ثقافات

الحلقة العشرون: في مواجهة طائر الشر... ولم يكن بانايوتي في سره مطمئنا

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

رواية جديدة لاحمد ابراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة العشرون: في مواجهة طائر الشر

ولم يكن بانايوتي في سره مطمئنا لهذا الحشد من العساكر والسيارات والخيام والسلاح، ويراها قضية يفتعلها السردوك، لياتيه في هذا الموكب المخيف لارهابه، ويقضي في هذا الجوار بضعة ايام، يفرض خلالها سلطانه، ويضع البشر والشجر والحجر تحت سيطرته، ومن هذا الموقع المتعالي، والمكان المتميز المهيمن على من حوله وتحته، يعلن رغبته لواحد صغير ضئيل من رعاياه اسمه بانايوتي، تعطف وتلطف وتنازل وتواضع يخاطبه، ويطلب منه الزواج من ابنته انجيلكا، تشريفا لها وتكريما لاهلها، وعليه ان يتلقى الامر حامدا شاكرا، ويلبيه مسرعا متحمسا، لانه لا مجال للتعاطي مع صاحب مثل هذه القوة، الا بالطاعة والاذعان، لكي لا تظهر منه شبهة تمرد وعصيان، لامر قادم من تلك المشارف السامية فتناله اللعنة ويحل به اقسى انواع العقاب. نعم، انه لا يظن بان هناك مثل هذه الحملة الطارقية، التي يبلغ مقدارها مائة فارس، وماهي الا قصة ملفقة، املاها عليه خياله المصاب بداء العظمة الكاذبة، لظنه انها الطريقة الناجعة لتحقيق اغراضه.
وتعبيرا عن احساسه بالطمأنية وسط هذه الاجواء المشحونة بالتوتر والاستعداد للقتل، تعمد السردوك ان يأخذ الحديث بعيدا عن المظاهر العسكرية التي جاء يقيمها فوق ارض الوكالة، وبدأ يتحدث عن بهاء وجمال الحياة في البادية، كما يعيشونها في جنائن العرعار، ضاربا المثل بهذه الجلسة، في هذا الهواء المضمخ بعبير الاشجار، وهذا المكان الذي تغطيه سماء مرصعة بالنجوم، وانه شخصيا لو صح له ان يختار نوعا من الحياة ومكانا يعيش فيه لما وجد افضل من حياتهم في هذه الوكالة، ولكنه، كما قال بشيء من المباهاة، ليس حرا في نفسه، ولا في المكان الذي يختاره لحياته، وان ما يقوم به من عمل كقائد امني، لا يقوم به باعتباره وظيفة يتقاضى منها مرتبا، وانما كرسالة يؤديها لصالح وطن يتهيأ لبناء دولته الحرة المستقلة باذن الله، ويشارك في العبور بالبلاد، من مرحلة ما قبل الاستقلال، الى ما بعد انجازه، وهي مرحلة دقيقة، صعبة، تحتاج الى اقصى حد من البراعة والحيلة والخبرة، لكي لا تنتكس المسيرة لا سمح الله.
ولم يكن الاومباشي جبران ليرضى بتمرير هذا الكلام دون وضع جملة اعتراضية، تضعه في سياق، يخرج به من التميز الذي يعطيه السردوك لنفسه، فقال مؤمنا على كلام السردوك، مصادقا على صحته، مضيفا اليه بان هناك مسئولية مشتركة تفرضها المرحلة على جميع المنتمين لهذه البلاد، ليبيين وغير ليبيين، ضاربا المثل بهذه الوكالة، معتبرا ان العمل الذي يقومون به من خلالها، عمل وطني من الطراز الاول، يقودها رجل ليبي بالاقامة، هو بانايوتي، الذي جلب عملا لكثير من العاطلين من اهل القبلة، واتاح لهم الانخراط في هذا العمل الوطني، الذي لا يقتصر خيره عليهم وعلى عائلاتهم فقط، ولكنه يفيض على الوطن كله، باعتبار ان الحلفاء هي المصدر الاول للعملة الصعبة للبلاد، وهي تحمل الرد الناجع على دعاوى قوى الاحتلال التي تريد تعطيل استقلال البلاد بحجة انها بلاد عاجزة عن تدبير موارد تعيش بها، بينما الحقائق تؤكد ان ادارة الاحتلال نفسها تعتمد على مثل هذه الموارد، فلولا وكالة بانايوتي وما تدره من عملة صعبة ما استطاعت الادارة شراء مثل هذه السيارت الهادرة، ولا هذه البنادق الحديثه.
واثبت حديث الاومباشي جبران، ان هذه المحطة التي اختارها السردوك للحديث، لم تستطع ان تبتعد طويلا عن موضوع الساعة وهو هذه القوة الرابضة فوق ارض الوكالة، وبنادقها وسياراتها التي اشار اليها الاومباشي، واخذ الحاج رضوان خيط الحديث مبديا استغرابه من ذلك السلطان الطارقي الذي بلغت به الغشامة، والجهالة، ان يتصور ان باستطاعته ان يتحدى الحكومة بمجموعة فرسان من قبيلته مهما كان عددهم، فشرح له السردوك ان السلطان تانان لم يكن يهدف لمواجهة الحكومة، وانما لتنفيذ اوامره وتاكيد سلطته بين قومه، والقيام بهذه المهمة في غفلة من اعين الحكومة، ناسين ان للحكومة اعينا ترى وترقب وتصل الى مدى يغطى اقصى ركن في صحراء الوطن " اذ كنت شخصيا اضع هذا السلطان تحت نظري بسبب ما حدث لرجاله وبسبب معرفتي بردود افعال رجال مثله، وصدق حدسي عندما وصلتني اخبار ما يريد القيام به من اخلال بالامن، فاستنفرت هذه القوة لتدمير خطته "
وانصت الحاج رضوان لكلام السردوك، وعندما انتهى اتجه بسؤاله الى خليفة مكاري، باعتباره صاحب سوابق في التعامل مع شيوخ الطوارق، عما اذا كان السلطان تانان هو الذي سبق ان تعامل معه، وهو يبيع بضائع يحملها من طرابلس الى شيوخ جنوب الصحراء، فاجابه بانه فعلا تعامل مع الشيخ تانان، وتعرف عليه، ويستغرب الان وهو يعرف انه هو الذي ارسل المجموعة الاولى، لانه راى فيه شيخا حكيما، يستخدم العقل في معاملاته وقراراته، وليس العصبية والغشامة كما يفعل غيره، اذ انه رجل يحفظ كتاب الله، وسبق ان تلقى تعليمه على شيوخ كبار من اهل الدين، بينهم الولي الصالح الذي جرب اهل الصحراء بركاته واسراره، وجعلوا ضريحه بعد ان مات مزارا تؤمه القوافل، ويستنجدون باسمه في وقت الشدة قائلين، ياسيدي عمران يا ساكن في درمان، وهو الجبل الذي تسمى به المنطقة حيث دفن، فياتي سيدي عمران لنجدته وانقاذه واغاتة كل من يستنجد به. ولهذا يضيف المكاري، بانه يبدو غريبا ان يرسل هذا الشيخ العالم الصالح مثل هذه الحملة التي تريد الانتقام من بشر ابرياء يسكنون هذه الوكالة، حتى وهم يحمون فتى من فتيان قبيلته، اعتبره عاصيا مارقا خطف ابنته، لانه يعرف ان حماية المستجير انما هي شرف في عرف اهل الصحراء وليس جريمة، كما ان المكاري على ثقة من ان السلطان تانان لو علم حقا بان الفتى بنى بالفتاة على سنة الله ورسوله لسامحه وعفى عنه.
الا ان هذا الكلام لم يكن ليعجب السردوك، الذي اعترض على اطراء المكاري لسلطان الطوارق، قائلا بان هؤلاء السلاطين جميعا يشبهون بعضهم بعضا، ولا يغير التعليم وحفظ القرآن الكريم في طبيعتهم شيئا، لان هذا العلم يبقى حاضرا في القشرة الخارجية للشخص، فيراها المكاري الذي التقى بالسلطان ليوم او يومين، اما الذين عاشروه وعاشوا تحت سلطته، يعرفون كيف يتصرف كل واحد من هؤلاء السلاطين بقسوة ووحشية مع اهله، بحجة الضبط والربط، ومنع الانشقاق داخل القبيلة او الخروج على صفها، فهو مستعد لان يقوم بتعذيب الناس وحبسهم، ويصل الامر الى قتلهم، وارساله لهذه الحملة المكونة من مائة فارس، ليس في الحقيقة قتلا لرجل واحد هو اوسادن الذي صدر الامر بقتله، وانما هو قتل لكل هؤلاء الفرسان المائة الذين ارسلهم، لان هذا بالضبط ما سيحدث لهم، في حالة وصولهم الى هذا المكان، فاين العقل والحكمة لدى مثل هذا الرجل. وكانت دورة ثالثة من الشاي الاخضر، المعطر بالنعناع، والمخلوط بالفستق السوداني المحمص، قد حان وقتها، فشرب كاسه في جرعة واحدة، وبفم مليء بالفستق، استاذن في العودة الى عساكره، ليتناول العشاء معهم ثم ينام.
وكان لابد ان تأتي تلك الحظة التي ينتظرها بانايوتي ويخشاها، لحظة ان دخل السردوك عليه المكتب في صباح اليوم التالي، يفاتحه في موضوع رغبته الاقتران بابنته، واعدا بانه سيلبي كل طلباتها، وسيضع نفسه تحت امرها، وسيسخر ما في حوزته من مكانة اجتماعية وقوة سياسية، ورتبة قيادية في الامن، لتوفير اقصى درجات الراحة والسعادة والهناء لزوجته، وانه لن يمانع بل سيكون سعيدا سعادة بالغة اذا ارادت امها ان تعيش معها لمؤانستها، وربما الاعتناء في وقت لاحق باطفالها، بل وليته يرى صديقه بانايوتي، يترك عناء العمل في الوكالة لمن ينوب عنه، وياتي هو الآخر ليعيش معه ويسكن في عاصمة القبلة، وسيجد دارة كبيرة لها فناء واسع، وترتفع طابقين فوق الارض، تصلح للم الشمل، وهو بيت قديم من بيوت العائلة، اشترى حصة الاخرين الذين يشتركون في حق هذا الارث، واعاد تجديده وتأثيته فصار بيتا حديثا تتوفر فيه كل الخدمات، واستطرد شارحا المزايا التي ستستفيدها الزوجة ويستفيد بها اهلها من هذا الزواج، بما في ذلك ثلاثين نفرا من الشرطة، مستنفرين لخدمته وتلبية اوامره وسيجعلهم في ذات الوقت بمثابة خدم لها ولاسرتها، فهو رئيسهم الذي لا يستطيع الواحد منهم ان يخالف له امرا. وللحظات بعد ان اكمل السردوك كلامه، ظل بانايوتي صامتا، وعينا الرجل الذي يجلس على كرسي امامه معلقتان به، تنتظران في لهفة وترقب ما سيقوله، الى ان استغرب السردوك هذا الجمود، فقال متسائلا في اندهاش عن السبب وراء صمت بانايوتي، فبادره الرجل بجملة قصيرة اجاب بها على سؤاله اتخذت شكل سؤال استنكاري، عاد بعدها الى الصمت، هي:
ــ وماذا تريدني ان اقول؟
وظنه السردوك سيواصل الكلام، الا ان بانايوتي، عاد الى جمود التماثيل، فاستفزه السردوك قائلا:
ـــ اريدك ان تقول على بركة الله، وتضع يدك في يدي، وتدعني اقرأ الفاتحة شكرا لله على الفوز بالزوجة التي يريدها القلب.

وهنا تحركت ملامح بانايوتي، فبدت اكثر قسوة مما كانت عليه وهو صامت لا يتكلم، فهي ارتعاشة غمرت ملامج الوجه متوافقة مع حركة شفتيه وهو يقول:
ــ ولكنك قلت، وبحضور نائب الوالي، وفي مكتبه، ان هذا لم يكن هدفك في يوم من الايام، وصدقتك فيما قلت، فكيف تأتي اليوم لتقول كلاما يناقص ذلك الكلام.
ــ لا وجود لاي تناقض فيما قلته، كل ما حدث ان الظروف تغيرت، فقد كانت ابنتك في عصمة رجل آخر، وكان الحديث عن اي خطبة او زواج حديث سابق لاوانه، مخالف للذوق السليم، اما اليوم وهي امرأة حرة من اي ارتباط، فانني اتقدم بكل اعتزاز لطلب يدها منك.
ــ الم تكن انت الذي سعى لتطليقها من زوجها؟
ــ كان الفونسو رجلا لا يستحق ان تأتمنه على هذه الجوهرة المكنونة، المسماة انجيليكا، هذا ما قلته سابقا، وما اقوله الان بعد ان تخلصتم منه، وانا لم ارغمه على تطليقها، انما هو الذي كان مصلحجيا انتهازيا وهو يتزوجها وكان كذلك وهو يطلقها، فارجوك ان تحمد الله او ان تصلي له شكرا وعرفانا لجميل نعمائه لانه اكرم ابنتك بتخليصها من هذا الزواج، وانه ساق اليها رجلا يعرف قيمتها، موجود الان امامك.
ـــ الا ترى ان زواجك من ابنتي زواجا ينقصه التكافؤ؟
ـــ لماذا لا سمح الله؟ هل لانني رجل سبق له الزواج؟ ان انجيليكا الان امرأة سبق لها الزواج ايضا. هل لانني اكبر منها سنا؟ نعم، فالمساواة في السن ليست ميزة، وانظر الى زوجها الاول ومعاملته الدنيئة لها رغم انه في سنها، المهم هو انني احبها واعرف مقدارها وسارعاها كانها اثمن جوهرة في العالم، احرسها واصونها بين اهذابي، واعطيك عهدا بذلك، ولك حق ان تأتي وتأخذ ابنتك لو خالفت هذا العهد. اما عن السن فانظر كتب السماء ومسيرة الانبياء من سيدنا ابراهيم ابو الانبياء الى سيدنا محمد آخرهم، لتجد انهم جميعا يقرون بسلوكهم وسيرتهم وجود هذا الفرق في السن بين الازواج والزوجات.
وفي النهاية، عندما وجد بانايوتي ان السردوك، لا يريد ان يرضى باجابته التي تعارض وترفض طلبه، ارجأ الموضوع قائلا ان صاحبة الشأن لم تقل رأيها بعد، وسيلتقي به بعد ان ينقل اليها رغبته، ويعرف ما ستقوله له حول هذا العرض الذي تقدم به.
انتهز السردوك فرصة دخول احد عمال الوكالة لاستشارة صاحبها في شأن من شئون العمل، فقفز خارجا من المكتب متجها الى الحانوت حيث يعرف انه سيجد انجيليكا هناك، وراى امرأة عجوز من اهل النجع تلتحف بردائها داخل الدكان، وعندما رأت رجلا غريبا يدخل اليه، اسرعت الى الخروج مؤجلة شراء ما تريده الى وقت آخر، وصافح هو المرأتين، متمنيا ان يكون الطقم الذي اهداه الى انجيليكا قد اعجبها. وفي صمت اتجهت كاتيا الى احد الادراج تفتحه وتخرج الصندوق الاخضر الوبري، وتمد يدها به الى السردوك دون كلام، وقف هو مبهوتا لا يمد يده، فتكلمت كاتيا قائلة:
ــ ارجوك ان تأخذ هديتك معك، لقد اعطيتني الصندوق وخرجت مسرعا دن ان تبقى دقيقة لتعرف رأيي، ولم اشا ان اركض خلفك خارج الحانوت لاعيده اليك، وسط الحشود التي كانت تملأ المكان، فشكرا لانك جئت هذه المرة، لكي اقول لك، وتقول لك انجيليكا،شكرا للهدية التي لا نستطيع قبولها.

اقتربت منه ودفعت الصندوق بين يديه بقوة وحزم الى حد لم يجد معه الا ان يفتح يديه ويأخذه منها، وظل ممسكا به، مبديا استغرابه لهذا الموقف قائلا انه يقدم الطقم هدية يعبر بها عن المحبة التى تجمعه بعائلة بانايوتي والصلة التي تربطه بها، لكنه لم يجد استجابة من كلا المرأتين، فالمحبة محفوظة، والصلة، كما قالت له كاتيا، موضع تقدير واحترام دون حاجة لدخول الاطقم الذهبية بينهم وبينه. وهنا اضطر السردوك الى استباق الاحداث ونقل للمرأتين ما كان يجب ان يتركه للأب ينقله اليهما في الوقت الذي يناسبه، وهو موضوع مفاتحته في طلب يد ابنته، وقال لهما ان الهدية لم تكن الا مقدمة وعربونا لهذه الخطبة، التي فاتح بشأنها صديقه بانايوتي، وهو باعتباره ابا محبا لابنته، لم يكن يريد ان يتورط في قول شيء قبل ان ينقل اليها الخبر السعيد، ويعرف رأيها، لانها هي صاحبة الشأن قبل اي احد آخر. وارادت كاتيا ان تتكلم بطريقتها الهادئة الدبلوماسية، خوفا من رد ابنتها باسلوبها العصبي وطريقتها المتشنجة، الا ان انجيليكا سبقت امها الى الكلام، ولكن ليس بما توقعته الام من عصبية وغضب، وانما بصوت هاديء، وباسلوب مهذب رزين، قالت له بانها تشكره على حسن ظنه بها، واختياره لها لتنال شرف ان تكون شريكة حياة رجل عظيم المقام مثله، ولكنها كما يعرف خرجت لتوها من تجربة زواج فاشلة و....
وقاطعها السردوك قائلا:
ـــ طبعا سننتظر انقضاء ايام العدة الستين، فهو امر طبيعي تقول به الشرائع والاعراف.
وعادت انجيليكا تواصل ما انقطع من كلامها:
ـــ لا اتحدث عن العدة يا سيادة الميجور، اتحدث عن امرأة مثلي خرجت من تجربة زواج
انتهت نهاية مؤسفة، وتجد نفسها في حالة نفور من الزواج، غير قادرة على ان ترد على اي طلب للزواج، ومهما كان صاحب الطلب رجلا عظيما مثلكم،بغير جملة واحدة، هي لا سبيل الى ذلك مع الاسف الشديد.
فوجيء السردوك بهذا الرفض الواضح الصريح يأتيه من صاحبة الشأن مباشرة، وباعتباره رجلا لا ينقصه الذكاء والدهاء، اراد اللعب على الوقت، قائلا:
ــ ارجوك ياسيدة انجيليكا، ان تاخذي وقتا في الرد، فلا حاجة للاستعجال، ولقد دار حديث بيني وبين ابيك ارجوك ان تستمعي اليه كاملا منه، لان به شرحا لشروط وظروف الحياة التي اعددتها لك، يستحق منك النظر والتفكير، وساترك هذا العقد لانه خرج من ذمتي ولن يعود اليها، اما الرد فنتركه الى ما بعد ان يعرض عليك والدك الموضوع.

ترك الطقم فوق البنك، امام كاتيا، وخرج عائدا الى خيمته، ضمن خيام المعسكر الذي اقامه الجنود. غاب اليوم كله، دون خروج من موقعه العسكري، حيت تلقى تقارير فرق الاستطلاع، متمترسا بخيمة القيادة التي يستعمل شقا منها لنومه، لا يرى الا اعضاء بعثته العسكرية، وفي اليوم التالي، وفي ساعة الضحى التي يعرف ان بانايوتي سيكون فيها بمفرده في مكتبه، اتجه اليه ليسمع منه الكلمة الاخيرة التي تحمل الرد على طلبه يد ابنته، وافهمه بانايوتي فور دخوله الى المكتب، انه لم يطرأ اي تغيير على الموقف كما سمعه بنفسه من صاحبة الشأن، وانه حاول ان يضع امامها المزايا التي ذكرها له بالامس، الا ان عذرها كان هو نفس العذر الذي ابلغته به، وهو انها لا تربد ان تخوض تجربة الزواج في المستقبل القريب، لا اعتراضا عليه، ولكن هذا ما كانت ستقوله لاي انسان في الدنيا حتى لو كان ابن ملك اليونان نفسه، ولهذا يريده ان يقتنع بصدق ما تقوله انجيليكا، ولا فائدة من ارغام امرأة على الزواج الذي يجب ان تقبل عليه برغبة وحب وسعادة، ولعلها، كما اخبره بانايوتي، الا تكون هذه هي كلمتها النهائية في الزواج منه، وسيكون هناك رأي آخر بعد اجتياز هذه المرحلة الانتقالية، فلماذا، تساءل بانايوتي يهديء من غضب السردوك الذي تحول وجهه الى صفحة سوداء كالظلام، لا يعطيها شيئا من الوقت حتى تهدا نفسها وترضى بمعاودة تجربة الزواج من جديد. كان يعرف انه لا يقول هذا الكلام الا تحايلا على رد فعل السردوك الذي يدرك انه سيكون عنيفا سخيفا، ولكن السردوك الذى احتقنت الدماء في وجهه وامتلأت ملامحه بالغضون، لم يقل شيئا، خرج مغضبا بخطواته العسكرية السريعة، يصرخ صائحا باسم الشاويش الذي يتبعه مثل ظله، وكان واقفا ينتظره في الشمس خارج المكتب.
ــ شاويش عمر.
سمع بانايوتي صوت الشاويش عمر الذي جاء لصاحبه مهرولا، وهو يضرب الارض بقدمه لاداء التحية العسكرية قائلا:
ــ نعم سيدي.
وسمع السردوك يرمي بالامر في وجه الشاويش عمر صارخا:
ــ هيا ابلغ الجميع بالاستعداد للسفر، لقد انتهت المهمة.
ثم رآه بانايوتي يعود الى المكتب بنفس الخطوات العسكرية السريعة، وبنفس الوجه الذي احتقن بالدماء السوداء، قائلا بلغة صارمة، لا صراخ فيها، ولكنها تقترب من فحيح الافاعي، فتبدو اكثر خطورة، محملة بنذر الشؤم، اكثر من لغة الصراخ:
ــ تعودت ان اسعى في طلب حاجاتي من الناس بالحسنى والمعروف، ولكن عندما لا يأتياني بنتيجة، فهناك دائما سبل أخرى يا سيد بانايوتي.
وسكت قليلا قبل ان يضيف:
ــ قد لا تعرف انهم يسمونني في انحاء القبلة بطائر الشر، وهو اسم لم يأت من فراغ.
وبنفس الخطوات الغاضبة، ذات الطابع العسكري، خرج يضرب الارض بايقاع صاخب مضى يتابعه بانايوتي حتى تلاشى.
ودون ان يكون هناك رابط مباشر بين رفض بانايوتي لطلبه يد ابنته، وبين المهمة التى جاءت هذه القوة العسكرية لادائها، فانه بمجرد ان ان تلقى السردوك هذا الرد السلبي على طلبه، حتى انهك اعضاء القوة في تقويض الخيام وفك التدابير الخاصة بالمتاريس والدشم وردم الخنادق وحمل الاسلحة وصناديق الذخيرة ووضعها في السيارات، وانضمت بعد قليل سيارتا الاستطلاع، مما بدا واضحا انهما توصلا باشارة انتهاء المهمة، وفي منتصف النهار تماما كانت زوبعة من الغبار، يثيرها في الفضاء هذا الرتل الطويل من السيارات متجها الى المنفذ المؤذى الى خارج جنائن العرعار. انتهى ذلك الجو الحربي الذي اشاعه رجال الشرطة وسياراتهم وطرقات نعالهم العسكرية فوق الارض، وقد كان اهل الوكالة يتوقعون ان تستمر مهمتهم اسبوعا او اكثر، خاصة بسبب الاسلوب الذي استخدمه السردوك في تصوير الخطر الداهم الذي يهدد الوكالة، وقد كان استغرابهم كبيرا وهم يعودون من الشعاب ليجدوا ان تلك القوة قد غادرت الوكالة، دون ان يترك السردوك بعضا من اعضاء هذه القوة، احترازا وتحوطا لامكانية ان يظل الخطر قائما ما يزال، وكان على بانايوتي الذي عرف الناس انه الوحيد الذي استفرد بلقاء القائد الامني خلال يومين متتالين،ان يواجه سيلا من الاسئلة يأتيه من اهل النجع، عن سبب عودة القوة بهذه السرعة، وهل حقا انتهى الخطر، وماذا كان تبرير قائد القوة لانسحابه السريع المفاجيء، ولم يكن يستطيع ان يصارحهم بالافكار التي كانت تراوده منذ البداية عن حقيقة ان الخطر كان مفتعلا كاذبا من اساسه، اختلقه الرائد السردوك لاسباب لا علاقة لها بسلطان الطوارق وهجومه، كما لم يكن ممكنا ان يفصح عن معرفته بان الخطر الذي يتهدده ويتهدد وكالته لم يكن اصلا من فرسان الطوارق، ولكنه من ذات الرجل الذي جاء بادعاء حمايته من هجوم الطوارق، الرجل الذي ذكر له ان له اسما لم يعطه له الناس من فراغ وهو طائر الشر، هذا هو الشر، وهذا هو الخطر، الذي يعرفه بانايوتي ويصلي لخالق الكون ان يقيه منه.

يتبع غدا

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف