باسمة بطولي: النظّامون "طفّشوا" الناس إلى الشعر الحديث
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
"مع الحب حتى الموت" شعرًا ولونًا وضوءًا مائيًّا، وعشقًا صوفيًّا يستبيح انخطاف القصيدة. وفي "عربات الصدى" حملت الصوت العابر أزمنةً منبسطة على جلد الذاكرة الأنثى ومرايا الأمكنة العارية كالذات المتسلّلة من بين شقوق الروح، مَشاهد حلّقت في مجاز بليغ :"بي ارحل... عقدتُ رحابي عليك\ لأني دروبك حتى إليك...\ ألا ابدأ بذكري إذا ما تصلّي\ كأني كل السماء لديك...
باسمة بطولي المضمّخة باللون والوزن والدهشة، "تمتطي صهوة الشعر العربي" فارسةً تكحّل ريح الشعر بالعراقة، وتنزع خمار القصيدة شاهرةً قوافيها في وجه فحولة مكرّسة، فسُمّيت "شاعرة المذكّر" للدلالة على تفوّقها على شعر الرجل، وقال عنها سعيد عقل إنها "أهم شاعر وشاعرة في هذا العصر"، وقال توفيق يوسف عواد إنها "في فحولة الشعر، هي في طليعة الشعراء". أما ياسين الأيوبي فنعتها بـ "المرأة الرَّجُلة".
تمكّنت تلك الرّجُلة من القبض على قدرات الشعر من دون التيه في رحابته، التي أسرَتها مُشكّلة منها عدّتها ومراميها. وكانت بالتزامها بالوزن والقافية سيّدة الأصالة المكلّلة بحداثة صبغت فرادتها وحرّرتها من الإتباع والتقليد، فعلَت عمارتها: عموديّة الحلم بالوصول إلى سماء الشعر، أفقية النغم المؤنث المنبسط وشاحًا شفيفًا على وجه الأرض الشاعرة.
"عابدً لاح أم إله تجلّى!؟\ أين أجثو وركبتاي المًصلّى؟\ أنا دنيا جعلتني منه بعضًا\ علّني في يديه أصبح كُلا\ خلتني الشمس يوم كان بعيدًا\ واحتواني، فخلتني فيه ظلا".
بهذه الصوفيّة شطحت باسمة بطولي إلى ذروة المعنى واستنفدت وشائج اللغة الحرّة، فتكلّلت بترَف تعبيري يُنذر بشاعرة متمكّنة فاض الدفق من إيقاعاتها، راسمًا ملامح حديثة النبض كلاسيكية الأناقة سيّالة الجمال والعطر.
بعد توحّد مع الشعر وغربة عن النشر، وبعد "مع الحب حتى الموت"(1978)، و"مكلّلة بالشوق"(1996)، "عربات الصدى"(2009) آخر ولادة للشاعرة المقلّة الباحثة عن أحجار القصيدة الكريمة في جبال القصائد، فلا يتنازعها هاجس النشر ونرجسية الإطلالات المعادة. تمضي مع قصيدتها أقمارًا وشموسًا فتنضج تحت سمائها القافية، وينضح من قشرتها العسل البرّي. وتمضي في ترويض المسافات بين مفردتها والمعنى، لتجترح قاموسها وخصوصيتها وقصيدة لا تشبه سواها، فتلبس جسد القصيدة عباءة من حرير الإلهام. أما بين الشعر والشعر، فتتأبط باسمة ريشتها لتقطر منها ذاتها الأخرى ملوّنة هذه المرة بحدائقها المعلّقة في جنّة اللون، صانعة لوحات مغمّسة بشغف من نوع آخر: الرسم.
تمكّنت هذه الشاعرة والتشكيلية اللبنانية من إتقان الصنعتين، فأضافت تألّقًا على عناصر الفن، تاركةً بعضًا كثيرًا منها في قاصد قصيدتها والمُبحر في لوحتها.
باسمة بطولي في حوار مع "إيلاف":
ليست الحداثة في الشكل، قد تكون جزءًا منها أحيانًا، ولكنها تكمن في المضمون الذي يصطاد اللؤلؤ النادر جدًا في البحار اللامتناهية، وهذا اللؤلؤ من الصعب أن نحدد مكانه إلا عندما نكون ذوي أعين ترى أعمق أعماق المحيطات وأبعد الأبعاد في الكون وفي المسافات وفي كل شيء. الخيال يُعمل كل طاقاته وكل ثقافته ومخزونه، القديم والجديد لكي يتعاونا على خلق القصيدة بصرف النظر عن شكلها، إلا إذا كان الشاعر لا يعرف كيف يستعمل الأشكال التي سميناها حديثة فيشطح في اللغة والإسهاب والاستسهال وفي الفلتان والهذيان، إلى كل ما وقعت فيه القصيدة الحديثة التي ضلّت طريقها في أغلب الأحيان. بعض الكلاسيكية فيها من الحداثة أكثر مما يسمى الشعر الحديث، وهذه الأشكال التي يتغنى بها منظّرو الحداثة ليست جديدة في الواقع، فالشعر المنثور قديم جدًا ويعود إلى "نشيد الأناشيد"، وقد نجد شعر التفعيلة في القرآن الكريم. الأهم هو المضمون الغني والمثقف والذي يماشي العصر والرؤى المستقبلية وحب الشاعر لعوالمه الجديدة.
هل تتابعين الشعراء المحدثين؟
قرأت معظمهم ولفتني كثر منهم، مثل أنسي الحاج، وخصوصًا في "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع" فيها الكثير من الشعر فننسى شكلها عندما نقرأها، هو يعرف كيف يستخدم اللغة لأغراض جمالية. وهناك أيضًا على سبيل المثال لا الحصر، شعراء مثل محمد علي شمس الدين وشوقي بزيع وغيرهما.
بعض شعراء الحداثة، سواء عن حسن أو سوء نية، يتصرف باللغة العربية إلى درجة الإسفاف، ويعتبر أن التفلّت من أوزان القصيدة العربية يسمح له التفلت من قواعد اللغة، وهي تكاد تكون من أجمل القواعد في كل اللغات لأنها تعتمد المنطق. وهذا يسيء جدًا إلى القصيدة وإلى الأدب عمومًا.
كيف السبيل إلى التفرّد والتحرّر ضمن منظومة القصيدة العمودية، وهل استطاعت باسمة بطولي، بقصيدتها الأصولية، رسم هويتها الخاصة؟
عندما وعيت الشعر، كانت هناك في الساحة الشعرية جميع الأشكال، من قصيدة النثر إلى قصيدة التفعيلة إلى قصيدة العمود الشعري، إلا أنني وجدت بعد تأمل عميق وتجارب، أن العمود الشعري أو الوزن الخليلي هو الأفضل بين كل الأشكال الأخرى، لأنني وجدت أن عبقرية تكمن وراءه ولعلها كانت تخص العرب وحدهم في ذاك الزمن. فقد أتوا بهذه الأوزان بشكل يسمح للشاعر أن يقول أكبر كمية من المعاني بأقل كمية من الكلمات، من دون السماح لأي حشو لا لزوم له. الكلام المكثف هو الذي يعطي قوة في التعبير تصل إلى الأعماق كقوة الحجر الذي ترميه على سطح بحيرة هانئة، فتُحدث في النفس الدوائر الجمالية التي تهزّ المشاعر والكيان. يعتبرون أن الموسيقى في الشعر ليست اساسية، وهي على رغم أنها ليست العنصر الأهم لكنها تبقى العنصر المهم جدًا، لأنها تخاطب الأذن والدليل على ذلك أن الشعر الذي يُحفظ هو الموزون والمقفى.
ليس التحرّر بالشكل وحده، فأكثر ممن يكتب الشعر العمودي هو نظّام، وهذا ما "طفّش" الناس إلى أشكال الشعر الحديث آملين أن يجدوا شيئًا أكثر إبداعًا وجمالًا.
ثلاثة دواوين حتى اليوم، بعد مشوار طويل وكثيف مع الشعر. لِم أنت مقلّة؟
هل الفنان هو نفسه في اللوحة والقصيدة، وأين تكمن باسمة بطولي؟
تذكرينني بالشاعر الكبير سعيد عقل يقول: "من الصعب على الناس أن يتقبلوا الواحد منا موهوبًا بمجالين أو أكثر، دائمًا هناك مجال يطغى على الآخر في عيون الناس". ولكنه يعتبرني إستثناء ويقول ليس أجمل من شعرها إلا رسومها، وليس أجمل من رسومها إلا شعرها. وفي الواقع بعدما تبحّرت في تقنية الرسم والشعر، شبهت نفسي دائمًا بالطائر ذي الجناحين الذي لا يستطيع أن يطير إذا كان أحد جناحيه مكسورًا، وشبهت نفسي بالعربة التي يجرها حصانان إذا كبا أحدهما وقعت العربة.
بم يختلف "عربات الصدى" عن سابقيه؟
يختلف انه منقسم خمسة أقسام: قسم للوالدين، قسم للحب، قسم لبعض من كتبت عنهم في بعض المناسبات، قسم للوطن والجنوب، وقسم صغير للهجاء. وفيه تبسيط للشعر أكثر من ذي قبل من دون التخلّي عن جماليته ونوعيته وقيمته الفنية.
للشاعر هواجسه الخاصة وهمومه الشعرية، ماهي عند باسمة بطولي؟
أن أستطيع الاستمرار وألا يخونني جسدي، لكي أرى وطني في أفضل أحواله وقد ابتعدت عنه الأخطار المحدقة به باستمرار، وأن أرى العدالة تتغلب على الظلم.