الحلقة الرابعة والعشرون: نزاع بين عشاق انجيليكا... لم يكن لدى الفونسو خطة واضحة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
رواية جديدة لاحمد ابراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة الرابعة والعشرون: نزاع بين عشاق انجيليكا
لم يكن لدى الفونسو خطة واضحة عن ما هي هذه المحنة وكيف يمكن صناعتها، بل هو لم يكن يريد اساسا تقديم مثل هذا الاقتراح المؤذي لصهره السابق اونكل بانايوتي كما يحب ان يسميه، الا بعد ان رأى الخطط الجهنمية الاخرى التي يذخرها السردوك له، حيث ان خطته ربما تكون اقل ايذاء، وتقدم بديلا اقل ضررا من تلك الخطط، وهو لن يتطوع بالبحث عن وسيلة لتنفيذ هذه الخطة، فهي مهمة السردوك، اذا وجد لذلك سبيلا، وهو يتمنى صادقا الا يجد اي سبيل لوضع بانايوتي في مثل هذه الورطة او المحنة، بل لا يراه حقا قادرا على فعل ذلك حتى لو اراد، فالسردوك يستطيع بما يمارسه من انحراف وفساد ان يكسب مالا يقدمه مهرا، ويستطيع ان يسعى لتزوير رخصة مثل رخصة الوكالة، لكنه لا يتصور انه يبلغ من القوة والسلطان حدا يجعله يدبر بلوى يرمى بها في طريق بانايوتي، وينجو من العقاب، بل ويخرج من هذه المؤامرة، كاسبا، قابضا على يد انجيليكا كعروس له. انه برغم الاقتراح الذي ابداه، فانه واثق من ان السردوك لن ينجح في تنفيذه، ولعله يستطيع، خدمة لصهره السابق، ان يعطيه فكرة عما يحاول السردوك تدبيره له في الظلام ليأخذ حذره منه. انه لن يقف صامتا ازاء ما سمعه من خطط انتقامية يتفنن في حبكها، وسيقترح خططا ينفذها بانايوتي لمواجهة مخططات السردوك، لكي لا يأخذه على حين غفلة.
وجدت الكلمات التي قالها الفونسو، صدى في نفس السردوك، ورآها تقدم له القاعدة التي يبني عليها خطته في الفوز بانجيليكا، وصار محور تفكيره الان هو هذه المحنة التي يجب ان يضع فيها بانايوتي، وكيف يستطيع رسمها وتنفيذها في اسلوب محكم يضمن لها النجاح. ليس افضل من استغلال اي جريمة قتل تحدث في المنطقة، ليضعه بين متهميها، يزيف له دليلا او شاهدا، يستطيع اذا ما جاءت ابنته صاغرة، تتوسل ان يتزوجها مقابل اطلاق سراحه، ان يقوم بسحب شهادة الشاهد او بطلان الدليل، فينقذه من التهمة ويعيده بريئا الى بيته، ولكن المشكلة طبعا في جريمة القتل، لانه قد تمضى الاعوام دون حدوثها، وعندما تحدث عبر هذه الرقعة الواسعة من ارض القبلة، فلا ضمان لوجود بانايوتي قريبا من مسرحها، او وجود الجريمة قريبا منه، وهو الرجل الملتزم بالعمل الدائم في وكالته، قد يمضى العام دون ان يغادرها، والسردوك طبعا لن يتورط في تدبير جريمة قتل في الوكالة او في اي مكان اخر، قد ترتد عليه، ولهذا فقد يسعى لتوريطه في شيء سياسي، يسهل ادخاله فيه، ويسهل اخراجه منه، ويسهل المبالغة في خطورته، كما يسهل نزع الخطورة عنه، ولاشك ان التهمة السياسية قد تكو اكثر امانا بالنسبة لمدبرها، الا ان الصعوبة هي ان الرجل المستهدف بالتهمة ليس مواطنا من اهل المنطقة، وليس مواطنا من اهل البلاد، يخضع لسلطة ضابط امن ليبي مثله، وانما لسلطة اعلى، هي سلطة ضابط من جيش الاحتلال، فلا سبيل للقبض عليه وسجنه الا بامر يصدر من الوالي او من احد نوابه، ولهذا راى ان يشرك البريجادير هيوز معه، في وضع خطته، وكان نائب الوالى هو الذي جاء عرضا على هذا الموضوع اثناء مروره به في مكتبه لامر يتصل بالعمل، قال بعد ان فرغ من مناقشة الموضوع الذي جاء من اجله:
ــ لا تقل انك مازلت تفكر في الانتقام.
ــ ليس انتقاما يا سيادة البريجادير، وانما البحث عن حل، وفقا لنصيحتك.
ــ وهل وجدت سبيلا الى هذا الحل؟
ــ قد لا تصدق ان الفونسو الزوج السابق لانجيليكا، هو الذي اشار الى هذا السبيل، باعتباره اكثر الناس خبرة بزوجته السابقة؟
ــ ماذا قال السنيور الفونسو؟
ــ قال انها اذا رات والدها يعاني من مشكلة ما،وان لا سبيل الى خروجه من هذه المشكلة الا بموافقتها على الزواج، وافقت من اجل انقاذ والدها الذي تتفانى في حبه.
ـــ وهل حقا تريد ان تصنع للرجل مشكلة من الهواء؟
ــ دعابة، نريدها ان تكون مجرد دعابة للرجل، نقبض عليه ونضعه يوما في السجن، ثم نفرج عليه.
ــ وهل نفعل معه هذا، جزاء والولائم الكثيرة التي اقامها لنا عندما كنا في ضيافته؟
ــ نستطيع ان نكرمه، ونقدم له ولائم اكثر بذخا اثناء وجوده في الحجز.
ــ وماهي التهمة التي ستتوجه بها اليه؟
ــ لست انا، ولكنها الحكومة، فهي تهمة سياسية سيخرج منها باذن الله، مثل الشعرة من العجين.
ــ وهل لديك دقيق صالح لصنع مثل هذا العجين؟
ــ ما اكثر الدقيق، والعجائن في مثل هذه القضايا السياسية، الاتصال بدولة اجنبية،او بحزب من الاحزاب المحضورة، او التخابر لحساب هذه الدولة او هذا الحزب.
ــ تتحدث عن اتهام كهذا وكانه شيء يسير، لا، انت بالتأكيد لا تتكلم جادا.
ــ هذا صحيح، لا اتكلم جادا، وانما اتكلم مازحا، فهي مزحة، ودعابة نريد ان نضغط بها على صديقنا، وليس بالضرورة ان تصل الى السلطات العليا، مجرد اشتباه، واعتمادا عليه نرسل سيارة الشرطة لتقبض عليه، وتحضره الى هنا في تكتم وسرية، لنضعه في الحجز لمدة يوم، ثم تعيده ذات السيارة الى وكالته.
ــ الامر ليس هينا كما تريد تصويره، ومسئوليته تقع بكاملها على شخصي، لانني وحدي المخول اصدار امر يتصل بواحد مثله من الرعايا الاجانب، ثم انه حتى وان بدأ الامر بالطريقة التي تقولها، فقد لا ينتهي بالسهولة ذاتها، لانه لا ضمان لان تأتي ابنته صارخة مستنجدة بك لتمنح نفسها لك، ولا تتصورها لن تذهب او يذهب واحد من اسرتها الى جمعية الجالية اليونانية، فترفع الامر الى الوالي وتكبر المسألة، ولهذا اقول لك منذ الان، وقبل ان تخطو اية خطوة في تنفيذ حماقة كهذه، ان تنسى الموضوع.
وتركه، عائدا الى مكتبه بالطابق الاعلى، عارفا ان السردوك لن ينسى الموضوع، وسيظل يحاول العثور على طريقة للايقاع بخصمه، الا ان سلطانه في مثل هذا المجال محدود، ويحتاج لاي اجراء امني يتصل ببانايوتي الى عونه، وهو لن يقدم له هذا العون.
رأى صدفة وهو يصعد درجات السلم، الفونسو خارجا باوراق تخصه من احد المكاتب، فناداه، جاء مهرولا يصافحه، فدعاه الى الصعود معه الى مكتبه، وهناك تبسط معه في الحديث، وطلب له القهوة، ثم ساله باستغراب عن حقيقة ما قاله السردوك بانه وراء هذا الاقتراح الذي يقضى باختلاق مشكلة تؤدي الى سجن بانايوتي، لكي تأتي ابنته مستنجدة لاطلاق سراحه، فيفرض عليها السردوك شروطه،فقال ان اقتراحه لم يكن بمثل هذه الصيغة، وان كان يشبهه في المحتوى، وهو لم يكن يريد ان يشير على الرائد السردوك بمثل هذه الاستشارة، لولا ان رأى الرجل يفكر بوسائل وطرق عنيفة للانتقام، يصل الى حد ارتكاب الجرائم وانتهاك الاعراض، فرأى نفسه يقترح عليه شيئا اقل تطرفا في معالجة الموضوع الذي صار هاجسا يسيطر على عقله، فحذره نائب الوالي من مغبة الانزلاق مع السردوك في تفكيره الاجرامي، لا حرصا على سلامة وشرف بانايوتي فقط، ولكن حرصا ايضا على سلامة السردوك نفسه، الذي قد يتهور بارتكاب حماقة تحطم حياته المهنية. ورد الفونسو بان ما سمعه من الرائد السردوك من افكار اثارت الرعب في نفسه وجعلته يفكر في ان يذهب في اقرب فرصة تتاح له الى اونكل بانايوتي في وكالته ويطلب منه ان يأخذ حذره منه، ويعطيه فكرة عما يدبره له من خطط. فطمأنه البريجادير هيوز، بانه سيكون شخصيا بالمرصاد للسردوك ولن يجعله يتمادى في هذا التفكير الذي يجلب الاذى لاي انسان سواء كان بانايوتي او غيره، انطلاقا من حرصه على شرف الوظيفة التي يؤديها كحاكم عسكري لهذه المنطقة، واجبه حماية المواطنين لا الايقاع بهم وتدبير التهم المزورة وتوريطهم فيها، واية خطوة يقوم بها السردوك في هذا الاتجاه لن يكتفي بكشفها وابطالها، وانما سيعمل على ملاحقته اداريا وقانونيا حتى يدفع ثمن انحرافه. ورجاه ان يستمر في تنفيذ فكرة الزيارة التي ينوي القيام بها الى بانايوتي، واطلاعه على الخطط التي يحاول السردوك وضعها لايذائه، لا بغرض تحذير بانايوتي منها، ولكن بغرض تطمينه بانه لن يستطيع تنفيذها، لان هناك مسئولا اكبر منه يقف له بالمرصاد " وابلاغه تحياتي ورجائي بضرورة ان يطلعني شخصيا على اية مضايقات يتعرض لها من قبل الرائد السردوك لاقوم بايقافه عند حده "
وهنا ابان الفونسو لنائب الوالي حقيقة ما يجهله من تفاصيل العلاقة بينه وبين الرائد السردوك، قائلا انه تعامل مرغما معه، وخضع مجبرا لتهديده، فقد وازن بين التهديد بايذائه بل تصفيته جسديا اذا رفض، ووعده بالمكافأة اذا استجاب، واختار الحل الثاني، لانه مع الرفض سيخسر كل شي ولن يربح شيئا، اما مع الحل الثاني فسيخسر استقراره وحياته الزوجية وسيربح الاحتفاظ بحياته وحريته، وسيتوفر على عمل يحميه من البطالة، وقد يجلب له رزقا اوسع من رزقه السابق، ولهذا فهو يرى نفسه ضحية من ضحايا هذا الرجل، وسواء مضى في خطة ايذاء بانايوتي واسرته او لم يمض، بسبب علم نائب الوالي بهذه الخطط وتعطيلها، فهناك بالتأكيد اناس آخرون، يؤذيهم وجود الرائد السردوك في هذا المنصب، امس واليوم وغدا، وهو واحد من هؤلاء الناس، فبأسمهم ومن اجلهم جميعا يتوسل اليه ان يعمل جهده على تخليص المنطقة من شروره، ولن يعدم نائب الوالي وجود عنصر امني، له من الامانة والنزاهة والشرف، ما يؤهله لملء هذا المنصب وتعويض الفراغ الذي سيتركه غياب الرائد السردوك. بقي البريجادير هيوز صامتا، كأنه يتأمل كلمات الفونسو، الذ ي نهض واقفا، ومد يده الى صاحب المكتب مصافحا، قائلا انه لن يستغل كرمه فيأخذ وقتا اكثر مما اخذ، وخطا نحو الباب حيث تمهل وهو يفتحه وعاد الى الكلام متوسلا نائب الوالي ان يفكر جديا فيما قاله له، وسيشكر له الناس هذا الصنيع، راجيا اياه الا يصل ما قاله له الى اذن الرائد السردوك لانه عندئذ لن يسلم من شره وانتقامه.
خرج الفونسو وبقى البريجادير هيوز مع فكرة ان يتخلص من السردوك كما اقترح الضيف الايطالي، نعم، نعم، ماذا تراه سيحدث لو وجد السردوك بعيدا عن طريقه، الن يكون هذا الطريق سانحا، سالكا امامه في رحلة الفوز بانجيليكا زوجة له، لقد سقط حقه في اولوية الاستمتاع بها، باعتبار ما حدث من رفض له، وهو رفض لا يعنيه، لانه جاء يتوسط في خطبتها له، وليس خاطبا اياها لنفسه، وهو ما يمكن ان يفعله في مشوار قادم.
ابعاد السردوك عن الطريق، قبل ان يتحول من رجل يحفظ الامن، الى رجل يخترق الامن ويصنع له المشاكل، ومن مسئول يعينه على القيام بواجب ادارة هذه المنطقة التي تبلغ حجم المملكة المتحدة مرتين، الى عبء يعيق ويعرقل ادارته لها. نعم، انه موضوع وجيه دون شك، يجب ان يفكر فيه بروية ودون استعجال، لان في مقدور السردوك، اذا تسرب اليه شيء عنه، ان يفعل اي شيء لاعاقته، ولو فجر حربا اهلية في المنطقة، او اثار شغبا يشعل الحرائق في مبنى الادارة، ولهذا فان الاجراء بازاحته يجب ان يكون اجراء اكيدا حاسما سريعا، لا تردد فيه، والتدابير التي تسبق استصدار قرار الوالي بلاكلي بعزله، او نقله، يجب ان تتم في صمت وتكتم، وتعزيز هذه التدابير الادارية بما يمكن جمعه من البراهين والادلة على فساده وانحرافه، بحيث لا تترك فرصة امام الوالي للتردد في استصدار القرار المطلوب.
هناك محاذير تحيط بالكشف عن فساده، خاصة اذا ساق ادلة قديمة على هذا الفساد، واهمها انه سيلحقه اللوم لانه تأخر في الكشف عن هذا الفساد وتستر عليه كل هذا الوقت، ومن اجل هذا فسيكتفي بعملية واحدة، يستطيع ان يقول انه لم يعرف بها الا الان، وهي العلاقة التي تربطه بجماعة من قطاع الطرق كان وراء انشائها، وكان رئيسها شرطيا ترك الخدمة بعد ان عمل اعواما تحت امرته، امده السردوك بالسلاح وقدم له الحماية، وهويسطو على قافلة قادمة من حاسي مسعود، خارج الحدود،وداخل التراب الجزائري الذي يسيطر عليه الفرنسيون، وقد عرف اخيرا ان واحدا من اعضاء تلك العصابة موجود بسجن بورتا بينيتو، في طرابلس ويستطيع الوصول اليه عن طريق ضابط من رفاقه هو مدير ادارة السجون، وانتزاع اعتراف منه بضلوع السردوك في تلك العملية، ربما مقابل وعد باستصدار عفو عنه باعتباره شاهد ملك، وهو تدبير سيلجا اليه في حالة وجود صعوبة لاقناع الوالي بازاحته لان مثل هذا التورط في العمل الاجرامي قد يقود الى عزل السردوك ومحاكمته وهو لا يريد له مثل هذا المصير.
لم يكن من عادة المستر هيوز ان يشرب الخمر بمفرده، وهو لا يجد احدا يشربها معه في البلدة، الا اذا جاء زائر اجنبي اليها، كما حدث منذ ايام مع خبير اثري انجليزي جاء مع احدى القوافل الاثرية، استضافه لليلة في بيته وشاركه الشراب، عدا ذلك فهو يكتفي بالشراب في المهمات التي يذهب فيها الى طرابلس، والاقامة في فندق الجراند هوتيل، يستقبل اصدقاءه هناك ويشاركهم الشراب مساء، وكذلك اثناء اجازاته المتكررة الى مالطا، او المتباعدة الى لندن، الا انه اليوم وهو مشغول بفكرة الاستغناء عن خدمات السردوك، احس بحاجته الى كاس بعد ان قام خادمه مرزوق، الجنوبي الاسمر، وزوجته حواء، وهما يقيمان في غرفة بمنافعها في الحديقة قريبا من البوابة الرئيسية ويشرفان على تنظيف البيت وحراسته واعداد الطعام له ولضيوفه والاعتناء بالحديقة، فاخرج من الدولاب زجاجة الويسكي التي استهلك نصفها مع الخبير الاثري، وامر مرزوق باحضار الصودا والثلج من البراد، وجلس يشرب وقد وضع بجواره الراديو، واستقر بالمؤشر على محطة تذيع الموسيقى الكلاسيكية وبدا في شرب اول قدح، وقد سرح بفكره يتأمل العلاقة التي تربطه بزميله الرائد السردوك، ويفتش في داخل نفسه، عن كنه المشاعر التي يحملها له،هل يخامرها شيء من الود؟ او الاعجاب بقدراته التي يملكها؟ ومنها مهارته في التحايل، ورسم الخطط للايقاع بخصوم الامن، مما يجعله رغم ضعفه الاخلاقي، ناجح في مهمته كمسئول عن الامن في هذه المنطقة، ام هي الغيرة، ام هي حقا الكراهية، حتى اذا قال ان مشاعره نحو السردوك تحتوي على مزيج من هذا كله، فهل حقا هناك كمية من الكراهية تخالط هذا المزيج، تجعله يرغب في ايذائه وازاحته من طريقه؟ ام هي مجرد عمليات ربح وخسارة، يقيسها بمقاييس حسابية باردة، هي مقاييس المصلحة التي تعود عليه بابقائه او ابعاده؟ ام انه استجابة لحس بالمسئولية والواجب يقضى بان يبتعد هذا الرجل عن منصبه حرصا على الصالح العام؟
انه يعرف الفوارق في التكوين والثقافة والعوامل التراثية التي ينتمي اليها كل منهما، والفوارق في التربية، بل الفوارق في المبادي التي يؤمن بها كل منهما، الا انه تعود الا يجعل هذه الفوارق عائقا يعوق التواصل والتفاعل والاندماج مع الناس في البلاد التي ساقته اليها خدمته العسكرية، فقد خرج من بلاده منذ ان كان ضابطا صغيرا حديث التخرج في العشرين من عمره، وامضى الان ربع قرن يعيش مع اقوام تفصل بينه وبينهم هذه المسافة الثقافية والاثنية والدينية والتربوية دون ان تعيق انشاء علاقة سوية بهم، سواء في صحارى العراق و الاردن، اوفي مناطق الصحراء الغربية المصرية، او عندما جاء منذ خمسة اعوام الى ليبيا، وبعد مرحلة اعداد بسيطة في مكتب الوالي، استلم منصبه في مزده، ووجد السردوك يعمل بالانابة في هذا المنصب، بعد ان انتقال المسئول السابق، بناء على طلبه وخوفا من تهديدات كانت تصله من بعض العصابات، حيث كانت الحالة تعاني من انهيارات امنية خطيرة في منطقة القبلة، تعاونت قوات الامن الفرنسية والبريطانية، وسلاح الحدود على الجانبين، في معالجة الحالة، وتم ترسيم السردوك مديرا لامن المنطقة، مكافاة على الجهد الذي بدله في اعادة استتباب الامن في المنطقة التي يديرها، واظهر حكمة وحنكة في التعامل مع القبائل الصحراوية، وهي التي كان زعماء العصابات يستمدون منها الحماية، وجاء بشيوخ هذه القبائل الى عاصمة الصحراء، مزده، وجعل كل المعونات القادمة من الحكومة، الى اهالي المنطقة، تذهب عن طريق هؤلاء الشيوخ، فضمن ولاءهم وتعاونهم وزرع بين بقايا العصابات، عصابة انشأها بعلم الحكومة، وقام بتسليحها ايضا بعلم الحكومة، ويتقاضى افرادها مرتبات من خزينة الحكومة، لتقوم بمعرفة بقايا تلك العصابات ورصد حركتها وكشف مخططاتها وفعلا كان عملها حاسما في قطع دابر الجريمة في الصحراء، ولعله استفاد من عمليات قامت بها تلك العصابة، بعيدا عن مناطق عملها، ومن وراء ظهر الحكومة، قبل ان تنتهي مهمتها ويعود افرادها للانخراط في الاجهزة السرية في عاصمة البلاد، وربما تجربته تلك هي التي شجعته في الاونة الاخيرة، ورغبة في الحصول على اموال كثيرة يواجه بها الموقف المستجد بعد وقوعه في غرام انجيليكا، الى تاسيس هذه العصابة التي تعمل لحسابه الخاص، ويختار مسرحا لها في المناطق الحدودية، بعيدا عن منطقة القبلة التي تقع تحت مسئوليته، وفيما يبدو فقد زود العصابة بتعليماته التي تمنع العصابة من التورط في جرائم القتل والاكتفاء بالسطو، وهذا ما حدث مع قافلة حاسي مسعود، حيث لم تحدث خسائر في الارواح، بل وصل خبر لاحدى نقاط الحدود يدلهم على مكان القافلة المنهوبة لكي لا يتعرض افراداها للضياع في الصحراء والموت عطشا، فكان انقاذهم واعادتهم الى بلادهم سببا في قفل ملف تلك الحادثة، وفي سجل انحرافات السردوك حادثة اخرى يمكن ان يدفع بها، دون ان يكون لها تبعات يخشاها، وهي تعود الى فترة قديمة عندما قاد حملة لتجريد بعض النجوع من السلاح غير المرخص به، فلم يقم بتسليمه كله الى الحكومة، وخبأ بعضه ليقوم ببيعه عن طريق احد اعوانه خارج الحدود، ولعله استخدم بعضا منه لتسليح هذه العصابة التي قام اخيرا بتشكيلها، وهو يعرف ان هذه ليست معلومات جديدة بالنسبة له، فقد عرف بها في حينها وتغاضى عنها تغليبا لما كان يدركه من سجل متميز للسردوك في توفير الامن للمنطقة راى انه يغفر بعض ما سعى اليه من تربح عن طريق الوظيفة، الا انه اذا احتاج لاستخدامه اليوم فانه يستطيع ان يدعي انها معلومة لم تصل الى علمه الا اخيرا.
احس وهو يتناول الشراب بمفرده، لغياب النديم الذي تعود على وجوده في مثل هذه اللحظات، بضرورة ان يقوم بعمل لتعويض هذه الغياب، هو كتابة الرسائل، فقد مضى زمن لم يمارس هذه الهواية، التي صار في الاعوام الاخيرة لا يجد احدا الا عمته سامانتا، يمارس معها هذه الهواية، ودون تواتر وانتظام،باعتبارها اخر من تبقى من الدائرة الاولى من اقاربه، بعد ان غادر والداه الحياة، دون ان يتركا له اخوة واخوات، او اعمام وعمات وخالات، غير هذه العمة، التي يثق في مستواها العقلي والثقافي، وكانت اثناء الحرب رئيسة الجمعية النسائية لرعاية الارامل، كما كانت عضوا في المجلس المحلي للمدينة، معنية بالشأن الثقافي، يدخل في اختصاصها اقامة الحفلات المساندة للمجهود الحربي،والاشراف على المكتبات وغير ذلك مما يتصل بالشأن الثقافي المحلي، الا ان الرسائل تباعدت بينه وبينها، بحيث يمضى احيانا شهر وشهران دون ان يكتب لها، ومن جانبها فلم تكن تتأخر في الرد على كل رسالة يبعث بها اليها