ثقافات

الشرق مهد الغرب.. بحرنا مشترك وثقافاتنا مشتركة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

محمد الحمامصي من القاهرة: تأتي أهمية ترجمة هذا الكتاب ""بحرنا المشترك .. الشرق مهد الغرب" للبروفسور الفنلندي المتخصصة في الدراسات العربية والإسلامية "ياهو هامين أنتيلا" من أمرين أظن أنهما مهمان للقارئ العربي في ظل خروج بعض الأصوات في الغرب التي تهاجم الحضارة العربية الإسلامية وتنفي عنها أي دور في التاريخ الإنساني، وهو الأمر الذي ينفيه الكتاب مؤكدا عكسه تماما.
أول الأمرين أهمية الموضوع وحيويته في اللحظة الراهنة حيث يرسخ لحقيقة تغيب كثيرا في ظل الضجيج الإعلامي الغربي الذي يتصيد أخطاء الشرق العربي الإسلامي، وهي أن الحضارة الغربية تدين بانطلاقتها وتطورها وما أنجزته إلى الحضارة العربية الإسلامية وجهود علمائها ومفكريها وأدبائها وشعرائها، وأنهما ـ أقصد الحضارتين العربية الإسلامية والغربية تبادلتا التأثير والتأثر ـ وثاني الأمرين من كون مؤلفه البروفسور "ياهو هامين أنتيلا" ليس عالما مشهورا موثوقا في رؤيته وأفكاره فقط في الأوساط الأكاديمية بل هو نار على علم في بلاده لأنه من رجالات المجتمع العاملين في قضايا الحوار والتقارب والتفاهم بين الحضارات، وقد بذل جهودا كبيرة للتعريف بالدين الإسلامي وبالحضارة الشرقية من خلال كتبه التي يقرأها العامة قبل الخاصة.
الكتاب الذي ترجمته مارية باكلا وصدر عن دار الكتب الوطنية بهيئة أبوظبي للثقافة والتراث، يحاول الإجابة على السؤال التالي "كيف أثر الشرق الأوسط في الثقافة الغربية؟ حيث يلقي الضوء على حضارات الشرق الأوسط القديمة مثل حضارة فارس وبلاد الرافدين ومصر وما قدمته للإنسانية على مستوى الدين واللغة والأدب والعلوم، ويركز على المؤثرات القادمة من الشرق إلى الغرب، "خلال المرحلة تمتد من حقبة "أغرقة" ثقافة الشرق الأوسط من القرن الخامس قبل الميلاد، ولاسيما منذ غزو الإسكندر الأكبر إلى تشكيل الثقافة العربية الإسلامية، ويبحث خلال هذه الألفية انتقال الثقافة الإغريقية إلى العرب من القرن الخامس إلى القرن العاشر، وهي الحقبة التي تشكل أساسا في انتقال الثقافة العربية إلى أوروبا.
يتقصى الكتاب إذن خلفيات الثقافة الأوروبية في ثقافات الشرق الأوسط، فيصحبنا في رحلة تاريخية مهمة تتكشف خلالها ما مرت به منطقة الشرق الأوسط من ثقافات وديانات وعلوم وآداب في حقب ما قبل الديانات الكبرى اليهودية والمسيحية والإسلام، وكذا مع ظهور تلك الديانات. ويرى مؤلفه أنه بالرغم من أن الثقافة الغربية اليوم هي الثقافة المهيمنة إلا أن الخاصية الغربية هي خاصية عابرة، فقبل ألف سنة كانت الثقافة العربية هي الثقافة المهيمنة، وقبل ذلك بألف سنة كانت الثقافة الإغريقية هي الثقافة المهيمنة، وإذا واصلنا التنقيب ألف سنة إلى الوراء سوف نعود إلى الشرق الأوسط ومصر، و"ليس للثقافة حدود جغرافية حتى نتحدث عن ثقافة غربية أو شرقية، الأمر يتعلق بالثقافة نفسها، وهي تزدهر في أماكن مختلفة من حوض البحر الأبيض المتوسط، وقد شاءت الأقدار أن تكون المنطقة الرائدة لهذه الثقافة اليوم هي أوروبا".
ويشير ياكو هامين إلى أن مقولة "بحرنا المشترك" ـ العنوان الرئيسي للكتاب ـ كان يطلقها الرومان على البحر الأبيض المتوسط، ويضيف "معنى ذلك أن البحر كان للرومان، وأنه كان يعد المياه الداخلية لإمبراطوريتهم، ومن الأصوب أن نفكر بأن البحر الأبيض المتوسط يرمز إلى بحرنا المشترك، وأن ضمير الجمع يرمز إلى كل الشعوب التي ازدهرت على سواحله، وإذا أردنا أن نفهم إحدى ثقافات المنطقة فهما عميقا علينا أن نتأمل ثقافات المنطقة الأخرى كذلك، حيث إنه لا يمكن فهم أية ثقافة كليا إلا بالنظر في خلفيتها"
يؤكد ياكو هامين أن ثقافات البحر الأبيض المتوسط تبدو نسقا متسقا بحيث إن الظواهر والأفكار والأشكال ذاتها تتكرر في ثقافات المنطقة، ومن السهل أن يلاحظ المرء فيها استمرارية تربط بيها، إذ يتطور شكل معين من أشكال الثقافة في منطقة ما، وينتقل منها إلى أخرى، ويستمر في التطور، وغالبا ما يتم نقله في شكله الأكثر تطورا إلى الثقافة التي استعير منها في البدء، "في الحقيقة يستحيل على المرء أن يتأمل إحدى ثقافات المنطقة دون الأخرى، لأنه من الممكن تتبع جذور كل ثقافة في المنطقة في المجتمعات الأسبق تماما، كما أن وقع كل ثقافة ملموس في المجتمعات اللاحقة".
ويرى البروفسور الفنلندي أن التأثيرات التي تركها العرب في أوروبا نوعان: منها ما تغلغل في جذور الثقافة الأوروبية وانصهر فيها، ومنها ما لا يزال ظاهرا في الحياة اليومية، وقال "انتشرت الثقافة العربية في سائر نواحي أوروبا في العصور الوسطى، وقد أدت أسبانيا مهمة عظيمة في انتشار التأثير الثقافي العربي، إضافة إلى أن العلوم العربية كانت علوما مشورة على الصعيد العالمي، وكانت تدرس في جميع الجامعات والمراكز العلمية الأوروبية. وقد كانت أهم التأثيرات الثقافة في مجالات الطب وعلم الفلك والرياضيات والفلسفة بالخصوص، فالعرب كانوا قد خطوا في هذه المجالات بالذات خطوات متقدمة جدا بالمقارنة مع الحضارة الإغريقية، ويرجع تقدم العلوم العربية على هذا النحو جزئيا إلى أن العرب جمعوا بين العلوم الإغريقية والعلوم الهندية، وأغنوا الإرث العلمي في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط من خلال الملاحظات والنظريات العلمية القادمة من خارج المنطقة".
وحول الدور الذي لعبه الفلاسفة العرب قال ياكو هامين "لقد كان ابن رشد أهم فيلسوف عربي عرفه الأوروبيون وكنه لم يكن الوحيد، فقد كان ابن سينا أهم من ابن رشد من قبل، فقد كان ابن سينا أهم من ابن رشد من قبل، وحين كتب جوند بلوند بحثه حول النفس "De anima" في سنة 1200، كانت مؤلفات ابن سينا أهم مصادره، ولم يهمش ابن سينا إلا عندما بدأت عملية ترجمة واسعة لأعمال ابن رشد وأرسطوطاليس من خلاله، غير أن مؤلفات ابن سينا في الميتافيزيقا أثرت في توما الأكويني وفي دانس سكوتوس، ومن خلالهما في الميتافيزيقا الأوروبية بصفة عامة، كما أن ديكارت كان يعرف مؤلفات ابن سينا والغزالي ويطلع عليها، لقد كانت العصور الوسطى عصر الفلاسفة العرب الذهبي ولكن آثار أفكارهم امتدت إلى ما بعد القرن السادس عشر كذلك".
وعن الشعر كشف باكو هامين أن المؤثرات العربية في الشعر أقوى بكثير "كانت الأشعار المكتوبة في أوروبا القرون الوسطى أشعارا لاتينية، تركيبتها مستوحاة من العصور القديمة، ومضمونها ديني، هذا بالطبع إلى جانب شيء من الشعر الشعبي الشفهي الذي لم يبق منه إلا القليل، أما عند العرب فقد كان الشعر دائما أهم من النثر، وقد تطورت أنواع جديدة من شعر العشق منذ القرن الثامن، كانت من بين موضوعاته العامة حب المرأة إلى درجة العبادة، ومحيط القصور، والتفكير في الحب على أنه مرض أو قدر لا يستطيع له الشاعر شيئا، كان الشعراء العرب يموتون حبا، وكانت الحبيبة بعيدة تعرف قدرها حق المعرفة، وقد طور الشعراء العرب في إسبانيا هذا النوع الأدبي تطويرا أكبر، فاستعملوا أنواع جديدة من المقاطع الشعرية، وأدخلوا عبارات باللغة العامية وضعوها في آخر القصيدة، وطوروا بحورا شعرية جديدة، وعندما ظهر في إسبانيا وفي جنوب فرنسا نوع جديد من الشعر باللغة الشعبية في القرن الثاني عشر يسمى شعر التروبادور كانت في هذا النوع الجديد كل خصائص شعر العشق العربي الذي ظهر في أسبانيا".
ويخلص ياكو هامين إلى أن أوروبا ولدت وسط حوارات وتدفقات واستعارات ثقافية، وأنها على امتداد مئات السنين كان للمناطق الشرقية والجنوبية لحوض البحر الأبيض المتوسط تأثير كبير في ما يحدث في شمال المنطقة، و"قد استعارت الثقافة الغربية من الشرق ومن الجنوب الكثير قبل أن تتمكن من أن تعيش عصرين ذهبيين، وقد تطورت الثقافة اليونانية القديمة، وأصبحت بشكلها الكلاسيكي بعد أن انهمرت عليها المؤثرات الشرقية انهمارا في مجال الفنون والعلوم والدين والفلسفة، ولم تنشأ أوروبا في الحقبة المتأخرة من العصور الوسطى إلا بعد أن عرفت العلوم والفلسفة العربية طريقها إليها مترجمة، حتى خلال العهدين الذهبيين كانت الطرق التجارية تصل بين سواحل البحر الأبيض، وقد انتقلت المؤثرات الثقافية على المستوى الشعبي من خلال التعاملات التجارية، كما انتقلت المنتوجات والتقنيات المختلفة أيضا بكل سهولة من منطقة إلى أخرى، مما وحد الموروث الشعبي، لأن القصص الجيدة عادة ما كانت تجد آذانا صاغية في المناطق اللغوية الجديدة".
ويعترف ياكو هامين "يمكننا أن نجد في كل مجال من مجالات الثقافة مؤثرات نحن مدينون بها للشرق الأوسط، ففن الكتابة والأرقام والورق هي أمور أصبحت جزءا من حياتنا اليومية، ونحن لا نفكر عند استعمالها أننا حصلنا عليها من الشرق الأوسط، وقد وصل الورق والأرقام إلى الشرق الأوسط من الهند والصين، وعندما نقيم احتفالاتنا الدينية فإننا لا نتذكر أننا نحتفل بأديان نشأت في الشرق الأوسط"

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف