يوميات الحصار (3)
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ثلاثة شهور أمضيتها على قمة جبل الزيتون، حيث أمضى السيد المسيح أيامه الأخيرة. الآن بعد نصف سنة من عودتي إلى غزة، لم يبق في بصيرتي من تلك المدة غير استخلاص واحد: السيد المسيح كان غلباناً، ولم تظبط معه، لم تظبط مطلقاً. فمن هو القادر - قديماً وحديثاً - على مقارعة اليهود؟ إن كل من يعاديهم لا يفلح. وأمامنا برهان آخر طبعة: أردوغان. الزمن بيننا وسنرى!
*
بعضهم يصطاد الصفقات، وبعضهم يصطاد النساء. أنا - بحكم ظروفي - أصطاد الماء. كلا لا أهزل. أقولها جاداً: أصطاد الماء. فمنذ شهور، لم تعد عيني تغمض قبل العاشرة صباحاً. أظل طول الليل أنتظر شخير الصنبور، وليلة تمضي بعد أخرى، والصنبور لا يشخر ولا حتى يتنفس. والليلة شخر، فقمت ملهوفاً وشغّلت ماتور الرفع. يا فرحتي، ويا فرحة الأولاد حين يستيقظون. سيكون يومهم عيداً: فكل ما هو مؤجل سيتمّ: غسيل الملابس وحموم الأجساد، والجلي والشطف، حتى يبرق البيت من النظافة. فهل يفعل صيد النساء وصيد الصفقات بأبناء آدم ما يفعله صيد الماء؟ الجواب لكم.
*
الحمساويون في مجالسهم العامة والخاصة، يهزءون من اليساريين. والأغلب أنهم سيواصلون هزءهم، حتى لو كان معظم رواد سفن فك الحصار من هؤلاء. عجيبة حقاً حماس! إنها تتصرّف مع العالم كله، بوصفها مالكة الحقيقة الإلهية المطلقة: مالكة الصواب الكامل. وما هؤلاء اليساريون، حتى لو امتلكوا [بعضاً] من ضمير، إلا ضالون مضلّون.
متى تخرج حماس من قوقعة العقل اللاهوتي؟ على الأقل من أجل خاطر شعبها؟ على الأقل من أجل بعض خصوصية وطنية، لشعب واقع تحت احتلال ويرنو للتحرر؟
*
أُلاحظ : كتابتي تتحسّن إذا كنت أكتب على خلفية من الموسيقى. بالأحرى كتابتي تسمو وتنطلق، فلا تعود فريسة سهلة بين فكّي الواقع. انتباه! الموسيقى تمنح الكتابة خيالاً: أُفقاً ومُتنفّساً، وهذا هو مطلوبُ كل كتابة محترمة، أياً تكن.
*
تُرجم سراماغو إلى لغتنا عن طريق لغات وسيطة : الإنكليزية والفرنسية والإسبانية. ومع هذا وصلنا. فما بالكم لو تُرجم عن البرتغالية لغته الأمّ؟ بعض الكبار يكفي من نارهم قبس، لتُضاء حياتنا. وكم أضاء عملاق البرتغال من طوايا مجهولة في نفوسنا، حتى ظنَّ كل واحد منا أنه أديبه الخاص.
أفهل يجوز، بعد كل هذا، الحديث عن سراماغو البرتغالي فقط، مع أنه برتغالي حتى الصميم؟
حقاً بعض الأدباء أكبر من بلدانهم - كبرت مثل روسيا أم صغرت كالبرتغال.
*
لا آلف شيئاً كالأرق والسيكارة. لدينا زمالة عمر طولها 35 سنة. الأرق والسيكارة لم يخذلاني أبداً، طوال هذه المدة. لذا أنا وفيّ لهما، أكثر من وفائي لأولادي وبلادي. فمعهما أنا دائماً بخير. ومعهما لا أُحمّل فوق طاقتي، عكس الوفاء للأولاد والبلاد.
*
الكبار أخلاقيون بالضرورة. ولا أفهم كيف يكون المرء كبيراً ومثلوم أو معدوم الأخلاق؟ كلما فكّرت بسراماغو، أقول هو فارس أدباء عصره النبيل، بأتمّ معاني الكلمة. ويوماً ما سأكتب عن ساعات أمضيتها معه، لأثبت بالوقائع، كم كان هذا الروائي، فارساً نبيلاً. الولاء للحقيقة عنده فوق جميع الولاءات والحسابات.
*
وأنا أتأمل في تراجيديا المصائر البشرية، يخطر على بالي كيف انتهى بعض أدبائنا ومفكرينا. على الأغلب: معظمهم انتهى بطريقة لا تليق باسمه وحجمه. ولن أعدّد أسماء. فقط أقول هذا، لكي تعذروني حين أحزن وآسى [ولو بيني وبين روحي] لبعض الوافدين الجدد على حقل المعرفة. مالكم أيها الشبان ومال هذه النار الحارقة! قديماً قالوا : "أدركته حرفة الأدب" بمعنى الفقر، وحديثاً أضفنا للفقر أختاً كبيرة اسمها: البهدلة. فأيّ مصير كحلّيّ ينتظرك أيها الأديب الشاب.
*
ما من شيء كالحصار يكشف نوازع العامة. وما من شيء كالحصار يكشف نوازع النخبة. إن كان للحصار إيجابيات، وبالتأكيد له إيجابيات، فهي أنه كشّاف النوازع الأكبر. المصلّي خمس صلوات يتكشّف عن تاجر مخدرات. والقائد المجاهد، كزميله القائد المناضل سابقاً، يتكشف عن خزّان دنانير. وبينهما، طابور طويل يكاد لا يحصى، ممن يبيع ولاءه ومبادئه، لقاء كوبونة غذاء.
أيكون "الحصار"، وأنت لا تدري، أشطر من "حفريات الأدب" بما لا يُقاس؟
*
كلما رأيت صورة راشيل كوري قبل الجرافة، وقارنتها بصورتها بعد الجرافة - أكاد، من صدمتي، لا أصدّق. أكاد، من صدمتي، أقول لجميع الكتاب: لا تكتبوا. فقط ضعوا الصورتين متجاورتين أمام القارئ والمشاهد، وكفى.
إنّ بشاعة وسماجة إسرائيل تتجسّد كلتاهما، في صورتي هذه الصبية. ولعلّ صورتيها تصلان العالم هناك، بأسرع مما تفعل صورنا.
راشيل خوري: لا يكفي أن أنحني لشجاعتك النادرة. كلا. يلزمني أن أقوم الآن عن هذه الكتابة، وأذهب إلى مكان موتك القريب، لأقبّل آخر تراب رأته عيناك واختلط بذّرات جسدك الطاهر. جسدك الطاهر يا قديسة الأزمنة الحديثة.
*
أن يكون قادتنا على مستوى تضحيات راشيل كوري. أرجو من قرائي المؤمنين أن يضيفوا إلى أدعيتهم هذا الدعاء.
*
عرائس يأتين لعرسانهم عبر الأنفاق. تصوّروا! وآخر القصص، عروس ابن صديقي الشاعر راء. مهندسة من موسكو، دخلت النفق الأشبه بوكر أفعى، وسبحت على الرمال سباحة، مدة ربع ساعة، لتخرج لعريسها، في الجانب الفلسطيني. فأية بطولة وأيّ شقاء!
نفق بطول كيلو متر، مرعب مجرّد تخيّله، تعبره عروس شقراء بعيون زرقاء ورقة أنثوية لا تُضاهى، لكي تصل عريسها.
تراها ماذا أيضاً تُعِدّ لنا حكومة إسرائيل.
*
على ذكر الأنفاق: لي صديق طبع ديواناً في القاهرة، واستلم 10 نسخ منه عن طريق النفق. لا أظن أنّ حسني صاحب دار النشر، الشره إلى المال، حلم في أسعد أحلامه، أن تُهرّب مطبوعاته داخل الأنفاق، وكأنها سلاح أو مخدرات! شايف يا حسني كيف صرت بطلاً ثورياً، وكأنك يا عم، تقولش لويس أراغون في زمن مقاومة النازي؟
*
الحياة عابثة أكثر من الأدب العبثي. أخونا فاروق عبد القادر، الذي تصيبه أرتكاريا كلما سمع عن حكومته، منحته هذه الحكومة، وهو في غيبوبة الموت، جائزة التفوق تبعة الشبان. وكان الأحرى أن تُسمى: جائزة الوداع. فلم تمر سوى سويعات حتى مات فاروق.
يا له من هزل. تمارسه هذه المرة، أقدارٌ متواطئة مع بشر. إني على يقين، يا فاروق يا صديقي الذي لم أجتمع معه سوى مرة واحدة مع شوقي بزيع، عام 82، أنك لو كنت بوعيك، لناولتهم شتيمة من تلك النوعية التي تجيدها.
"جائزة الأربع والعشرين ساعة الأخيرة". هكذا يروق لي تسمية "تلك الجائزة" - على وزن "تلك الرائحة"، خاصة أخينا الكبير صنع الله إبراهيم.
وداعاً يا صاحب القلم والضمير.
*
الإنسان في ضعفه، أقرب إلى حقيقته، من أيّ وضع آخر. من ملاحظاتي: ما من شيء يبعد الإنسان عن حقيقته كالسلطة. خاصة إذا كان من بني يعرب. فحينها يكون كالمشتاق إذا ذاق. شاعر من إياهم [وهذه الإشارة تعني عندي تحديداً: ما اصطلح على تسميتم ب "شعراء الثورة والمقاومة"] كان ذا منصب كبير، وبيديه مصائر ناس. فما ردعه الشعر عن كل صغائره وبشاعاته. حتى أنني حذرته ذات جلسة مما ينتظره: حين تتقاعد، لن يدق عليك أحد باب شقتك. وحدث هذا حين غادرته هيبة المنصب، فصار يجري وراء الشعراء الشباب، يتوسّل قعدة معهم.
قد أغفر له كإنسان، كمواطن، أما كشاعر، فصعب. فما يليق بشاعرٍ هذا السلوك، ولا ينبغي له.
*
شاعر ولا مراس له بالعزلة؟ على الأرجح، لم تسقط أسنانه اللبنية بعد.
*
الشعراء طيبون وغلابا. حبة مانجا تأتيهم على حين غرّة، قد تغيّر من مضمون كتابتهم. النقاد؟ لا. النقاد أغوط وألأم: ربما صندوق نبيذ لا يكفي كهدية، لتغيير مضمون كتابتهم. مانحو الجوائز؟ هو هوه! والله هؤلاء لا يرضيهم إلا ما يرضيهم - ولا تسألني عما يرضيهم، لأنني مثلك: لا أعرف.
*
جميل ألا يستسلم الواحد منا لأجندة الحصار، ونشفان الريق، الذي يعتبره إيهود أولمرت صناعة ثقيلة، فيكرّس لها خيرة عقول بني إسرائيل. جميل أن نتكلّم عن حبة المانجا، في ما قرن الفلفل غير موجود، مثل الإله التوحيدي عند إخواننا البوذيين.
*
يا ويل من يحطّ رأسه برأس تسيبي لفني. حينها قل: وداعاً للأدب: وداعاً لما يبقى وينفع الناس. فهذه المرأة الجميلة المثقفة، تستطيع أن تقتل خمسة أطفال في النهار، ثم تعود للبيت، فتقبّل أطفالها، وتسهر ساعتين لتكمل رواية سراماغو الجديدة : "الآخر مثلي".
*
.. وما هو الحصار؟ إنه فحسب: انسداد في الأفق، انسداد في الأمعاء، انسداد في المخيلة، انسداد في اللغة.
*
لا تبالغوا. حبة ليمون واحدة، لديها من عبقرية الطعم والرائحة [دعك من الشكل]، ما يفوق كل عبقرياتكم. فما عبقرياتكم إلا كلام في كلام - حتى لو فضّلتم حقل أزهار لغوي على حقل طبيعي.
فما هي إلا نرجسياتكم، تكبر وتنفثىء كالدمّل. وإلا آتوني أو ائتوني بطعم ورائحة حبة ليمون في أدبكم. هذا هو الامتحان!
*
أعرف نوعاً من الكتّاب، حين لا يريد أن يقرأ أي صفحة لأديب ما، يشتري أعماله الكاملة، مهما غلا سعرها، ويرصّها جيداً في مكتبته ثم ينساها. تلك طريقة أيضاً من طرق التجاهل، وأحياناً الانتقام!
*
ما أثقل المجلدات المتسلسلة فوق الرفوف! ثقيلة لأنها للنظر لا للقراءة. يعني: ديكور لا حاجة. ديكور خارجي، لملء الفراغات، لا نداء يناديك، فتشعر بالجهل والسعادة. الجهل لأنك لم تقرأ الكتاب، والسعادة لأنك ستقرأه عما قليل.
*
بي حنين خاص نحو الطبعات الأولى من الكتب. لا يفنى ولا يزول. ذات سنة، اشتريت الأعمال الكاملة لنجيب محفوظ، ونسيتها أيضاً. لأظل أعود إلى طبعات كتبه المتفرقة، أطالعها وأداوم فيها البصر والبصيرة. أتعرفون ما هو السبب؟ إنه جد بسيط وحميميّ في آن: مجلدات الأعمال الكاملة لا ذكريات شخصية لي معها، عكس الروايات المتفرقة المفردة. وسبب ثان: المجلدات ثقيلة وصقيلة وحيادية، بينما الروايات صغيرة وعتيقة وبها رسومات!
*
أن يكون لكل ليل ثمرة، هذا أمر حسن وطيب. عندي: ثمار الليل هي الكتب. وما أسعدني حين أجهز على الثمرة في الهزيع الأخير من كل ليل. حينها أنام مبتهجاً وكأنني أديت مهمتي على أكمل وجه. أنام لا لي ولا عليّ. لذا، فإن كان إليوت يعدّ حياته بملاعق القهوة، فإني أعدها بالكتب. وأظن أنني أكثر سعادة منه. فما من سعادة توازي سعادة القراءة، والذوبان في عوالم الآخرين.
*
كل كتاب، كما كل امرأة: وعد بالمتعة. إلى أن يثبت العكس.
*
نجار الكلمات، الذي يصنع منها خزانات، صالحة للسكنى وتخبئة الأشياء والصور والروائح القديمة.
*
كم فلسطيني يحلم بالنرويج وطناً ثانياً وربما نهائياً؟ أظنهم مئات ألوف. لكن آحاداً منهم فقط من ظفروا بتحقيق أحلامهم.
النرويج، في شقوة سنوات الرمادة الطويلة، صارت محط أحلام الفلسطيني، ويتوبياه كذلك. إنها عنده، كحلم إنجاز رواية عند كاتب القصص القصيرة.
فلنحلم بالنرويج!
*
"امرأة مثيرة". بعد الستين لا معنى لهذه العبارة، عند الشاعر العربي. ولا تذهبوا بعيداً. السبب: نقص الهرمونات، وعجز الخيال عن الموران. لا أكثر ولا أقل.
*
كلما فتحت أفقاً، وجدت ظهري إلى الحائط. يقولها اثنان في غزة. عامل الأنفاق والشاعر.
*
خيالي هذين اليومين قعيد. وتلك أفدح خساراتي على الإطلاق.
*
مغص برد أم كلى؟ علشان خاطري يا رب. أبّدني في الأول حتى، على أن تنجيني من الثاني. ثم
ولا مؤاخذة هوَ أنا ناقص؟
*
ما لم يعلّمنا الأدب كم نحن هشّون، فإنه يكون قد فشل في المهمة الموكلة إليه. أقول هذا لبعضهم فيستغربون. ماذا يهذي الرجل! بل ماذا تهذون أنتم! الأدب هشاشة، بما هو لسان حال البشرية الهشّة. وغير ذلك، صدقوني، ضحك على الذقون، وتنطّع فارغ. أنصحكم بمراجعة طبيب يا إخوان.
*
أكره الأثاث. طوباي: غرفة بسرير صغير ومشجب، وبلاط عار بلا سجاد أو موكيت. ليش؟ لأتقلّب على البلاط في ليالي الصيف الحارة. ولأقرأ أحياناً تحت السرير. أما المشجب، فلأعلّق عليه قمصاني وأخطائي الصغيرة. والكبيرة؟ أعلّقها في رقبة أبي مازن والشيخ مشعل. وبعد كل هذا، أتوكّل على أحلامي وأنام.
*
"سعيد من يثق بأحلامه". هذه الجملة من بنات أفكاري أم سُرقت من مجهود الآخرين؟ تلخبطت والله ولم أعد أتذكر. وعلى كلٍ، السعيد الحقيقي هو من يثق بشيئين: التلاص والتلاص في الكتابة!
*
لليل إغواء أنثى. عن أيّ ليل تتحدّث يا أخ؟
*
ضالتي: أن أبحث عن خطأ معرفي ارتكبه صنع الله إبراهيم في رواية "بيروت بيروت". والتصحيح وجدته بعد 15 سنة في رواية امتداح الخالة ليوسّا. يقول صنع الله عن الحيوانات إنها لا تشعر بالأورغازم. بينما يؤكد دون رغبيرتو لابنه عكس ذلك تماماً. فأيهما أصحّ؟ أظنّه يوسّا، وأعتمد في ذلك على مشاهداتي القديمة، أيام كان في هذه البلاد ريف، وحيوانات، ورغبة حارقة في المعرفة!