ثقافات

فتنة الجسد الأبنوسي: سيميائيات بدرية البشر في رواية "الأرجوحة"

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

رسول محمد رسول *: كان "جيرار جينيت" قد ميز بين وظيفتين للوصف في الكتابة الروائية هما: الوظيفة الجمالية، والوظيفة التوضيحية أو التفسيرية. ويرى في الأولى أنها مجرَّد عمل تزيني واستراحة في وسط الأحداث السَّردية، ويرى في الثانية أنها رمزية دالة على معنى معين في إطار سياق الحكي (1).
في ضوء ذلك، نجد ما فيما أقبلت عليه الرواية السُّعودية الدكتورة بدرية البشر في روايتها "الأرجوحة" (2)، وقدر تعلُّق الأمر بتمثيلات الجسد الأنثوي لنساء الرواية "عنّاب، سلوى، مريم"، يمكن أن يكون وصفاً رمزياً دالاً على شفرة Cod تقصدها الناصَّة Textor على رغم أن وصف الأجساد الأنثوية بدا سياقياً في البرامج السَّردية للرواية، ومتعاضداً مع كل متطلِّبات رسم أدوار الفاعلين والعوامل المشاركة في الرواية.
تجد الدلالة الرمزية ملفوظها في ذلك الإصرار الذي تبديه الناصَّة على تمثيل جسديَّة عنّاب السمراء في تسعة مدارات فرعية Sous topics بالرواية، وتمثل جسديَّة سلوى في ثلاث مدارات، أما مريم فقد جرى تمثيل جسديتها في مدار واحد.
إنَّ التراكمية العددية تؤدي حتماً إلى كيفية منظورة، وهي الكيفية التي تتمثَّل بضخ عدد هائل من العلامات الجسديَّة التي يحكمها سياق الحدث ونوع المناسبة، ولكنها في النهاية، أي العلامات المُضَخَّة، تصبُّ كل شيء من أجل خلق جسديَّة أنثوية تدعو الناصَّة قارئها إلى تقبُّلها بوصفها جسداً مشتهى، وهو مؤثِّر بدا جلياً في مقاصده، ما يعني أن تمثيل الناصَّة لجسديَّة عنّاب يستبطن اشتهاء ما يكشفه إصرار بدرية البشر على تسريده مراراً بحسب الحدث والمناسبة، وهو الاشتهاء الذي يتغلَّف بطقس احتفائي بجسديَّة المرأة السُّعودية؛ سوداء كانت أم سمراء أم حنطية أم بيضاء، فالمهم فيه أن المرأة السُّعودية، كنظيراتها الخليجيات والعربيات، تتمتع بجماليات جسديَّة أنثوية فاتنة، ولأجل إبراز ذلك سعت بدرية البشر إلى تسريد فتنة نساء الرواية الجسديَّة على نحو احتفائي وفي فضاءات مختلف الأمكنة التي تحرَّكن فيها بطلات الرواية سواء بالسُّعودية حيث العباءة وغطاء الرأس أم بجنيف حيث ارتداء الملابس العصرية بعيداً عن العباءة والشيلة الخليجية، وربما النقاب.
يكرمنا المتن الحكائي للرواية بسبعة مدارات فرعية خاصة بجسديَّات النِّسوة الثلاث "عنّاب + سلوى + مريم". وفي كل هذه المدارات تحتل عنّاب النَّصيب الأكبر من التمثيل العلاماتي لجسدها، لتأتي سلوى بالمرتبة الثانية، في حين بقيت مريم في المرتبة الثالثة.

" مريم"
"مريم وعنّاب وسلوى ثلاث فتيات ممشوقات القوام، تتبارى صدورهن في شقِّ طريقهنَّ، وتباري قاماتهنَّ الأشجار الطويلة، وتعكس طموحهنَّ الفاره في الحياة" (ص 56).
لعلَّنا بإزاء النَّص/ المقطع الوحيد الذي تتداخل فيه العلامات الجسديَّة للفتيات الثلاث "القامة + الصدور" مع معطيات العالم الخارجي أو العوامل الطبيعية كـ "الأشجار الطويلة"، ومعطيات الذات أو الذوات الثلاث أو العوامل النفسية "درب الحياة + الطموح". بمعنى، أن الناصَّة توظِّف العلامة الجسديَّة في طابعها الفيزيائي من أجل بناء حالة نزوع ذاتي تروم الفتيات السعوديات الثلاث تجريبها في الحياة وهنَّ اللواتي جرَّبن، من ذي قبل، حيوات صارت جزء من تاريخهن الذاتي قدر تعلُّق الأمر بعلاقتهن بالذوات الذكورية "الزوج الهارب بالنسبة لعنّاب، والزوج المطلِّق/ سلطان العاجي بالنسبة لسلوى، والزوج الفار/ مشاري بالنسبة لمريم. وعندما تضع الناصَّة إحدى الفتيات، وهي مريم، في سياق هذه التمثيل الجسدي/ الذاتي، إنما تريد منه خلق علاقة مصير واحدة تعيشها الفتيات الثلاث المسافرات إلى جنيف بحثاً عن مصائر أنثوية مختلفة.

"سلوى"
نبقى في جنيف، ولكن لنصل المقطع الآتي بالمقطع النَّصي السابق رغم خصوصيته ولنقرأ:
"سلوى بلون القمح الفاتح، وشعرها مربوط ربطة ذيل الحصان، ومريم ببشرتها الحنطية المتورِّدة، وشعرها المنثال على كتفيها، وعنّاب ببشرتها ذات السمرة الشديدة ووجنتيها اللامعتين، وقامتها الفارعة، واستدارات جسدها المشدود كتمثالٍ من الأبنوس" (ص 56).
نبقى بداية مع سلوى التي نتعرَّف في صدر هذا النَّص/ المقطع على بعض من علاماتها الجسديَّة مثل لون بشرتها القمحي، وهي علامة طبيعية، وشعرها الذي لم تكشف الناصَّة عن لونه سوى شكله Design المربوط ربطة ذيل الحصان، في حين يكشف لنا النَّص/ المقطع التالي المزيد عن جسديتها:
"سلوى التي كانت ترتدي قميصاً من الحرير الملوَّن، وتضع حول عنقها قلائد من أحجار مدوَّرة، تتدلّى على صدرها وألوانها قريبة من ألوان القميص وقد حشرت ردفيها في بنطلون من الجينز كتب على مؤخرته دولتشي غابانا، وحملت حقيبة لوي فيتون.." (ص 98).
في هذا النَّص التمثيلي لجسديَّة سلوى، ركَّزت الناصَّة على العلامات التزيينية التي شكَّلت بمجموعها جسديَّة مضافة. وتعدُّ خامة القميص "الحرير" أولى العلامات التي تجود أنوثة في هذا المجال، على أن اختيار هذه الخامة لها دلالات مهمة تقف في مقدمتها النوعية الفاخرة لهذا النوع من الأقمشة، وبالتالي القيمة الجمالية له، فضلاً عن الدلالة الأنثوية التي يضفيها على جسد المرأة. وتأتي "القلائد" كعلامة تزيينية ثانية في هذا النَّص، ورغم غياب لون القلائد وكذلك غياب لون القميص الحريري، إلا أن الناصَّة ربطت بين لون أحجار القلائد المدوَّرة، ولون القميص الحريري من دون تحديد ذلك اللون سوى ما أفضى إليه تجاور اللونين من قيمة تناسقية.
أما البنطلون، فهو الآخر غاب عنه لونه سوى الماركة التجارية الراقية التي أثبتتها الراوية، وكذلك ماركة الحقيبة الفاخرة التي تحملها سلوى. وما يُلاحظ هنا أننا نجد أنفسنا بإزاء جسديَّة تزيينية فاخرة سعت بدرية البشر إلى تسريد جسد سلوى بها.
أخيراً، يكتنز هذا النَّص تسريداً وليس وصفاً لفعل الحشر، حشر سلوى لمؤخرتها في البنطلون الجينز، وهو التسريد الذي يستبطن حافزاً لإظهار جمالية مؤخرة سلوى الإغوائية التي يحيل عليها فعل الحشر، وبتالي فعل الإثارة الناتج عن ذلك.

"عنّاب"
أما عنّاب، فلعل تمثيل علاماتها الجسديَّة يختلف من حيث تركيز الناصَّة على تكرار مداراته من بداية الرواية حتى أواخرها، ومن الرياض إلى جنيف، ومن الطفولة مرورا ًبمرحلة الشباب أيام الدراسة الجامعية وما بعدها، حتى زمنية المكوث المؤقَّت في جنيف.
في مرحلة الشباب، وعندما كانت عنّاب تشتغل في فرقة غناء شعبية، حدث وأن دخلت في علاقة سحاقية أو مثلية أنثوية lesbian مع زميلة لها تعمل في الفرقة لم تكن عنّاب البادئة بها إنما "موضي" التي كانت تستبطن برنامجاً اشتهائياً كانت عنّاب طرفه المشتهى وموضي المشتهي.
لقد سارت موضي بخطى ترويضية من أجل الظفر بجسد نظيرتها الأبنوسي عنّاب وما يكتنزه من طاقة جنسية مشتهاة في منظور موضي، بدأت بالحركات اللمسية كالقرص على سبيل المزاح، ومن ثم القُبلات على سبيل المحبة الآدمية، وبالتالي تحوَّل الأمر إلى تهيئة جسديَّة عنّاب لمرحلة الانتعاض، وصولاً إلى التراضي المشترك لتحقيق الرغبة الجنسية، والتموقع المتبادل بين ذاتي عنّاب وموضي من خلال التجاذب الجسدي.
لقد دخلت بدرية البشر مرة إلى سرير العشيقتين المثليتين "موضي + عنّاب" عندما كانت الأخيرة معرّاة وكانت موضي "... تُحضر معها أحياناً خليطاً من الشيكولاته وتضعه على صدر عنّاب وفخذيها وتلعقه أو تشتري من بائعات يزرن القصر معجوناً غريباً مثيراً يستخدمه عادة الأزواج، وتشرع في تقبيل ساقي عنّاب جزءً جزءً، ثم فخذيها، ثم أصابع قدميها، وتقول لها في حمّى هياجها إنها هي زوجها الذي يحبها ولا تريد أن تملّها أبداً" (ص 129).
أعتقد أن النَّص واضح بما فيه الكفاية قدر تعلُّق الأمر بجسديَّة عنّاب العارية، المشتهاة من جانب موضي التي تلحس الشيكولاته بوصفها جسداً متخيَّلاً ومضافاً إلى جسديَّة عنّاب الأبنوسية.
ونلاحظ على الناصَّة أو بدرية البشر أنها ركَّزت تمثيلها على مواضع عنّاب الجسديَّة الأكثر أُنثوية وإثارة للجنس والاستجابة لحضور الرغبة الانتعاضية النارية؛ وذلك عندما جعلت فعل اللحس أو اللعق لجسد عنّاب المطلي بالشيكولاته الذي شرعت به موضي يبدأ بالنَّهدين صوب الفخذين "مروراً بالبطن والعانة، وهو ما يمكن افتراضه في بنية السَّرد العميقة Deep structure"، وبالتالي الساقين، وصولاً إلى أصابع القدمين.
لقد جرى ذلك بالرياض، وهو التمثيل الوحيد الذي عرّى جسد عنّاب، بينما التمثيلات الأخرى التي جرت بالرياض ركَّزت على جسدها المغطى بالثياب السُّعودية، وطال علامات الوجه والرَّقبة والشَّعر والصدر والمؤخِّرة كما سنلاحظ ذلك.
لنبقى مع عنّاب عندما كانت بالسُّعودية، ومعلوم أن العيش في بلد من هذا النوع يفرض التزامات قبلية ودينية وأعرافية تتحكَّم بظهور وحضور الجسد الأنثوي في الحياة الأسرية والعامة. لذلك، أبقت بدرية البشر جسديَّة عنّاب في إطار هذه الالتزامات واستعانت مرَّة بـ "سلوى" في تمثيل جسديَّة عنّاب عندما قالت الراوية: "أقبلت وقتها فتاة سمراء طويلة، لكنها باعتراف سلوى، أجمل سمراء رأتها في حياتها.." (ص 55).
وواضح هنا، أننا بإزاء وحدتين سرديتين مصغرتين تكشفان عن جسديَّة عنّاب من خلال علامتين هما الطول والسمرة، أما الحكم "أجمل سمراء رأتها في حياتها" فهو احتفاء الناصَّة بعنّاب عبرَ سلوى. وفي السُّعودية أيضاً، وعلى أيام عنّاب الجامعية، تأخذنا بدرية البشر إلى تمثيل علامة شمية The sign of olfactory خاصة بعباءة عنّاب: "ففاحت من عباءة عنّاب رائحة معجون الورد والعود الكمبودي... كانت عباءتها مرتبة ومحشوة بطقس فاخر لا تتقنه فتاة جامعية" (ص 56).
من ناحية أخرى، نجد بدرية البشر تستعين بمريم، هذه المرَّة، لتجعلها رائية متمثلة لجماليات جسدي سلوى وعنّاب في مقطع نصيٍّ يبقى عند المعاني العامة لجماليات الجسد الأنثوي: "نظرتْ مريم إلى جسد سلوى الممتلئ بالفتنة، وجسد عنّاب المتورِّد بالأنوثة، لكنهما، أيضاً، جسدان متروكان، مهجوران.." (ص 13).
في الواقع، يكشف الجزء غير الوصفي، الأخير، من هذا النَّص، عن جانب مهم من جوانب ذوات الحالة "عنّاب + سلوى"؛ فالفتنة والتورُّد في جسديهما قيمة أًنثوية جمالية لكنها مهجورة ذكورياً؛ فعنّاب وقد هجرها زوجها اليمني "عبده" حتى استحالت إلى عاهرة بمزاج اصطفائي، وسلوى طلَّقها زوجها "سلطان العاجي" حتى صارت تنام معه في ليال حمراء ولا بديل ذكوري يملئ الفراغ.
إنَّ هذا التمثيلات الاحتفائية لعلامات عنّاب الجسديَّة في السُّعودية ستظهر على نحو أوسع في جنيف من جانب بدرية البشر، وذلك عندما قدَّمت الأخيرة خمس لوحات جسديَّة في نص تسريدي/ وصفي واحد:
"أقبلت عنّاب بقامتها السمراء، وجسدها الأبنوسي المشدود، وشعرها ذي القصَّة القصيرة. كانت أثوابها تشعُّ فرحاً وأناقة؛ بنطلون جينز يلتصق بفخذيها ويستدير بضخامة عند المؤخرة، وقميص حريري ورديِّ اللون، وعقد أخضر طويل يتأرجح على مشيتها. وصدر مكتنز، تظهر استداراته من خلال زر، تمرَّدَ على مشنقته، فأطلَّ من فتحته، مدوَّراً وشهياً" (ص 50 ـ 51).
لولا فعل الإقبال "أقبلت" في هذا النَّص لقلنا إنه من النَّصوص الوصفية الخالصة لجسدية عنّاب. ولكن مع ذلك لنبقى عند هذا التمثيل الوصفي وما يجود به من علامات؛ فالنَّص يكشف عن مجموعتين من العلامات الجسديَّة هما العلامات الجسديَّة الأساسية، والعلامات الأزيائية الخاصة بثياب عنّاب ذات الجسد الأبنوسي:
أولاً: عناصر الجسد:
1. القامة السمراء.
2. الجسد الأبنوسي المشدود.
3. الشَّعر ذي القصَّة القصيرة.
4. الصدر المكتنز والمدوَّر واستدارته الشهية.
ثانياً: الثياب:
1. البنطلون الجينز الذي يلتصق بفخذي عنّاب صعوداً إلى مؤخرتها المرصوصة.
2. القميص الحريري الوردي.
3. العقد الأخضر الطويل.
إنَّ مجموع هاتين الفئتين من العلامات يمثل بكليته لوحة جسديَّة واحدة لم تكتف بدرية البشر بتسريد المواضع الأنثوية ذات التأثير الاشتهائي كالنَّهدين والفخذين والمؤخرة، وهو ما يخلق في حدِّ ذاته جسديَّة، إنما بتسريد جسد عنّاب المؤثث بجسديَّة ملابس بدت وظيفتها أنها تُخرج أنوثة جسد عنّاب من الكمون إلى الظهور، ومن القوة إلى الفعل، ليرتسم جسدها كما لو كان أيقونة أُنثوية Icon أكثر اشتهاء في مخيال الناصَّة، ومن ثمَّ في مخيال القارئ Reader أو المتلقي Receiver الذي قدَّمت له بدرية البشر بطلتها عنّاب كأنموذج للمرأة السُّعودية التي ولدت في بيت سيدها الأبيض الذي اغتصبها طفلة وهي ابنة عبدة في قصره، وتعلَّمت حتى دخلت الجامعة، وعاشت حريتها، وكان رأسمالها هو جسدها الأبنوسي الممشوق إثارة واشتهاءً؛ الجسد الذي أغوى ذاك الأمير وغيره من شخصيات القوم سواء في الرياض أو في جنيف، وهو أيضاً الجسد الذي حرصت بدرية البشر على تمثيله بوصفه رمزاً دالاً على نوعية من النساء ذوات الجسد الذي يمتلك مقومات الأنوثة بتماميتها الكاملة ذلك هو الجسد الأبنوسي الذي تصف بدرية البشر صاحبته بـ "الحورية السوداء" (ص 137).

الهوامش
ـــــ
* كاتب من العراق مقيم بالإمارات
(1) للمزيد حول هذين المفهومين اُنظر: د. حميد لحمداني: بنية النَّص السَّردي من منظور النقد الأدبي، ص 79، المركز الثقافي العربي، بيروت ـ الدار البيضاء، 1993.
(2) بدرية البشر: الأرجوحة، رواية، دار الساقي، بيروت، 2010.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف