من أجل فلسفة محايثة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
حسن أوزال: لاشك، أن المثالية أو الميتافيزيقا في الفلسفة هي مجرد أوهام على أساسها انتعشت الظاهرة الدينية (الله، الأخلاق، العقل....) مؤسسة لقيم ارتكاسية مافتئت تفصل الإنسان عما يستطيعه، فهي بدل أن تقر للإنسان ككائن راغب، بطبعه المحايث للوجود، أغرقته في مستنقع التعالي؛ وثمة بالطبع فرق شاسع ما بين المحايثة والتعالي. فبقدر ما نعني بالمحايث ما ينطوي على علة ذاته، سواء في الواقع أو المادة أو الجسد بقدر ما نعني بالمتعالي ما يجعل الإنسان منفصلا عن وجوده الاجتماعي كما عن عالمه الواقعي.
المحايثة إذن تأكيد على أن الأفكار لا تسقط علينا من السماء كما يرغب المثاليون أن يجعلوننا نعتقد بل تأتينا من الأرض كما من الجسد في تفاعله مع التاريخ، فوحدها الأفكار التي تأتينا ونحن ماشون ذات قيمة (1). على اعتبار أن عملية التفكير لا تحصل لوحدها ولذاتها بل تتوقف على سلطة من القوى وتستجيب لعدد من الضغوطات. مسرح الفكر إذن خارج ما دأبنا على تسميته بالذات أو الوعي فهو دوما موصول مباشرة بشيء "خارج " عنه un dehors ".ونحن لن نبدع مفاهيم إلا في ارتباط بهذا "الخارج"أي هذا الشيء الذي يستدعي الفكر ويحثه إلى مواكبة السير في تلك الدروب الموصدة، تلك الدروب التي لا تؤدي إلى أي مكان رغم أنها تؤدي إلى كل الأمكنة على اعتبار أنها مكمن تلك الفرادات les singulariteacute;s التي على حد تعبير دولوز ما أن نحدد العلاقات ونفك ألغاز الروابط الكامنة ما بينها حتى نستخرج المفاهيم. كيف لا ودولوز"فيلسوف القرن" هو ذاته من مدّد العديد من الفرادات الليبنتزية مثلا نحو الهندسة والموسيقى الباروكية مكتشفا بأن ما يميز عصر الباروكية إنما هو كونه تشبت أيما تشبت بمفهوم الثني والطي. هنا نؤكد على خاصيتين اثنتين وشمتا الفلسفة: الأولى فلسفة غدت موصولة بعقل لا فلسفي، لكنها داخليا،فلسفة ما تفتأ تنتعش بفضل حركة الطي الغريبة واللامنقطعة، وهي حركة لا تلبث تؤشر على بعد الغرابة ذاته أي هذا "الخارج" بما هو خارج الفلسفة. فهذا الخارج الذي يسكن الفلسفة هو ما يدفعها إلى الخلق والتفكير على الرغم من أنها كفلسفة لا تفكر فيه. ليست الفلسفة إذن موضوعا خاصا كالوجود، الحقيقة،الآخر، الذات ولا نسقا مغلقا، مما يعني ألا شيء يوجد خارجا عنها. فنحن نعتبر فلاسفة أيضا ونحن قيد الاشتغال على السينما أو سلوكات الحيوانات أو النباتات. فالفيلسوف وغير الفيلسوف ما فتئا يتبادلان مواقعهما. وهنا تكمن راهنية كل فكر مادام أن أمر التفكير منذور للجميع.فهو ليس ملكية أحد، فضلا عن كونه غير قابل للمتاجرة. فمن الممكن لأي كان أن يربط علاقة حية مع الفلسفة مثلا حتى في صيغها القديمة مادام أن المشاكل لا يمكن أبدا تجاوزها. أو لنقل أنها دوما خاضعة لمنطق التكرار لكنه تكرار مختلف يقتضي منا إعادة صياغة هذه المشاكل من جديد لكن على نحو مخالف لأصحابها. هانحن نلج مستوى آخر من الاستشكالات، حيث تتقاطع الفلسفة والسياسة وحيث ينبغي لنا البوح على حد تعبير غاتاري "أنه قبل الوجود ثمة السياسة".إذاك وجب علينا عدم جعل الفلسفة تختزل في محض خطابات تبريرية. ذلك أن ارتباط الفلسفة بالسياسة، تصورا وممارسة إن دل على شيء فإنما يدل على أن الفلسفة هي ما به نكشف عما استجد من صراعات وما طاف على السطح من قضايا سياسية جديدة. إن توظيف الفلسفة سياسيا يقتضي من بين أول ما يقتضيه لا تبرير سياسات قائمة الذات بل إنتاج وقائع سياسية جديدة وإعطاء إمكانات ملموسة وهي تلك الإمكانات التي يستعيد فيها الإنسان جسده ويستوطن فيها الفكر أرضه. ذلك أن مشكلة الإنسان في الوجود ليست أكثر من مشكلته مع الجسد، فقضية الجسد هي قضية الغذاء والمأوى، الحياة والموت، الصحة والمرض، الطهارة والدنس، الله والشيطان....ولا يعدو الكره التاريخي للجسد سوا ء باسم الدين أو فلسفات اللاهوت أن يكون مجرد عداء تاريخي للرغبة والمتعة والحياة. لذلك على ما هو بيِّن كان كل ما يحيل لهذا الثلاثي منبوذا: فكل ديانات الكتاب مثلا تنبذ المرأة ولا تفضل إلا الأمهات أو تلك اللواتي استنفذن إمكانيتهن كنساء وافتقدن بعدهن الأنثوي أو لنقل بتعبير أوضح، افتقدن أجسادهن ولم يبق لهن غير الأجسام، على اعتبار الجسم نظام للحاجة بينما الجسد نظام الرغبة(2). فليست الرغبة حاجة، حاجتنا لشيء حرمنا منه بل هي فعل من حيث هو إنتاج production، ووحده إذن من يمتلك جسدا لا جسما قادر على الإبداع والخلق مادام بطبيعة الحال يحوز قوة الإنتاجية الكامنة فيه من حيث هو آلة راغبة. وإذا كان المجتمع الاستهلاكي اليوم، أكثر اشتغالا على مبدأ الرغبة، فهو لا يفتأ يخلق رغبة غير منتجة رديفة للنقصان. إنه إذ يحول دونما قيامنا كأجساد، يرمي إلى تكديسنا كأجسام معاقة مشمولة بالحرمان والنقص،تحيا على حد تعبير أونفراي،متعة الامتلاك hedonisme de lrsquo;avoir لا متعة الوجود hedonisme de lrsquo;ecirc;tre. في الحالة الأولى يكون المرء عبدا للمال فلا يستمتع إلا على نحو ما يستهلك و يتبضع، و لا يستلذ إلا قدرما يمتلك ويراكم بينما الأمر بالنسبة لمتعة الوجود غير ذلك بكثير، فالمستمتع بوجوده نقيض المستهلك تماما:إنه من يحيا متعة الفكر وينتشي وهو قيد بناءه لذاته واشتغاله عليها خالقا منها حياة فلسفية مستقلة كليا عن فيروس الامتلاك.
- Nietzsche , creacute;puscule des idoles, penseacute;e 34.
2- عبد الصمد لكباص، الفرد الكونية والله الحق في الجسد ص80، دار وليلي للنشر، ط 1، منشورات مركز الأبحاث الفلسفية بالمغرب 2007.