كلود شابرول: صبرا، إن الجودة، بمرور الوقت، تأتي حتما مع الكم
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
وكانت الموجة الفرنسية السينمائية آنذاك في فترة الخمسينات وبداية الستينات في صعود، وما زلت على الرغم من مرورالسنين، اتذكر بعض مشاهد ذلك الفيلم " سيلرج الجميل " الذي سحرني وقتذاك، ويحكي عن طالب جامعي " جيرار بلان " يصعد من قلب الريف الي باريس، ويبدأ يتعرف إلى حياة البرجوازية الفرنسية " الصاخبة " في المدينة الكبيرة باريس من خلال صداقته مع بطل الفيلم بريالي، ويدلف هكذا في حياته الجديدة الى عاداتها وقيمها وأخلاقها، ويصور تلك " الحياة الحلوة " التي تحياها، بكل ما فيها من متعة زائلة وبؤس ومرارة وإحباطات..
وما زال فيلم " سيرج الجميل " BEAU SERGE يمثل مع بعض افلام الموجة مثل " 400 ضربة " لتروفو و " على آخر نفس " لجوادر، انعكاسا لتلك الفترة التاريخية والصراعات الفلسفية (الوجودية) والاجتماعية والسياسية (الماركسية) التي كانت مهيمنة في الساحة الفكرية والثقافية الفرنسية عندئذ، وعرفتها..
ومن هنا ايضا، أي ليس فقط على مستوي السينما وما حققته تلك الموجة الفرنسية من حيث ابتداع اساليب جديدة في السرد الخ، بل على مستوى الواقع الاجتماعي ايضا ومساءلته وطرح تساؤلات بشأنه، تكتسب تلك الافلام المذكورة وغيرها من انتاجات الموجة الجديدة لرومر وفاردا ورينيه أهميتها..
في معظم الافلام التي أخرجها شابرول، أكثر من ستين فيلما، كانت تلك البرجوازية الاستقراطية سواء في الريف الفرنسي او المدينة موضوعا لافلامه، وكجرّاح ماهر حذق راح يصور شخصياتها - كان هو نفسه واحدا منها - ويشرحها بمبضعه، كاشفا عن عالمها السري الخاص "مدام بوفاري" وطمعها وجشعها وتقلباتها، بل انه لم يتوان عن جدلها احيانا في أفلامه، وتسليط الضوء علي أنانيتها ونرجسيتها، وأحيانا فاشيتها وعدميتها
ولم يكن شابرول يهتم مثل معظم مخرجي " الموجة الجديدة " بالتجريب، ومسكونا مثلهم بهمّ ابتداع اساليب جديدة في " السرد السينمائي " بل كان يعتبر ان مهنة المخرج السينمائي مثل أي مهنة أخرى، فهو شابرول ليس بأفضل من الحدّاد او النّجار، وإذا عرض عليه أحدهم اخراج فيلم حتى ولو كان شابرول غير مقتنع البتة بقصته، مثل إنجاز كرسي من الخشب مثلا عند نجّار، قبل المهمة على الفور ومن دون كلام وشرع في إنجاز " البضاعة " للاستهلاك التجاري. لم يكن شابرول يسأل أو يطلب، بل كان يعتبر ان مهنة الاخراج هي " أكل عيش " في المحل الأول، حتى لو فشل في إخراج الفيلم، ولذلك تتضمن قائمة أعماله عددا كبيرا من الافلام الساقطة او الفاشلة، ويطلقون هنا في فرنسا في الوسط السينمائي علي تلك الافلام أسم " نافيه " NAVET أي " حبة لفت" من نوع أفلام " البضاعة " التجارية البحتة مثل ساندوتشات الهمبورغر للاستهلاك السريع
وكان شابرول يحلو له أن يردد " انا لا ارفض اخراج اي فيلم بتكليف على الاطلاق، وأعتبر أن الجودة بمرور الزمن تأتي حتما مع الكم، اي باخراج افلام كثيرة " أو كما يقول المثل البلدي الشعبي عندنا في مصر" التكرار يعلّم الحمار"، فلم يكن شابرول صاحب ادعاءات او نظريات معقدة ومحفلطة، وكان كما يذكر في كتابه " كيف تصنع فيلما " يقسم الأفلام الي نوعين : نوع قصة ونوع شعر، النوع الأول يروي أو يحكي قصة، والنوع الثاني يميل اكثر الى أن يكون مثل قصيدة الشعر التي تخلق جوا خاصا، وكان يذكّر بأن أفلامه تنتمي الى النوع الأول..
ترى ماذا حقق شابرول بأفلامه ؟..
يحسب لشابرول الذي أنجز أكثر من ستين فيلما وحقق الكثير، انه كان أحد أبرز مخرجي حركة أو تيار " الموجة الجديدة " LA Nouvelle Vague السينمائية الفرنسية التي خرجت من رحم مجلة " كاييه دو سينما " دفاتر السينما العريقة التي كان يكتب فيها مع جودار وتروفو وإيريك رومر في فترة الخمسينات، وقبل أن يخرج فيلمه الأول " سيرج الجميل " ويساعد بعض مخرجي الموجة الجديدة في صنع أول أفلامهم بالمشاركة في إنتاجها..
وإنه ابتدع أسلوبا خاصا في صنع الأفلام، مثل هيتشكوك في السينما أو بلزاك في الرواية، وضع عليه بصمته الفريدة،واهتمامه بتصوير تلك البرجوازية الريفية الفرنسية بشخصياتها وعوالمها، ولم يأنف شابرول من صنع افلام " تقليدية " تجارية استهلاكية للجمهور العادي. يحسب له تواضعه ومعرفته بقدراته، إذ إنه لم يدع أنه صاحب" فلسفة" خاصة في صنع الافلام، مثل المخرج المفكر جان لوك جودار، وإيمان شابرول بأن من جملة " زبالة " الافلام التافهة في عرف المثقفين التي لم يتردد لحظة في صنعها أو إخراجها، سوف تأتي " الجودة " LA QUALITE حتما، وتطرح ثمرتها، وتظهر على شكل " كوكب " منير أو " تحفة " سينمائية لم تكن في الحسبان مثل فيلمه الجميل " الجزّار" LE BOUCHER بطولة الممثل الفرنسي القدير جان يان الذي أعتبره شخصيا أفضل أفلامه على الإطلاق..
كما يحسب لشابرول أنه شيد بأفلامه إعتبارا من فترة الخمسينات فصاعدا، أرضية إنطلاقة للعديد من المواهب التمثيلية الفرنسية الجديدة التي لم تكن معروفة من قبل، وحققت من خلال أفلامه - أكثر من ستين فيلما - " نجوميتها "، مثل جيرار بلان، وكلود بريالي، والنجمة الفرنسية الممثلة القديرة إيزابيل أوبير، التي ترأست لجنة تحكيم مهرجان " كان " السينمائي الدولي في العام الماضي، وكان شابرول يعجب بتمثيلها ويعتبرها مثل إبنته، وكان شابرول محبا وعاشقا للحياة ويقبل عليها كما يقبل على أطباق الطعام الفرنسي الشهيرة بشهية ابدا متجددة ومفتوحة ويعب من ترحها وحلوها عبا ولايكترث بالموت الذي غيب في الايام الماضية بعضا من زملائه وأصدقائه مثل المخرج الفرنسي الكبير آلان كورنو وسنعود للحديث عن أفلامه وما حققه أيضا في وقت لاحق..
أفلام شابرول يمكن ان نضعها جانبا لوحدها، خارج انتاجات " الموجة الجديدة " السينمائية، لأنها كلها على بعضها، تشكل صرحا سينمائيا كبيرا، ليس فقط على مستوى السينما الفرنسية، ولأنها كانت تمثل مثل " مرآة " هذا البلد فرنسا أحسن تمثيل، حتى كان النقاد يقولون عن كلود شابرول انه هو فرنسا، بل على مستوى السينما العالمية أيضا والتراث الابداعي الخلاق العالمي الذي ينتمي لنا جميعا مثل اعمال الانكليزي شكسبير في المسرح او الفرنسي بلزاك في الرواية او صلاح أبو سيف في السينما..
ذلك لأن أفلامه إهتمت بالتحديق والتنقيب، في ما هو أبعد وأعمق من الظواهر والسطح، إهتمت بالتنقيب في تلك المشاعر " الإنسانية " التي تصنع تلك " الملهاة الإنسانية " التي نعيشها في كل لحظة من لحظات حياتنا، ونحن نتساءل إن كانت الحياة جديرة حقا بأن تعاش..
وهو سؤال السينما بالطبع عن جدارة، وقد رحل شابرول، مثل السويدي برجمان والايطالي أنطونيوني والروسي تاركوفسكي، من دون أن يجد مثلهم إجابة على سؤال السينما، والحياة والوجود..