ثقافات

اندريه تاركوفسكي.. شاعر السينما الروسية

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

حميد عقبي من باريس: من الصعب تعريف الشعر ولكن البعض يرى ان الشعر هو الجمال بكل روعتة وصخبه وطبيعته، والجميل يبحث في جوهر الأشياء وحقيقتها فهو يقف وسط بين العقلانية والإحساس وبين الشكل ومحتواه، وأجمل الشعر ذلك الذي يحلق بين العالم الخيالي والغير مرئي ويصوره ليخلق عالم مثالي روحي وانساني وهو قراءة للواقع وقد تكون قراءة الشاعر صادمة وعنيفة تفضح هذا الواقع وتعريه بكل حرية ودون خوف من اي لسلطة دينية او سياسية او اجتماعية واصدق الشعر ذلك الذي يحلق ويتعمق في دواخل النفس ليصور القلق والاضطراب الروحي ويعرض لنا ما يدور في نفس الشاعر عبر صور متحركة بأسلوب غير مباشر بعيدا عن الزخرفة والقواعد اللغوية المعقدة والجافة ليخلق موسيقى روحية فهو رحلة الى عالم الحلم والروعة والدهشة والسحر.

لدي شوق للكتابة عن المخرج الروسي الشاعر اندريه تاركوفسكي كونه يعزف بكاميرته لحن روحي انساني جميل ومدهش وكلما نشاهد افلامه نشعر برعشة داخلية ونحس بانه هو من يكتشفنا ولسنا نحن من نكتشفه، اخرج في حياته سبعة افلام طويلة كل فيلم اشبه بمجموعة من القصائد الشعرية الساحرة، واجه الكثير من الظروف الصعبة ولم يكن محبوبا من السلطات والهيئات الروسية بسبب نزعته الذاتية وميوله للالم الانساني فاعتبروه خائن وعميل للغرب والمعسكر الرسمالي وضاقت به الارض التي احبها ففر طريدا وعاش بقية عمره وحيد ومحروم من وطنه وزوجته وابنه وكان باستطاعته ان ينافق قليلا ليحصل على دعم لافلامه وكل ما يطمح له من عوائد مادية.
من المهم جدا ونحن نسافر الى عالم تاركوفسكي ان نتوقف قليلا مع طفولته فهو من اسرة ريفيه وابوه كان شاعرا لكن الاب انفصل عن الام فعاش اندرية الطفل في كنف ورعاية امه في بيت جده في قرية ريفيه، تعلق بامه التي لم ترتبط باي رجل للتفرغ لتربيته وتربية اخته ولعل هذا العالم اي عالم الامومة نلمسه في اغلب افلام تاركوفسكي وخصوصا فيلمه" المرآة" والذي قام بتصويرة بقريته واعاد بناء بيت العائلة بنفس الشكل وتحدث فيه عن طفولته وتعلقه بامه وصور مدى تعاسة الام وصبرها وقوتها، لو شاهدنا الافلام الاخرى سنرى حضورا طاغيا للمراة الوحيدة والمعزولة التي تفقد زوجها بل سنجد حضورا رائعا للعالم الانثوي حيث يمتزج الالم باللذة كما سنرى غياب الاب في اغلب افلام تاركوفسكي منذ فيلمه الاول "طفولة ايفان" الى اخر "افلامه" التضحية.
اندريه تاركوفسكي شاعر الطبيعة بعناصرها الاربعة، شاعر الصراع بين الماء والنار ومن خلال هذا العناصر يخلق موسيقى حساسة وحالمة ومرعبة في بعض الاحيان، فعناصر الطبيعة الاربعة اي الماء والهواء والتراب والريح متجاورة في جميع افلام تاركوفسكي لتخلق سيمفونية ساحرة وهي دلالات متعددة المعاني وهي مفتاح السر الابداعي لعبقرية تاركوفسكي يجمعها احيانا ويفرقها ويجعلها تتصارع وتتوحد وكثيرا ما نرى الانسان ينظر اليها يقترب منها ويبتعد يحس بها وهي تحس به وقد يتحدث اليها وتتحدث اليه وينصت لها وتنصت له وهي تعبر عن مخاوفه وقلقه وجزء من احلامه وهي سر مفتاح عبقرية تاركوفسكي واداة رسم يشكل مها لوحات حالمة وصاخبة وينحت من خلالها ايقاع الزمن ليخلق واقع ميتافيزيقي خيالي ومن خلالها يمكننا ان نلمس الروح الانسانية الصافية والايمان العميق لهذا الشاعر المدهش.
افلام اندريه تاركوفسكي نحت في الذكرة الانسانية والمتفرج سيشعر بروعة هذا السحر بغض النظر عن ثقافته ودينة ولغته، المهم ان يكون لديه استعداد لاكتشاف ذاته والتوغل في العمق الانساني، ولا يعني هذا ان الافلام معقدة بل هي بسيطة وعفوية كونه يصور الطبيعة كما هي ويصور الناس كما هم، ولكن الذين يرغبون في مشاهدة قصة او حكاية قد لا يجدون هذه الامور كون السينما بالنسبة لتاركوفسكي ليست حكاية الجدة والسينمائي ليس حكواتي، ورغم ان تاركوفسكي يقترب كثيرا من الادب الروسي الروائي ويعشق الثقافة الروسية لحد الجنون الا انه يبتعد عن السرد المنطقي الحكائي ويميل للغموض وقراءة اللامرئي وتصويره بطريقة خاصة فهو يزج بنا الى عالمه الشخصي واحلامه وذكريات الطفولة ويبتعد عن طرح القضايا السياسية والاجتماعية والدينية بطريقة مباشرة كون السينما بالنسبة له الفن الكامل المعبر وليس فن الخطابة والوعظ.
افلام تاركوفسكي هي عودة لاصل وجوهر الفن السينمائي الحقيقي حيث العالم هو امامنا موجود وحاضر، في الوقت ذاته هناك حضور للمُثل، هي تأخذ في حسابها كل هذه الامور حيث الكاميرا تصور الكائن الانساني في مكان طبيعي هذه الكاميرا تسجل لحظات من حياة الانسان بالتساوي، الموضوع الانساني يكون في المشهد والحركة ليست بعيدة عنه، سينما تاركوفسكي عادة تخلق صور لا محدودة كون تاركوفسكي دائم البحث عن المطلق في الحب والحياة والامل والحلم، في صوره نجد العمق اللامحدود كل صوره تعيش متحركة وحرة كل صوره اشبه بسؤال يطرح نفسه علينا وتسالنا ماذا نرى بالضبط? وهناك اصرار لجعلنا نفهم ونحس، دائما هناك امر معين يحدث وهناك اجراء يحاول احيانا تشتيت الانتباه اغلب الشخصيات في الكثير من الاحيان لديهم نوع من الحذر اي يحاولون الهروب منا كي لا نتعرف عليهم بشكل سريع ومباشر، يزجون بنا الى عالمهم ثم قد يتركوننا فجأة ولا يقدمون لنا المعلومات الكافية للتعرف عليهم بل يدعوننا لمشاركتهم لحظات الالم والسعادة والاحساس بعالمهم، في افلام تاركوفسكي الصراع الحقيقي ليس صراع مجتمعات ضد مجتمعات وحضارات ضد اخرى بل الحياة صراع الانسان مع ما حوله ومع ذاته ومحاولة اكتشاف مدى قدرته وقوة روحه وهل يتمتع بالايمان واليقين ولديه رغبة للحياة ام لا؟ الانسان بالنسبة الى تاركوفسكي هو الكائن الاكثر تعقيدا والخطر يهدد روح هذا الكائن في المقام الاول ويحاول مسخها وهو وحيد وضائع ولا امل بالنجاة الا التسلح بروح صافية وصادقة تحب الآخر وقادرة على التعايش مع الطبيعة وفهمها في عالم اصبح التواصل والتفاهم والانسجام امر صعب ومعقد بسبب مادية العصر حيث الانظمة السياسية وحتى الاديان اصبحت عاجزة عن فهم الانسان وارشاده الى طريق السعادة والحب والحياة.
aloqabi14000@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف