مارك دُلوز: الشعر على ارتباط وثيق بأشياء بسيطة لكنها جوهرية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ترجمة وتقديمعبدالقادر الحنابي: "في المطلق، ليس دور الشعر في تغيير الأمور. هل الحب يغيّر؟ كلا، الحب يعيد الأمور إلى مكانتها، وهكذا الشعر. أي علينا أن نعرف حدودنا، خطوطنا الحمر، صغائرنا وعظمتنا؛ شفافيتنا اللامعقولة
ولد في باريس سنة 1945، مارك دُلوز شاعر ورحالة بحكم الواقع. ديوانه الأول "ذكريات من بيت الكلمات" (1971) حمل مقدمة إعجاب بقلم لويس اراغون الذي وجد في قصائد دلوز المحملة بإكسير الليل، بداية شعرية تستحق الإعجاب والتقدير. غير أن دلوز توقف عن كتابة الشعر وتدوين ذاكرة الكلمات. فضل افتراش الصمت، وقد افترشه وتدثر به لمدة 15 سنة، مستهلكا معظمها في فعاليات أخرى تعويضية كمنظم للآخرين عروضهم المسرحي أو قراءاتهم الشعرية. وقد أعجبته هذه "الشغلة" التي تسمح للآخر الظهور أكثر من "الأنا"، حد أنه أسس مع رفيقته دانييل فورنييه، جمعية "رحاب الشعر"؛ المعروفة في الوسط الشعري الفرنسي، بتنظيمها قراءات لكبار شعراء العالم وتنظيم فعاليات شعرية ممسرحة ومعارض صوتية. وبحكم انغماره في لغة الآخر المتعددة، أغرته الترجمة فأصدر سنة 1978 انطولوجيا "الشعر الهنغاري المعاصر".
مارك معروف أيضا في الوسط الشعري العربي بحكم إشرافه ما بين 1998 و 2000 على مهرجان "أصوات المتوسط". فقد زار معظم البلدان العربية ودعا عددا كبيرا من الشعراء العرب للمشاركة في هذا المهرجان العالمي. أئكر عدة دواوين وكتب نثرية، من بينها "إنك كثير لتخال نفسك وحيدا" جاءت فيه القصائد مكثفة دون السقوط في تجريدية سطحية، شفافة دون أن تكشف عن عورة الإعجاب بالنفس، تشاؤمية دون أن تتحول إلى سوداوية مريضة. يتميز شعر مارك بأسلوب متوازن الصورة والإيقاع، يتحد فيه الموضوع وتناوله بحبكة شعرية منقاة من أي إسقاط عاطفي أو ثقافي (إسقاط بات غريزيا لدى الكثير من الشعراء)، وكأن الكلمات تم نحتها بتولا خارجة من حمام التجربة مع أئمة الحب، من نهر المعرفة الذي يجري دما نقيا في نسغ اللغة، من ذاكرة الشعر "هذا الجرح البطيء العنيف والسريع الزوال"، لكي تكون في مهب الحياة.
هنا قصيدتان: الأولى تتكون من 23 بيتاً كتبها مارك دلوز بصدد 23 قصيدة كتبها اسرائيل اليراز وترجمها برنار نويل إلى الفرنسية عن 23 صورة ألتقطها ايروين شينكباخ لتلك الفزّاعات التي شيدها الفلاحون الفلسطينيون في الماضي، وتآكلها الآن النسيان والاحتلال. القصيدة الثانية تتناول الكائن- الشاعر إزاء عالم الخواء، عالم الاسم والمكان. إنها قصيدة تأملية تبتغي "منبعا لرماد الشاعر في أي مكان، منبعا حيث الذهاب حقا ذهاب"..
ترمّل الرّيح
Le veuvage du vent
(الأزواج)
كانوا أزواجَ شفاه الغيم الرخيّة وكانت قبلاتُهم تسحقهم رغبةً
كانوا أزواجَ طيورٍ تخدش في لذّتهم الصدفويّة شرشف السماء
كانوا أزواجَ أطفالٍ مذعورين وساخرين يرمونهم بالحجر صرخاتٍ
كانوا أزواجَ حصى أشبه بثمر ساقط عند ركبتهم
كانوا أزواجَ أشجارٍ يعتقدون أنهم يقلّدونها لكن هي التي تقلّدهم
كانوا أزواجَ التلال المخضّبة كأكتاف الجواري بزرقة الندى الخبّازي
كانوا أزواجَ الريح.
(حدّ)
سيف الرجال مرّ ضارباً يميناً ويساراً
حالقاً الأشجارَ على خدّ الأرض كخنجرِ حلاّقٍ مجنون
مُسمّراً النسيانَ في رحم التلال الراسخ
مُقتلعاً أرجل الطير المتساقط كأهداب السّماء
مُرضرضاً صلصال السّحاب الرمادي
سالخاً الحصى حتّى تنزف كركبة الأطفال
مُقتلعاً ذاكرة الرّيح
(الرّيح)
مُذ
لم تكف الريح عن نسيان تاريخها
الطيورُ عن البحث عن مجثمٍ تنطلق منه
السّحاب عن مضغ جلد أغانيها الميّت
الأطفالُ عن السعي وراء الخوف الطفولي
الأشجارُ عن البكاء على مرآة تنمو فيها
الحصى عن السقوط كأسنان على الرّصيف
والجبالُ عن تقويس أجفانها المخزية
مذ، والريح أرملةٌ عمياءُ مظلمة.
صحراءُ حيث تتبخّر الكلمات
Deacute;sert ougrave; les mots s eacute;vaporent
جالسٌ.
ليس له أسم.
أجل، إنّه موجودٌ. أو بالأحرى:
على وشك أنْ يوجدَ.
جالسٌ على حافة الوجود الداخليّة.
إنّه عند تخوم تلٍّ من الرمل والبشر،
عينُه تواجه الفراغ المترامي أمامه،
تواجه تحدُّبه هو.
في صمت كينونته المفتوحة انفتاحاً لم يَعرف الأفقُ مثله، ما الفضاءُ
سوى نظرةٍ تعلّمهُ النظر.
ستسمّيه الصحراءُ.
الصحراءُ كلمة تطبعه داخل جلدها، مثلما
تكتبنا الكتب على صفحة الذاكرة الكبرى، على الإسفلت
الجيولوجي لطريق تتجاوزنا.
لا يُحرَك ساكناً.
يتحركُ الزَمن ويتقدّم نحوه.
الوجودُ، آتٍ من أقصى اللانهائي، هو الذي يقترب منه
يقتلع، أثناء مروره، بقايا رمليّة من قمّة الكثبان
كقشورٍ ميتةٍ من سطح الشمس، مثلما يقتلع
الحب والألم من الأجساد المنضّدة نشارةَ مقاطعٍ لفظيةٍ عابرة.
يسكتُ.
أنْ يكتبَ، لا يستطيع.
على وشك أن يوجدَ، عليه أن يحافظ على داخله المُتاح.
جالسٌ، فلنتركه هناك.
نحن
هنا.