل مكاري، وردا على الحاح الحاج رضوان، وتحديا له، قال شرطه الذي مفاده ان غلطة تتصل بالشرف، مثل التي ارتكبها موسى بن خليل مكاري، في حق ابنته، لا يصلحها الا ان يتقدم الولد للزواج من ابنته مريم كدليل على حسن نيته، وقد تردد الحاج رضوان قليلا في القبول بان يتولى مهمة نقل مثل هذا الشرط، لانه يراه لا يتفق مع حجم الخطأ الذي ارتكبه الولد، وقد يكون ظلما له وظلما لمريم ابنة الاومباشي نفسها، ان يفرض عليها الزواج ويرغمهما على القبلول به، بسبب كلمة غزل طائشة ذهبت مع الريح، وليس عدلا في حق خليل مكاري الذي قد لا يكون مستعدا في هذه الفترة لتحمل نفقات تأهيل ابنه، ثم تبعات الصرف على العائلة التي تنتج عن هذا الزواج، فابنه مازال يعيش في كنفه وليس في حوزته عمل او دخل يجعله مستقلا بحياته عن ابيه، الا ان الاومباشي افهمه انه لا يرغم احدا على القبول بهذا الشرط، فهو يرحب بالقطيعة بديلا عن تنفيذه، ثم انه كلام يتوجه به للرجل الذي ارسله طالبا ان يسمع شرطه، فليتفضل مشكورا بنقله له، وله وحده حق ان يقبل او يرفض دون ان يلحق حامل الرسالة أي لوم او عتب، وهكذا وجد الحاج رضوان نفسه مرغما على حمل هذا الشرط الغريب الى الطرف الثاني، مع تعليق منه يقول فيه انه لا يراه شرطا معقولا ولا منطقيا، ناصحا المكاري بان يطلب مهلة للتفكير يمكن ان تطول حتى يتمكن مع اعضاء الجلسة من ارجاع الاومباشي عن ضلاله، وارغامه على القبول بالمصالحة دون تضحية منه او من ابنه بمثل هذا الحجم، الا انه فوجيء بخليل مكاري، يتحمس لقبول الشرط قائلا، بانه يعتبره يوم فرح وهناء، يوم ان يصاهر بيتا شريفا كريما عريقا مثل بيت الاومباشي جبران، وان فرصة تزويج ابنه فرصة كان يبحث عن وسيلة لتحقيقها، لانها ستكون مناسبة لوضع هذا الابن المشاغب الشقي، امام مسئولياته، واخراجه من مرحلة الطيش والاستهتار بالحياة، الى مرحلة الاهتمام بنفسه ومستقبله، ولذلك فهو يرحب بهذا الشرط دون تحفظ، ومع مثل هذه الاجابة، لم يكن هناك حاجة لكي يعود الحاج رضوان الى خيمة الاومباشي، لابلاغه بقبول شرطه، وانما ارسال علي نادل المقهى يدعوه، الى الالتحاق بالجلسة بعد ان وافق المكاري على طلبه ويرجوه ان ياتي لمناقشة التفاصيل، وعندما جاء قام خليل مكاري يعانقه ويقبل راسه طالبا من السماح قائلا تلك الجملة التي يضع بها الرجل المخطيء نفسه تحت امر صاحب الحق وهي:
ــ انت السكين وانا يا امباشي جبران اللحم.
معبرا عن قبوله راضيا سعيدا، باي شرط يريده، كل ما طلبه منه وهو يوافق على تزويج ابنه من ابنة الاومباشي، هو ارجاء الزفاف الى ان تتحسن حالته المالية قليلا، للوفاء بما يحتاجه العرس من نفقات، اما الفاتحة وعقد القران فلا مانع لديه ان تحدث منذ الان تاكيدا للارتباط وبرهانا على صدق النية من جانبه، وتدافع اعضاء الجلسة يبدون استعدادهم للمساهمة في وليمة العرس وذلك بان يتقدم كل واحد منهم بشاة ينحرها، واضاف بانايوتي الى الشاة تقديم بعض المواد التموينية من حانوته متمثلة في كرتونة من علب الطماطم المحفوظ، وكرتونه من علب الزيت وشوال من المكرونة واخر من البرغل الذي يصنع منه الكسكس، وتم الاتفاق بين الامباشي والمكاري على ان يتم حفل الخطوبة وقراءة الفاتحة يوم الخميس القادم، أي بعد خمسة ايام تبركا بليلة الجمعة، وان يحدث الزفاف بعد شهر ونصف من قراءة الفاتحة، وفي وقت من الشهر القمري القادم يكون فيه البدر في تمام اكتماله، ليساعد ذلك على احياء العرس والقيام بطقوسه، ولم يكن أي منهما، سواء الاومباشي او المكاري، بحاجة لان يرجع الى صاحب الشان او صاحبة الشان، أي العريس والعروس، باعتبار الزواج في مناطق القبلة، يتجاوز ارادة الاولاد والبنات ممن يعنيهم الامر، ويقتصر اقراره على كبار العائلة، وتعود الكلمة النهائية فيه لرب هذه العائلة، ولهذا فلم يكن ممكنا، ولا متوقعا، ان يرتفع صوت من كلا البيتين يعارض ما حدث، وصار يقينا لدى اهل النجع، ان موسى مكاري، سيتزوج مريم جبران، وتم وضع الترتيبات على هذا الاساس، وجاء اليوم المحدد لاعلان الخطبة وعقد القران، فتم افراغ خيمة المقهى من زبائنها واعداد كراسيها على شكل صوان كالذي يستخدم في الافراح ولانه عرس عربي بدوي وليس عرسا اجنبيا كما في حالة الفونسو وانجيليكا، فقد تم دون اختلاط، واحتل خيمة المقهى رجال النجع، يتصدرهم الفقي عمار، وبين يديه كتاب اصفر الصفحات يقرأ منه الصيغة المحفوظة لعقد النكاح، بما فيه من مقدمات تتخللها ايات من القرآن الكريم واحاديث الرسول، الى ان انتهى بسؤال الولي عن امر العريس والولي عن امر العروس، بان يرددا وراءه، كل على حده، صيغة القبول بالزواج نيابة عمن يتولى ولايته او ولايتها، والموافقة على مقدم الصداق ومؤخره المذكور في العقد، ثم يقومان بالتوقيع على العقد، ومن بعدهما يقوم بالتوقيع الشاهدان، وهما اليوم صاحب الوكالة بانايوتي ديميتريس، والضيف الذي داهم الوكالة بشكل مفاجيء الرائد صالح السردوك، وقد وصل محمولا على سيارة الجيب الحكومية رفقة سائقه ومعاونه، وحط قبل دقائق من انتهاء الفقي عمار من قراءة الديباجة التقليدية لعقد القراءة ولحظة ان بدأ في اخذ موافقة والدي العريس والعروس، قادما، حسب قوله، يلبي نداء الواجب، لانه لا يمكن ان يحدث عرس في الوكالة دون ان يكون حاضرا يهنيء اصحابه، مرددا على مسمع من كل الحاضرين، انه يضع وكالة بانايوتي دائما في طليعة اهتماماته، حريصا على متابعة اخبارها واحداثها، مع ان بانايوتي سال لحظة ان راي سيارته قادمة ان كان احد من عائلة العروسين قد دعاه فعرف انه وصل بلا دعوة، وخمن ان عميله رشيد الذي قال انه يطارد مجرما مدسوسا على اهل النجع هو الذي اخطره بوجود الحفل، فهو عميل موجود لمثل هذا الغرض ولا صحة لادعاء ان هناك مجرما يطارده، وبانايوتي يعرف ذلك ويعرف ان السردوك لم يات الا في اطار المطاردات التي يقوم بها لابنته، مدعيا حرصه على مشاركة الناس في افراحهم، لكن ماذا بامكانه ان يفعل لرجل من اهل السلطة والدولة مثله، غير المصانعة والمداهنة واتقاء شره بادعاء القبول به والترحيب بمجيئه.
وخوفا من سطوته ومنصبه، افسح له اهل العرس مكانا في الصدارة، ووضعوا اسمه في عقد القران باعتباره احد الشاهدين، وكانت فرقة الشوشان جاهزة بطبولها ودفوفها، كما كان عاشور جاهزا بمزماره الشعبي، لعزف وترديد محفوظاته من اغاني الاعراس بدءا بالاغنية التي تقول:
اشرك والبس تحت البخنون
المحزم خاوي جوفه
من صغره قلبي محروق
مهبلني بكلوفه

وكذلك اغنية

يا نوار البوقرعون
سحنتيني وانا مسحون

وصولا الى اغنية:

سلامي ارفعه ياريح
سلامي ارفعه وصحيح كلامي
للي خذي قلبي
وهاني، هايم في البراري هاني
ورامي
سبحتي وانسيح
سلامي
ارفعه ياريح

ودار خدام الحفل بكؤوس الروزاتا وكعك العمنبر الذي اعدته زوجة بانايوتي، باعتبارها صاحبة خبرة في اعداد مثل هذا النوع من المشروبات و الحلويات الطرابلسية، التي لا تكتمل الاعراس الا بها، وانتقلت الفرقة بعد تقديم وصلتها امام خيمة الرجال، الى خيمة النساء، وسط النجع، وهي خيمة اهل العروس، التي كانت تنطلق منها الزغاريد وغناء البوطويل، وقد اكتسب هذا الاسم لانه يعتمد على المد والطويل ورفع العقيرة بالغناء الى ابعد مدى ممكن واعلى طبقة يمكن ان يصلها الصوت البشري، وكل اغنية من البوطويل لا تتعدي عبارات قليلة تحية للعروس او للعريس، يرتفع بها صوت اكثر من امراة في وقت واحد
الله يجعلك شجره خضراء، وفيك القماري، يربح البايع ويربح الشاري
تقوله احدى النساء من قريبات العروس
فترد احدى قريبات العريس بتحية لابن عائلتها قائلة
مبروك يا غالي مبروك، على أمّك وبوك، وعالجماعه اللي يحبّوك
وقد توقف هذا الغناء الذي يتصاعد من نساء الفرح دون ان ترافقه طبول ولا مزامير بمجرد وصول الفرقة، وانتقل الى نوع اسرع ايقاعا، يرافق عزف الفرقة، وكانت اكثر نساء الحفل اناقة وجمالا وزينة، كما هو الحال دائما، بما لديها من لمسة مدنية، اجنبية، تميزها على نساء البادية، انجيليكا، التي كانت ترقص وتغني احتفاء بعرس صديقتها مريم، ورغم ان امها قامت بتبخيرها باعشاب الشيخة خديجة، الا انها كانت خائفة عليها من حسد النساء، خاصة ان بينهن امراة المكاري، ام العريس، وقد بدأ الناس في النجع يتحدثون عن قوة الايذاء التي تملكها عيناها، وقد وصل تاثير هذين العينين، الى العمة مريومة نفسها، بكل ما تملكه من وسائل التحصين والحماية لنفسها وما يقع في حوزتها، فهي التي نقلت ان امراة المكاري واسمها " تبره " نظرت الى احدى النبتات الطبية التي تزرعها امام خيمتها، وقد ازهرت وكبرت وتكونت من ازهارها الزرقاء تيجان جميلة، فابدت عجابها وهو تسلط عليها عينيها، فاذا بازهار تلك النبتة تتساقط كلها في لحظة واحدة وتصفر اوراقها ويصيبها الذبول، كان تلك النظرة كانت صاعقة ضربت النبتة، ومنذ ذلك اليوم صارت ترتل التعازيم والتعاويذ التي تحفظ هذه النباتات من العين، وكان خوفها يزداد وهي ترى الاعين تبحلق في جمالها وزينتها اعجابا واندهاشا، فتدعو في سرها السيدة العذراء والسيد المسيح ان يصونا ابنتها، وتاكدت شكوكها من نفاذ نوع من الحسد الى ابنتها، حال سماعها بان سيارة وصلت الى الوكالة تحمل السردوك، وقد ظنت ان حادث السير الذي وقع له في المرة الماضية، يجعله يفكر كثيرا قبل ان يركب سيارته باتجاه الوكالة، لكنه للاسف عاد، عارفة بينها وبين نفسها انه ما جاء الا بغية ان يضايق ابنتها ويتحرش بها، هذا النذل الخسيس، ولهذا صممت الا تعطيه فرصة ان يراها او يلتقي بها، وستبقى ابنتها في بيت العرس حتى لو اقتضاها الامر ان تنام هذه الليلة والليلة التي تليها في خيمة الاومباشي وهي ستكون معها، لكن الرائد السردوك لديه برنامج آخر، سعى جاهدا لتنفيذه رغم انه لا يكره ان تتكحل عيناه بجمال انجيليكا الحبيبة، الا ان عدم رؤيتها لن يقف عائقا امام تحقيق هدف اساسي من اهداف هذه الرحلة غير رؤية المراة التي ملكت عليه جماع قلبه، فقد اعطاه الفونسو، فرصة الضغط عليه، عندما تأخر في تسجيل نفسه في سجل المقيمين الجدد في منطقة القبلة، كما تقتضى لائحة المقيمين في البلاد من حملة الجنسيات الاجنبية، وفعلا انتحى جانبا بصاحب الوكالة يخبره بخطورة ان يتأخر صهره الفونسو في تسجيل نفسه، وانه لا يريد ان يستصدر امرا من نائب الوالي البريجادير هيوز بالقبض عليه لمخالفة اللوائح، بسبب العلاقة الطيبة التي تربطه به، ولهذا فهو ينصحه مخلصا، تجنبا لاي ملاحقات قانونية قد تضر بصهره، ان يذهب معه في سيارته الى مزده، ويقوم في الغد بتسجيل نفسه ووضع توقيعه في السجل المخصص لذلك، مصطحبا معه جواز سفره ليتم التقاط صورة له ولجوازه، فتنتهي المهمة بسلام وسيضع سيارة تحت امره تعيده صباح الغد الى الوكالة، وفاتحا معا الفونسو بهذا الاقتراح، وبتحريض وتشجيع من صهره، وافق على تنفيذه، وكان السردوك جاهزا بسائقه ومعاونه وسيارته للتحرك في ذات الليلة عائدا الى مزده مصطحبا معه الفونسو

يتبع غدا

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
السردوك
عبدالرحمن -

هل سيفتعل حادثاً آخر ليتخلص من الفونسو ؟

السردوك
عبدالرحمن -

هل سيفتعل حادثاً آخر ليتخلص من الفونسو ؟