جنس أدبي يُحظى بالشعبية والشهرة في الجزائر: الشعر الملحون

كامل الشيرازي من الجزائر: تشتهر مناطق جزائرية عديدة بظاهرة الشعر الملحون وهو ضرب من الأدب الشعبي الذي يلحن ويغنى، وبقي متألقا على امتداد قرون بفعل تفنن أجيال من الشعراء الموهوبين على ممر العصور.
أينما حللت وارتحلت في ولايات الجزائر من شمالها إلى جنوبها أو من شرقها إلى غربها، تقف منبهرا بقوافل من الشعراء الشعبيين الذين سلكوا دروب أسلافهم، وامتطوا صهوة الشعر الملحون، ليعبروا من خلال الأخير على آمال وآلام مواطنيهم ومختلف التمظهرات الاجتماعية وتفاصيل الأساطير والملاحم وقصص الحب على مساحة وسطى تمزج مزيدا من السحر والحلم.
ويشرح الأكاديمي البارز "العربي دحو" أنّ الشعر الملحون في الجزائر، لا يأخذ الأوزان المعروفة في البحور الخليلية كقاعدة في نظمه، وهو غير خاضع لنظام التفعيلة العروضية ويراعي عدد الحركات فحسب، ويحيل أ/دحو على اعتماد القصيدة الجزائرية الملحونة على قافيتين وقد تمتد إلى ست قوافي في القصيدة الواحدة، خلافا للشعر الشعبي في منطقة الخليج الذي يقتصر على قافية وحيدة مضاهية للشعر الفصيح والقصيدة العمودية.
كما يلفت الباحث "عزيز جولاح" إلى كون مدينة مازونة (330 كلم غرب العاصمة) تشكل مرجعية الشعر الملحون في الجزائر، وتشكلت بها منذ القرن السادس عشر لجنة ذات مستوى عال، كانت تجيز شعراء الملحون الذين كانوا يفدون إليها من مختلف أنحاء البلاد، فيما كان يتم تدوين القصائد المتميزة في دفتر حمل مسمى "كناش مازونة"، مع الإشارة إلى أنّ جذور الشعر الملحون تعود إلى قدماء الأمازيغ وتطور أكثر مع قدوم الهلاليين إلى الجزائر.
وعن الموضوعاتية التي طبعت القصيدة الملحونة، يشير جولاح إلى أنّ الأخيرة ظلت منفتحة على سائر القضايا الاجتماعية والوطنية، فضلا عن خوض شعراء الملحون في ضروب من الغزل والتصوف والرثاء والزهد والمديح النبوي.
من جانبه، يعتبر الأستاذ "نور الدين بن عطية" أنّ اهتمام الجزائريين المتنامي بالشعر الشعبي يعود بالأساس إلى الثراء الذي عرفته البلاد على مدار أحقاب متلاحقة، ونبوغ شعراء محليين لا يشق لهم غبار، على غرار الشاعر "أبو عثمان سعيد بن عبد الله المنداسي" الذي عاش في القرن السابع عشر الميلادي واشتهر في الموزون والملحون، وقضى المنداسي حياته متنقلا بين مدينة تلمسان الجزائرية، والمملكة المغربية، واشتهر هناك بين الشعراء المغاربة وتتلمذ علي يديه الكثير منهم.
ومن أشهر قصائد المنداسي "العقيقة" في مدح النبي الأعظم، وقام العلامة "أبو راس الناصر الراشدي المعسكري" بشرحها استنادا إلى مراجع تاريخية، كما نسج الشاعر "الطاهر بن حوى" على منوال المنداسي وذاع صيته بعدما نظم قصيدة شهيرة حول مبايعة الأمير عبد القادر الجزائري.
وحول الخيط الرفيع الذي يربط شعراء اليوم بالأمس، يوضح أ/بن عطية أنّ شعراء الملحون تأثر جلهم بالشعراء القدامى من فحول الملحون أمثال "محمد بن قيطون"، "عبد القادر الخالدي"، "سيدي لخضر بن خلوف"، و"مصطفى بن براهيم"، وهو ما رسّخ دعامة الاستمرار في الابداع والتنوع والثراء مع تتابع الأجيال وتواصلها.
بهذا الشأن، يشير الأستاذ "محمد مفلاح" أنّ معظم من نبغوا في هذا الأدب الشعبي، تتلمذوا على يد شعراء عاصروهم، ويبرز من هؤلاء: الجموعي بلمصطفى - أحمد بوزيان - رياض البوسعادي - الشارف بخيرة - عبد القادر بن زحاف - محمد بن طيبة - عدة زغيش - العربي لرزق - محمد بن يمينة - محمد بطيب - الجيلالي شامي وعابد شيخاوي، علما أنّ مراجع محلية تحصي ما لا يقل عن 70 شاعرا كبيرا من 25 ولاية.
ولا يقتصر الشعر الملحون في الجزائر على الرجال فحسب، بل لبنات حواء أيضا تواجدهم القوي على ساحة هذا الجنس الأدبي، ونذكر بين الشاعرات البارزات كل من "بدرة بن الطيب" و"الزهرة صفصاف" اللتين تكتبان الشعر الملحون إلى جانب الفصيح.
وتبقى محافظة غليزان (320 كلم غرب الجزائر) الحاضرة الأكثر احتضانا لشعراء الملحون، حيث احتضنت كوكبة من الفطاحل الذين يتميزون بمستواهم الثقافي العالي، كالشعراء "خالد بصغير"، "نذير بلفوضيل"، "قويدر مدّاح" و"رشيد بلوش" اللذين لهم حضور متميز في المهرجانات والعكاظيات ببلدان المغرب العربي وفرنسا، مثلما تغنى بشعرهم الكثير من المطربين.
وتعميقا لمكانة الشعر الملحون في المجتمع المحلي، ودوره في التبليغ والتعبير عن حياة الناس وسلوكياتهم، تنظم الجهات الرسمية تظاهرات كل عام بهدف حفظ تراث الشعر الملحون، وتمكين جمهور الشعراء من الاحتكاك وصقل ابداعاتهم فكريا وأدبيا.
وبشأن مستوى شعر الملحون حاليا، يرى الشاعر "عبد القادر عرابي" أنّه حتى وإن كانت القصائد التي تجود بها قرائح الشعراء الشباب جيدة، إلاّ أنّ هؤلاء في حاجة الى التتلمذ على المشايخ وعرض أشعارهم عليهم كما فعل أسلافهم، حتى يصلون إلى نتاج شعري راقي.
ويركّز عرابي على ضرورة مراعاة الشعراء الجدد اختيار الكلمات التي تتناسب وجيلهم، وعدم استعارة الكلمات التي كانت مستخدمة لدى نظرائهم القدامى.
ويدعو "حميد بوحبيب" أستاذ الأدب الشعبي إلى أرشفة ذاكرة الملحون شعرا ونثرا، ويهيب بالقائمين على شؤون الثقافة لتأسيس مركز مختص لتوثيق التراث والكنوز الثمينة والضخمة التي أبدعها المخيال الجماعي في الجزائر.
وبمقابل تنويهه بالاهتمام الكبير الذي يوليه الطلبة والباحثون للأدب الشعبي عموما، يشدد أ/بوحبيب على ضرورة توافر مؤسسات وفرق مختصة في الجمع والتدوين على المديين المتوسط والبعيد.
* مقاطع من القصيدة الملحونة "أمجاد دولتنا" للشاعر "الجموعي بلمصطفى":
أذكـر يا تاريخ أمجــــاد دولتنـا =*= وسطـــــر جوابـــك لكـــل ســـؤال
عـرَف بتاريخ سيـــرة رفعتنـــــا =*= والخيـر القـدام مـــازال و مــازال
فخــــــرنا بها مسيـرة شرفتنـــا =*= و بعـــد الله للرجــال أفضـــــــال
قلنا نعيشــــو أسيــاد بلدتنــا =*= ما نبقوش ا تـبــاع للبـراني خيال
أتحدينا الزمــــان الأيـام فهمتنـا =*= صدت لينــــا ورضـــانـــا الحــال
قاومنا والنــاس كلهـا سمعتنـــــا =*= والجزائــر بينـــت فيها رجـــــال
الأميــر و البــاي بينـوا رجلتنـا =*= والرجــلة و النيـف فيـنا خصــال
بوعمـامـة ثائـــر حــــرك همتنــا =*=والمقــراني شيــــخ نــسيـانه محـال
فــــاطمة نسومـر ذيــك حرتنــــا =*= شهدت بطولاتهــا جــــرجـرة وجبــال
جهــاد المقاومــة سيــرة قرتنـــا =*= خلت المحتـــل ما يهنـــئ له بـــال
الشيخ الإمــام حـــرك نخوتنــــــا =*= وما بخلو شيـــــوخنــــا بنضـــال
رجــــال العلــم قــادوا مسيرتنـا =*= ولينـا النضـال بعدهـــم سهــال
خمســـة وربعيــــن فيها صدمتنـــا =*= الثــامن مـاي فيــــه دمنا ســال
جريـمة فرنســــا حنــا ورتنــــا =*= عــزمنا منها ما يبقــــى احتــلال
أول نوفمبـــر فجـــر ثورتنـــــا =*= وصبحنا مـن بعــــد ليالي طـــوال
ربعــــــة وخمسيـــن بداية عزتنـا =*= و فخر التاريخ و رثــــوه الأجيـال
ثورتنــا فـي العـــالم شهرتنــــا =*= وعسكرنا ليهم تحيــة و إجـــــــلال
قوتنــــــا جـات مـــن وحدتنـــا =*= والفرقـة ســاعة الحــرب اهبــــال
المحتـــل جيوشـــــه مــا هزمتنــا =*= لا موريس و مثاله لا المــــــارشـال
و الأطلس قوتـــه مــا خـــوفتنــا =*= لا مدافـعهـــم و لا قنابــل نبــال
بعــــــون الله جــات نصرتنــــــا =*= وحنا في العــدة نتسمــــاو قـــلال
حقـــرة المحتـــــل زادت شحنتـــنا =*= عـزمنا نتحـــــرر أنسا ورجــــال
أحنــا معروفيـــن يــاك بهدتنـــا =*= مـــانا هــــدارة بينــابأفعــال
وحدة الثـــــورة فـرضــت قوتنــا =*= قداش مــن شعــــوب دارتنا مثــال
قلنا لا سلا م يـــرهـن ذمـتنـــا =*= والحمـــد لله حنــا منـــــــاش ذلال
سبعة عوام وشهـــور ما تعبتــــنا =*= حـروبنا فيــها بــــانوا الأبطـال
تعبــــت فــــرنسـا مـن احتلتنـا =*= وشـافـــت منا خسائــر ثقـــــال
وذليلة في أيفيـــــان فاوضتنــــا =*= قالـت الصحـــرة و نشـد الرحـــال
قالـوها الشجعان ما هــــي خطتنـا =*= شبــــر ترابنا مـا يتبــاع بمـال
و سلا حنـــا هـــدر يــا عدوتنــا =*= التفــــــراط فـيهـا بلادنا محـال
اثنين وستيـن وقفــــــــت عركتنـا =*= مـارس النصـــر بعـدو استقـــــلال
خمســـــــة جويليــة كملت فرحتنـا =*= وعلـــت رايتنا نجمـــة وهــــــلال
وما جـاتــش هكـــــذاك حريتنـــا =*= عبـرة ديناها من ســـورة الأنفــال
المحتل عـــــــدو ديمـــة لا متنــا =*= إذا دخل بــــلادنا يخــرج بقتــــال
وهذا باختصــــار فخـــر قصتــنـا =*= حكايتنا اليـــــوم ذكـرى واحتفـال