ثقافات

نقاد وروائيون: التجريب يجعل الرواية أكثر مرونة وحرية

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

محمد الحمامصي من القاهرة: ظل أفق التجريب أساسيا في تطور الرواية العربية سواء على مستوى الشكل أو طرق السرد أو اللغة أو بنية المكان والزمان أو زاويا الرؤية وتقنيات معالجتها، وقد شكل التجريب عنصرا جوهرية في تجارب كبار الروائيين عربيا وعالميا، وما ازدهار وتعددية المشهد الروائي الآن إلا دليلا على حيوية أفق التجريب بين أيدي المهرة خاصة من الروائيين، وقد شهدت قضية التجريب نقاشات كثيرة في ملتقى القاهرة الدولي الخامس للإبداع الروائي الذي عقد أخيرا بالقاهرة، امتدت من الجلسات إلى الموائد المستديرة إلى الشهادات، الأمر الذي كشف عن حيوية الرؤى والأفكار سواء على المستوى النقدي المتابع أو مستوى المبدعين، وفي هذا التحقيق نتابع جانبا مهما من آراء النقاد والمبدعين في هذه القضية الحيوية: التجريب.
يقول الناقد إبراهيم فتحي: يجعل التجريب الرواية أكثر مرونة وحرية وقدرة على التطور وعلى نقد نفسها، كما يجدد لغتها ويدخل عليها تعدد الأصوات والانفتاح الدلالي والاحتكاك الحي بواقع متغير وبحاضر مفتوح النهاية، إن التجريب المستمر جعل الشكل الأدبي الروائي متطوراً قادراً على الاستجابة لتطورات الحاضر وتفتحه، فهي النوع الوحيد المولود من هذا العالم الجديد المتطور ويمتلك تماثلاً معه. فهي تقع في نطاق الاتصال المباشر بالحاضر المتطور غير المكتمل الذي يواصل إعادة التفكير والتقييم دون حسم نهائي، حاضر يستطيع الناس رؤيته ولمسه وتصوره باعتباره على نحو متجدد عالم الممارسة والملامسة، وأهم مشكلة تعرض لها التجريب في تاريخه الممتد هي التساؤل حول فكرة أن الرواية لا تتألف فقط من الحبكة والشخصية والوصف، بل تتألف أيضاً من البناء والتركيب والقالب اللغوي أي الشكل. فهي ليست مجرد نقد للحياة واحتجاج عليها وإنما تخلق حياة فنية من خيال لغوى يتصدى لتنظيم تجربة حية تهدف إلى تفسير الواقع لا إلى نقل التجربة كما هي، بل التجربة التي تنجزها التقنية السردية. فهذه التقنية تكتشف التجربة وترتادها وتنميها وتقيمها وتوصل معناها ولا تكتفي بأن تعكسها. فتجريب التقنية يعتبرها سيطرة على مواد التجربة الحية لا وقوعاً في حبائلها واضطرابها كما يقع المرء في حبائل وتناقضات تجربة واقعية، إن التجريب التقني المتفق مع شخصية وطابع العصر يستلزم ما هو أكثر من الموضات العصرية ومن محاكاة القردة لأساليب فن طليعي. فالأسلوب الصياغى يحدد نوعية التجربة ويحللها ويقوم بتقييمها لأن الشكل بنية رمزية لا نسخة من الحياة، فهو يعتمد على امتلاك المعنى واستمرار الفهم المركب البعيد عن التبسيط للواقع والذات واكتشاف ما هو لا يزال مجهولاً. وعلى ذلك فتعريف التجريب هو أنه التزام بإبداع مفاهيم جديدة وتمثيلات للعالم بواسطة أساليب تتجاوز الأعراف التقليدية وأشكال التعبير التي تعد صدئة أو متحجرة.
وقد يتخلى التجريب الآن عن كتابة روايات تكون كنبوءة سياسية أو تحليل سوسيولوجي، فذلك يمكن أداؤه على نحو أفضل في مقال أو بحث أو دراسة. فما يحاول التجريب الروائي تقديمه هو ما الذي يمكن أن تكتشفه الرواية وحدها وتعرضه بطريقتها النوعية عن حاضر اليوم وعن الفرد ووجوده الداخلي. وتتحدد الرواية التجريبية بعالمها النسبي الملتبس البعيد تماماً عن حقيقة يقينية واحدة. كما تتصف بالتساؤل والتشكك عموماً. لذلك قد تبدأ مسارات التجريب الممكنة التي تتقاطع مع تاريخ الرواية الفعلي بمسار المفارقة والسخرية والتهكم الذي يتقاطع مع الإيهام بالحقيقة والتصوير الواقعي بنظامه الزمني المتسلسل. ويمضى التجريب في مسار إدماج الحلم أو الكابوس والخيال بالواقع ومسار تسليط الضوء الفكري على ما في الحياة الإنسانية من مجاهل دون أن يكون ذلك بحثاً فلسفياً.
وهناك مسار خجول هو مسار إطلاق سراح الفرد من الركن الضيق للحياة اليومية وزمنه الخانق وربطه بالزمن الجمعي وفضائله الأوسع، وأن يكن ربطه بتعدد الأصوات قد صار أمراً مألوفاً غير تجريبي، إن مسارات التجريب كثيرة من الصعب قولبتها.

التجريب الشخصي
وانطلاقا من تجربته يقول الروائي العراقي حمد خلف: بداية، لا بد لي من القول إن التجريب الذي رافق تجربتي، جاء على مرحلتين: الأولى اتسمت بالتجريب الشكلي أي اعتماد اللعب الشكلية التي لا تتطلب أكثر من الدخول على بعض التمرينات الأسلوبية من مونتاج أو خلق صور فنتازية وبدايات صادمة مفاجئة في بنيتها، أما المرحلة الثانية فقد اتسمت بالتجريب الواعي الذي تم من خلاله استغلال المهارات الفنية والجمالية، هذا النوع من التجريب شمل معظم أبناء جيلي. ولست أنا وحدي من اتجه نحو عقلنة التجربة الشخصية والاستفادة منها لغرض تطوير السرد القصصي والروائي من خلال التجريب، وبالطبع لم تكن تجربتي بمعزل عن الآخرين، بقدر ما كنت أحاول أن يكون لي صوتي الخاص. وكان لا بد من الاستفادة من معطيات التراث العربي والإسلامي في التاريخ أو الأساطير والملاحم والحكايات الشعبية، ولعل أبرز مجالات الاستفادة كانت من السفر العربي الخالد، أعنى به ألف ليلة وليلة، حيث المجال خصب للتجريب وتطوير النص.. وأحسب أن تلك خاصية يمتاز بها التجريب الماهر، أي أن يأتي التجريب لخدمة النص وتزجيته بل وتخلصه من الترهلات السردية، إضافة إلى غناه في مجال العبارة أو الجملة الطويلة، لقد اتسم معظم أعمالي الإبداعية بالتجريب الفني الذي أعطى انطباعاً واضحاً للكثير من النقاد، إني أحرص على التخلص من تراتيبة السرد وتحطيم وحدة الزمن وجعل النص حراً وأن يأخذ مداه في التدفق والتلوين، ولربما كان ذلك جزءاً من متطلبات التجريب الواعي لدور الكتابة الروائية وتأثيرها في نفسية قارئ يطمح إلى قراءة رواية تتسم بالتجديد والحداثة والخيال. ولعل الأخير هو أحد مستلزمات العمل على كسر أطر الزمن أو البنية الحكائية بصورة عامة.. ويقودنا الحديث عن الخيال إلى الكلام عن الحرية في التعامل مع نصوصنا التي قد تبدو مكتوبة في الماضي، لكن لا بد لها من العيش وسط فضاء من الحرية، وتلك طبيعة التجريب كما أراه، أي أنه بقدر ما يعطينا فرصة التمتع بالصيغ المكتشفة والتي تتجاوز بطبيعتها الابتكارية معظم الصيغ التقليدية في الكتابة القصصية والروائية، يمنحنا الحرية في خلق وابتكار تلك الأساليب والصيغ ونكهة السرد الجديدة.
لقد كان التجريب بطبيعته فرصة مناسبة لفرز الطاقات التعبيرية الكامنة فينا، ولعل من أبزر النصوص التي اتسمت بطابع التجريب في مجال القصة والرواية، روايتي "موت الأب" و "محنة فينوس" الأولى صدرت في عام 2002 أما الثانية فقد صدرت طبعتها الأولى في 2007 في بغداد وسيكون الحديث هنا عن محاولة التجريب الروائي منصباً على رواية "موت الأب" التي تمت الاستفادة من خلالها من مجموعة الأساطير والحكايات الشعبية، إضافة إلى الاستفادة من البني الواقعية والاجتماعية والصراعات التي كانت دائرة منذ فترة طويلة في ما قبل الاحتلال وتحديداً في التسعينيات من القرن العشرين، حيث لعب الحصار الاقتصادي العالمي على العراق دوراً خطيراً في إفراز ظواهر وأمراض اجتماعية وسياسية إضافة إلى أمراض الثقافة العراقية في حينه. إننا نرى أن التجريب هو إعادة بناء الصيغ القديمة بعد تفككها وإحالتها إلى أسس وأنظمة سردية جديدة ذات طابع ابتكاري وسمات مكتشفة من حيث الدخول على السرد القصصي والروائي الذي طبع بطابع الحداثة وتأثيرات المنجز الروائي العالمي، لذا نجد أن ما حصل من اصطراعات القيم في "موت الأب" إنما جاء نتيجة المزاوجة ا لمعرفية بين المنجز الأوربي المتطور والتراث العربي والإسلامي من جهة، وبين ثقافة المؤلف ووعيه من جهة أخرى.

التجريب الروائي
الكاتب جمال زكى مقار يعتبر التجريب غاية، بل هو الفن في حد ذاته، ويقول: هذا النوع الأول، بدءاً من مانيفيستو أندريه بريتون 1920 الخاص بالسريالية، وتداعى المعاني كأساس لإنتاج كل أنواع الفنون، مع التسليم بأن السريالية حققت نجاحاً ما في الفنون التشكيلية (الرسم بالتحديد)، بلغ قمته في لوحات سلفادور دالي، إلا أنها أخفقت في إنتاج أبنية سردية ذات بال أو قيمة يعتد بها.
أما النوع الثاني فهو الذي يرى التجريب وسيلة للوصول إلى إنتاج أبنية روائية وسردية جديدة، ويشتمل على تجارب على عدة مستويات:
- تجريب على مستوى طرق السرد مثلاً لذلك ومطلعه استخدام تيار الوعي والمونولوج الداخلي المباشر وغير المباشر لتجاوز أزمة الراوي العليم وتضييق المساحة بين الوصف المسهب، وبذا تعلو قيمة ارتباط المشاعر بالأحداث.
- التجريب باللغة كما في تجارب إدوار الخراط باستخدام تقنيات شعرية في الأساس، كالمحارفات الصوتية عبر مونولوجات طويلة لتجسيد الحالة الشعورية.
- فتح فضائي الزمان والمكان بحيث ينكسر التحديد القاسي لمجرى الأحداث، ويمكن التنقل بين اللحظة الآنية المعيشة والماضي البعيد أو القريب بلا تحديد.
- استخدام رهانات فنون الحكى الأخرى مثل اللغة المكثفة في القصة القصيرة أو الحوار الذي هو أساس بناء النص المسرحي.
- التناص القائم على إدخال نصوص موازية للنص الأصل، سواء أكانت مأخوذة من الأثر أو من الشاهد الديني (التوراة - الإنجيل - القرآن) أو من نصوص كتاب آخرين، وزرعها داخل مبنى النص الأصلي (تجارب صنع الله إبراهيم في "بيروت بيروت" و "ذات").
التجريب وحداثة الرواية
ويؤكد الروائي الحبيب السالمى أن كل كتابة حقيقية هي كتابة تجريبية بمعنى ما، ويضيف : التجريب - كما أفهمه - هو شرط الكتابة وجوهرها. من دونه لا تستقيم الكتابة. المشكلة هي كيف نفهم التجريب وماذا نعنى به. شخصياً لست مولعاً مثل الكثير من روائيي المغرب العربي بما أسميه "التجريب البرانى"، وأقصد بذلك أساساً في جملة من الحيل الأسلوبية والفنية التي أصبحت منذ نحو ثلاثة عقود رائجة في الخطاب النقدي العربي، خصوصاً المغاربى منه.
إلا أن الأهم من كل ذلك هو أنني أفصل بين التجريب والحداثة. بين التجريب والتجديد. ثمة كتابات تجريبية لكنها ليست حديثة لأن "تجريبيتها" سطحية خارجية استعارضية. وثمة كتابات تبدو تقليدية وبعيدة عن التجريب بمعناه الرائج لكن لو تأملناها لاكتشفنا أنها جديدة وحديثة. شخصياً أعتبر "حدث أبو هريرة قال" لمحمود المسعدى مثلاً نصاً تجريبياً قوياً على الرغم من أن لغته تراثية قديمة ومناخاته تُحيل في الظاهر إلى عالم لا ينتمي إلى عالمنا الحديث. وتجريبيته تتجلى في أنه محاولة ذكية وطريفة وعميقة لتأسيس كتابة سردية عربية تقوم على شكل الخبر وبنيته كما ورد في النثر العربي القديم لا على النموذج الروائي "البلزاكى" الغربي.
وهذا الهوس بالتجريب الذي أعتبره ملمحاً أساسياً من ملامح الرواية التونسية والمغاربية عموماً تولد عنه هوس بالحداثة وكل ما يرافقها من مفاهيم كالقطيعة والتجاوز والمغايرة. هنا أيضاً يطغى الجانب الشكلاني الخارجي فى العمل الروائي على الجوانب الأخرى الخفية المستترة التي تنتمي إلى ما أعتبره ليل النص وإيقاعه الداخلي وحركته الباطنية، وهو ما يكون أحياناً حاسماً فى تحديد طبيعة النص ومقدار حداثته.
إننى أربط بين مفهوم الحداثة والقدرة على التقاط ما يميز لحظة الكتابة، أى قدرة الكاتب على إيجاد علاقة قوية بين نصه والملامح الأساسية للعصر الذي كتب فيه، أن تكون حديثاً هو أن تقول "هنا والآن" كما يقول الفلاسفة حقيقتك التي لن يقولها أحد بدلاً منك. إن التجريب والحداثة والتجاوز التى نتحدث عنها كثيراً الآن ليست - فى رأيي - حكراً على روائيي الأجيال الجديدة. كل رواية تقول عصرها وتعرف كيف تصغي إليه هي رواية حديثة إن وضعناها بالطبع فى شرطها الثقافي الاجتماعي.

ضرورة التجريب
ويعتقد الكاتب الروائي عبده جبير أن في تاريخ الأدب لحظات فارقة، حين يجد كاتب ما - أو مجموعة كتاب - أن هذا الشكل - والرواية هنا هي الموضوع - قد وصل إلى نقطة فاصلة يجب تجاوزها، غالباً بتأثير التكرار والمماطلة التي وصلت إلى نقطة احتقان وفساد وتهرؤ واستخدام لوسيلة الأدب لتكون زخرفاً اجتماعياً في حفلات الطبقة الرأسمالية أو الطبقة المتسلطة، وهذا ما يحدث الآن في مصر على وجه التحديد.
ويضيف جبير : لذا فإن التجريب (لا أعرف لم نستخدم هذه الكلمة فى مجال الفن بينما الكلمة الموازية في مجال الفكر هي "التجديد") هو ضرورة لإنقاذ هذا الفن من الابتذال، لإنقاذه من التحول من "فن" راق ليصبح تسلية للكسالى ولتحفيز المشاعر الغريزية الشاذة لدى المتنطعين على شواطئ العهر الفني والثقافي قبل أي شئ آخر، على موسيقى مبذلة وأصوات أكثر سوقية تتنطع أجساد غليظة سميكة الجلد والقلب.
إنهم يروجون لمثل هذا النوع من العهر الأدبي الذي يراد له أن يقود الجميع - حتى براعم المواهب التى لم تتشكل بعد - ويرصدون - فعلاً وعملياً وعلى أرض الواقع - الملايين من أجل:
1- تعميم هذا الشكل من الكتابة المبتذلة والعمل على أن يتسيد الساحة ليعبر عن "الوجه الأدبي" لمصر لاعتبار أن النجاح التجاري هو عنوان على النجاح الأدبي، والحقيقة المرة أن هذا النجاح التجاري نفسه مدفوع بأموال تريد استثماره للكسب المالي فقط، لا لأي اعتبار آخر باعتبار هذا الشكل الكتاب قابل للاستخدام عبر "الميديا" كفيلم أو مسلسل من مسلسلات الصابون، وليس هذا - من حسن الحظ - ما يتحقق على أرض الواقع فى تجارب مماثلة كالسقوط التجاري المدوي للعمل المبتذل مسلسل "عايزة أتجوز" والفيلم الأكثر ابتذالاً - لا يستحق حتى مجرد ذكر اسمه - الذى تسبب فى انهيار مؤسسة انتاجية وليدة كان ممولوها الأمريكان يتمنون لها أن تسيطر على الساحة الفنية بفضل الرواج الكاذب الذى افتعلته هذه المؤسسة نفسها بشراء آلاف النسخ من الكتاب الذي لم يكن قد وجه مؤلفه فى البداية ناشراً له فطبعه على حسابه الشخصي حتى دخلت شركة الإنتاج على الخط وبدأت فى توزيع النسخ وإهدائها مجاناً.
2- خطف الرواية الأدبية الحقيقية، ووضعها فى خانة "الكتب اللى مبتوزعش" لحبسها إلى الأبد فى صندوق الأعاجيب، وكل هذا برعاية مؤسسات مالية مشبوهة بقصد دفع الناس إلى السهل والشوارعي والمبتذل فى النهاية.
لم يجد كاتب ما (أحياناً منذ البداية وحتى النهاية أو في بعض المراحل) ضرورة لتجريب أشكال جديدة تتماشى مع اللحظة الراهنة يرى - قبل غيره ربما - أنها لحظة التغيير لفتح النافذة لما هو قادم؟ هذا البحث فى المعرفة التأملية يحاول أن يؤكد أن دور المجرب هو الدور الأكثر أصالة لأنه:
1- يسعى للبحث عن لغة جديدة تتماشى مع الشكل الجديد الذي يشبع الروح الجديد بعمل مبتكر.
2- يغامر بتحطيم الشكل القديم بغية البعث انطلاقاً منه إلى طريق جديد قد يدفع بالقديم إلى الظل، وإن كان هناك استحالة إلغائه، فالسلم الأدبي لا يلغى بعض درجاته بعضاً (كما تلغى النظرية الجديدة في السلم العلمي النظرية القديمة)، بل إنها تضعها فى مكانها من التاريخ.

اللعب الروائي ومعنى الكتابة
ويرى الناقد الأردني فخرى صالح أنه إذا كانت مرحلة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي قد شهدت صعوداً لظاهرة التجريب والعمل على الشكل فى الرواية، فإن الفترة الحالية تشهد انكفاءاً لهذه الظاهرة بمعنى من المعاني، وعودة إلى ما استقر من أشكال الكتابة الروائية واستخدام الحيل السردية ذاتها، والانبهار بالحكاية إلى الحد الذي يبدو فيه توليد حكايات فرعية من الحكاية المركزية فى عمل روائي بعينه ديدن معظم الروائيين خلال السنوات العشر الأخيرة.
ويضيف: لقد دخلنا زمن الحكاية مجدداً، فى الوقت الذى افتقدنا فيه حماسة الستينيين والسبعينيين الذين كان التجريب والاشتغال على اللغة والشكل هو محور أعمالهم الروائية. لكن لا شك أن حماسة ذلك الجيل الذي حاول كسر الشكل المحفوظي فى الكتابة الروائية هي التي فتحت آفاقاً للرواية العربية طورت الأساليب والأشكال وطرق اللعب الروائي وعلاقة الرواة بما يروون عنه، وكيفية التعامل مع المكان والزمان في الرواية، إلى آخر ما تتطلبه الأشكال السردية التي تراكمت من خلال عمل أجيال من الروائيين في أماكن وأزمنة مختلفة من العالم.
لكن تراجع حدة التجريب، والعمل على الشكل، لا يعنى أننا نفتقر إلى هذا التيار تماماً فى الكتابة الروائية العربية الآن. إن الغياب ذو طبيعة كمية هنا، وهو يتعلق بالشدة لا بالحضور. فجيلا الستينيات والسبعينيات اللذان لا يزالان يواصلان الكتابة غيراً قليلاً فى مواضع التشديد فى عملهم الروائي، إذ خفت العمل على الشكل بصورة من الصور وعادت الحكاية، وشئ من السرد الخطى التقليدي ليحتل صدارة ذلك العمل. لكن التجريب فى الشكل لا يزال هناك موجوداً فى ثنايا أعمال هذين الجيلين. إضافة إلى هذين الجيلين فإن الأجيال الطالعة الجديدة، وأخص بالذكر أسماء موهوبة تعرف ماهية الكتابة الروائية كما أنها عارفة بتاريخ تحولات الأسلوب فى النوع الروائي، تروج في كتابتها بعضاً من المناطق التى لم يردها التجريبيون الأوائل، إنهم يلعبون على الشكل، وعلاقة الراوي بما يروى عنه، وعلاقة الأزمنة فى العمل، بدلاً من التجريب فى اللغة، والحفر الجواني فى داخل الشخصيات الروائية. لم يعد أسلوب تيار الوعي، ومخلفات كتابة فرجينيا وولف وزمرتها من كتاب الرواية السيكولوجية، يشغل كتاب هذا الزمان فى الرواية العربية كما فى الرواية المكتوبة فى أمكنة أخرى من العالم. تلك ألعاب وهنت وتكفل علم النفس والدراسات الاجتماعية والثقافية وأشكال السرد اليومي والسير الذاتية بملء فراغها.
ويؤكد فخري صالح إن الرواية هي الشكل الإبداعي الأكثر حضوراً، الأكثر مقروئية وانتشاراً. والأهم من ذلك كله أن النوع الروائي يختصر أشكالاً وفنوناً عديدة. إنه النوع الذي يرفض الاكتمال ويصر على التطور، كما أنه يعمل بصورة مستمرة على الأخذ من أشكال التعبير والفنون كافة، حتى أصبح مزيجاً من أشكال واختزالاً وتكثيفاً للأنواع الأدبية التى سبقته في الوجود، وتطعيماً لمادته السردية بفتات من المواد المجتلبة من بيئات تعبيرية أخرى. لهذه الأسباب انطلقت الرواية في بحث مجدد عن مكان الفرد والجماعة فى التاريخ، في دوامة الصراعات التي تطحن البشر. ولعل التجريب فى الرواية العربية الآن يقيم في هذا الموضع، أي مثلث "الفرد - الجماعة - التاريخ".

التجريب الروائي
وتتحدث الكاتبة الكويتية فوزية شويش السالم انطلاقا من تجربتها فتقول: اهتمامي منذ بداياتي الأولى بالكتابة، كانت فى حقل التجريب الفني بكل أنواعه بدءاً بالرسم والتشكيل، مروراً بالشعر والكتابة المسرحية، وانتهاء بالرواية.
هذه المسيرة الطويلة في مختلف أنواع التجريب الفني تدفعني إلى السؤال الآتي: ما الذي يدفع الفنان والكاتب إلى الخوض في عملية التجريب والسير فى طرق غير معبدة مجهولة النتائج، محملة بوعورة الغامض وبالمعرفة النيئة التي لم تطرح فى اختبار؟
ويبدو لي أن التجريب هو قدر الفنان الفضولي الباحث باستمرار عن ألعاب جديدة تثير فيه شهوة المعرفة التي يحركها فضول نهم، مشاغب، لا يمل من البحث عن اكتشاف طرق وأسرار جديدة تقوده إلى المزيد من الانبهار بأضواء ألعابه السحرية، وهذا هو السبب الفعلي الذي دفع بي ومنذ بداياتي المبكرة فى سكة التجريب الفني.
من التجارب الجريئة المغامرة والمقامرة بكل ما هو مؤسس وراسخ وصلت إلى حصيلة كبيرة في الوعي الفني لم أتحصل عليها من الدراسة أو من اتباع الطرق الممهدة والمعبدة من قبل الغير.
هذه التجارب المجنونة نمت بى الوعي الفني وقادتني إلى حرية واسعة في الكتابة، وإلى عالم فسيح منفتح، حر بلا أي قيود من قواعد تقليدية راسخة، حرية واسعة تقود إلى اكتشافات جديدة تؤسس لرؤية فنية جمالية يطرحها منظور طازج ومختلف عما هو سائد.
الرؤية الفنية قد لا تكون جاهزة لدى الكاتب التجريبي لحظة الكتابة، أى أنه قد لا يعيها وعياً تام الوضوح، لكن رضوخه للضرورات الفنية التي يفرضها النص ويقوده إليها، هو الذي يمنح النص رؤيته الفنية الدقيقة والصحيحة والمضبوطة التي تجئ على مقاس النص المكتوب، وعلى هذا سأقصر نتائج تجاربي في هذه المقالة على النص الروائي، وهو المطلوب فى هذا المحور.
فى هذا المجال كانت تجاربى متنوعة على صعيد لغة الرواية، وزمن الرواية، وشكل التقنية المتبعة فيها.

رواية التجريب
ويقول الروائي المغربي مبارك ربيع: يرتبط موضوع التجريب فى الرواية، بأسئلة الهوية الإبداعية للجنس الأدبي من جهة، ومبدأ التطور والتجديد من جهة ثانية، ولا يعنى ذلك بالضرورة محددات معينة يمكن أن تعتبر ثوابت فى الفن الروائى تشكل هويته الأجناسية، فالمنظور أبعد وأكثر دينامية من تصور وقدسية أدبية، أشبه ما تكون بـ "سلفية روائية" يستقى منها ويتم السير على هديها، بل الأمر يتعلق بماهية التجريب الروائى فى انعكاسه على "مقومات" تكتسي طابع سمات ووظائف ذاتية محايثة - وليست مضافة أو خارجية - فى الهوية الإبداعية لفن الرواية أو أى فن أدبي إبداعي آخر، حسب خصوصيته الأجناسية، وتمثل فى جملة ما يشمل الجمالية والتواصلية وما يرتبط بهما أو يتولد عنهما من قيم فنية.
وباعتبار ما يقدمه تاريخ الأدب من المنظور الإبداعي بالذات، من مسارات التطور فى هذا المجال، فإن التجريب يبقى مشروعاً من الناحية المبدئية والنظرية، ما دام من غير المشروع ولا المقبول، عرض وصفة مكتملة جاهزة لكتابة الرواية، أو تسيطر خطوط للتحديد وعدم التجاوز في أي مجال من المجالات الإبداعية، والواقع أن التاريخ الأدبي والتطور الثقافي يبرزان بعض ظواهر ومظاهر في التحول والتغير الفني، عبر المراحل والعصور واختلاف الثقافات والحضارات، تسجل فى باب التجريب على نحو من شبه "مغامرات إبداعية" لكنها تعتبر طفرات نوعية فى تقدم الفن، وشكلت فعلاً مدارس مرجعية فى تاريخه، بيد أن الأمر لا يمكن أن يؤخذ في هذا الباب على مطلقية صرف، من شأنها أن تفتح بوابات الاستسهال والتبسيط، ومن ثم تيسير ركوب المغامرة التجريبية لذاتها في ذاتها، مما يفقد روائية الرواية، والإبداع بعامة، قيما ومقومات فنية ذاتية، فالتجريب الروائي تبعاً لذلك، ليس آلية خاريجة عن العملية الإبداعية ذاتها، ومن ثم انبثاقه عن وعى فني نمطي خاص، ومن ثم أيضاً، فهو إن كان يكتسي مظاهر فنية شكلية، فإنه يحتمل أو يتطلب جملة مواءمات موضوعاتية مضمونية وثقافية حضارية، إن لم نقل إنه يأتي تفاعلاً مع مقتضياها.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف