ثقافات

الإسباني فرنسيسكو دي كيفيدو: أكبر شعراء الحب في العصر الذهبي!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

عبد الله كرمون من باريس: أول إطلاعي على فرنسيسكو دي كيفيدو (1580_1645) كان من خلال أشعاره الهزلية، خاصة منها تلك التي تغنى فيها بالخصائص التي تجعل، في عرفه، من عضوٍ وصمته الإنسانيةُ طويلا بالسفالة، عضوا نبيلا يستحق منه رد الاعتبار إليه. كان ذلك في كتابه عن الإست، والذي لم ينشر إلا بعد وفاته. وقد أبان فيه، وفي أشعار أخرى، عن إيروسية باروكية سابقة لأوانها.
إذا عدت اليوم إلى كيفيدو فلأن دار غاليمار قد نشرت في بداية هذا الشهر، ضمن سلسلتها الجميلة "شعر"، ما يزيد عن مئة سوناتة له، ترجمها الشاعر جاك أنسيه وقدم لها، واضعا حواشيها. ومن حسنات هذه الطبعة أنها تتضمن النص الإسباني أيضا ؛ ما يجعل بذلك متعة القراءة مضاعفة. وتوفر، في كل مرة، إمكانية قراءة نص كيفيدو مباشرة متى لم تف ترجمته بالمراد.
ليس من السهل معرفة كيف، ومن أين نبدأ الحديث عن كاتب مثل كيفيدو. ذلك أن متاهات حياته، وتنوع مشاغله هي ما يجعلنا أمام رجل فريد، بل أمام أدب هائل ومتشعب على حد قول بورخيس عنه. كما أن كل هذه القرون التي تفصلنا عن زمنه لا تقلل شيئا من قيمة الحداثة التي بشر بها يوما، في خط فاصل ما بين عهد منقض وعصر جديد.
لابد من الإشارة أولا إلى كون كيفيدو قد ترعرع في أكناف قصر الملك فيليب الثاني وقتئذ، وذلك بحكم وظيفة والديه الأرستقراطيين. وبالرغم من يُتمه المبكر فقد تمكن، برعاية أمه، من مواصلة دراسته في جامعة مدريد، وهي أهم جامعة اسبانية حينئذ، وتخرج منها وهو ما يزال في مقتبل العمر، محصلا جل علوم عصره، إضافة إلى كونه قد درس العربية والعبرية أيضا. ظل كيفيدو منجذبا إلى القصر وإلى السياسة، ما سيفسد عليه فيما بعد حياته كلها. متأرجحا بين حلم الوجاهة الذي كان يصبو إليه، وما بين وجوده الواقعي الذي كان يعانده أيما عناد. فقد فر هاربا من إسبانيا بعد أن أودى بخصمه قتيلا في إحدى المبارزات. وما أن آب إليها ثانية سنة 1613 حتى اتصل بالدوق أوسينا، الذي أصبح فيما بعد حاكما لصقلية، وقربه منه كثيرا، وصار سكرتيره وصديقه الحميم الذي ظل وفيا له، بالرغم مما عناه بعدما تعرض هذا الأخير للخذلان. فقد ماست حياته كما هو بيّن ما بين الرفعة والهوان. ألم يشارك في المحاولة الخطرة التي استهدفت نزع مدينة نيس من دوق منطقة السافوا حسب ما جاء في كتاب بول باليير حول شعراء الملاحم في إيطاليا وإسبانيا، نشر سنة1911 في باريس (واعتمد بدوره على كتاب ميريميه المنشور في سنة 1886) ولم يشر إليهما جاك أنسيه في المقدمة نهائيا.
ألم يتقرب مرة أخرى من الحكم الجديد بعد وفاة فيليب الثالث، حتى بلغ به طموحه _ما يذكرنا نوعا بالمتنبي_ أن يهدي إلى القصر كتابه المعنون ب"سياسة الله"، آملا أن يؤخذ على أنه نقد لسياسات الحكم السابق مؤكدا بذلك على أمله في ازدهار أولي الأمر الجدد واختلافهم عن سابقيهم.
على كل حال، فقد عانى كيفيدو من السياسة وأهلها، أكثر مما جناه منها ومن صحبتهم. وخير دليل على ذلك، ما وقع في ليلة من ليالي سنة 1639 عندما اقتحم عليه نفرٌ بيته في عز الليل، وتم سحبه من فراشه شبه عار، كي يتم اقتياده بعد ذلك إلى زنزانة ضيقة وشديدة الرطوبة في قبو الدير الملكي سان مارك، ليقضي هنالك أربعة أعوام دون أن يدرك ولو حتى ماذا جناه؟ (ألا يذكّر هذا بإحدى روايات كافكا؟)
إن الرسائل التي كتبها من محبسه الفظيع ذاك لشديدة التعبير عن حقيقة ما عناه فيه، وبأسلوب هادئ ورصين، لا يشي في ظاهره بشدة الألم الذي كان ألمه فيه. لم يطلق سراحه إلا بعدما طالب بشدةٍ بإنصافه، حيث اشتد به المرض والسغب، وعلل السجن كلها. وتبين حينها أنه ظُلم، ولم يكن هو صاحب المنشور الهجائي الذي ظُن أنه هو من كان كاتبه، وسجن بمقتضى جنايته، بعدما ألقي القبض حينها على من كان حقيقة خلف ذلك التشهير.
كانت هذه التجربة القاسية التي خبر ألمها الذي ألحقه به رجالات القصر قاصمة لعنفوانه، وانزوى في بيته، منهكا، شبه معدم وأعمى. ولم تمض إلا سنوات قليلة حتى استسلم لسطوة الردى، الذي يُسكن ضحاياه في بهمة الأجداث. ألم يكتب مخاطبا الموت ما يلي:
"أحبك أيتها المحسنة إلي، وأتريث
دون أن أرتجف، ريثما يحين
أجلي وأطرق الخلود!"
صحيح أن كيفيدو لم ينشر شعره في حياته كما ذكر جاك أنسيه ذلك في مقدمته. وإن كانت هناك إشارة تؤكد بأنه قد نوى كم من مرة ذلك، وبأنه عكف على إعادة كتابة قصائده، ثم مراجعتها وتصحيحها في أفق إعداد طبعها. ما لم يحدث قط إلا بعد وفاته، وذلك بإيعاز من أحد الجهابذة هو غونزاليس دي سالاس.
غير ذلك، نسي جاك أنسيه أن كيفيدو قد سبق له أن نشر عددا من قصائده باسم مستعار خاصة لدى انزوائه في لاتوريه دي خوان أباد. ثم أن زمرة من نصوصه كانت تقرأ وتنسخ، في سرية، طيلة مدة بأكملها. فإذا كان الرجل قد سعى ما بوسعه أن ينفلت من قبضة محاكم التفتيش حينها، مثل غيره، بأن كتب في اللاهوت، وأبان قدر الإمكان عن أرثوذكسية محضة، فإنه كان، مثلما أشار إلى ذلك جاك أنسيه نفسه، أقل أهل عصره تدينا. وجرّ عليه ذلك كما رأينا سابقا كثيرا من المتاعب.
تتراوح المختارات التي نشرها جاك أنسيه اليوم ما بين النصوص الدينية وقصائد الحب والبعض من قصائده الهزلية. ولم يغفل التطرق إلى الترجمة وما تطرحه من إشكالات. إن موقفه ورؤيته للأمر جديران بالاهتمام. فإذا ما كانا مقنعين، فإنهما يثيران كثيرا من التساؤلات. ذلك أن جاك أنسيه قد أخذ على عاتقه التعامل مع الكتابة الصعبة لكيفيدو، سواء فيما يخص تعلقه بالتلاعب اللفظي الذي يشكل على الدوام حجر عثرة كل ترجمة، من أية لغة كانت، أو الأوزان الخاصة المتعلقة بفن السوناتة. لذلك ارتأى المترجم الرضوخ إلى المشقات التي تطرحها نصوص كيفيدو بأن قرر البحث عن مواز حرفي تقريبا للتراكيب الشعرية والإيقاعية التي يستعملها. ما لم يمنع، في حالات كثيرة، من إفساد سلاسة وجمال النص متى نظرنا مليا إلى الأصل.
وإذا كانت قصائد الحب هي أكثر شعره حضورا في ما اختاره جاك أنسيه في هذه المجموعة، فإن قصائد توجسه للموت ليست فيها أقل ورودا. فإذا كانت القصائد التي تغنى فيها بالمسماة ليزي والتي لم يستطع أحد من دارسي شعره التعرف على هويتها، وعلى حقيقة وجودها بالفعل أكثر من غيرها من النصوص الأخرى، فإن شغفه بالحب هو أكبر حقيقة مما تواتر عن كيفيدو من كونه كان كارها وعدوا شرسا للمرأة. وربما أن قوله "أن المرأة نوع من الجحيم الذي نحمله معنا" هو ما ألصق به أكثر تهمة كرهه للمرأة من غيره. وقد يصح ذلك لولا أنه كتب يوما أن كل ما يتطلع إليه بلا مباهاة هو أن يحب!
أورد جاك أنسيه في المقدمة نقلا عن بلانكو أن أهم ما عرفه الأدب الإسباني من أدب جميل، باسم رموزه الكبرى، هو بحق حصيلة معارضات هزلية، توليفات، محاكاة وسرقات أدبية وغيرها.
لهذا إذن لم يسلم كيفيدو نفسه من اعتباره يستقي بعض معانيه وصوره الشعرية من الذين سبقوه، أمثال، سينيك، جيفينال، بترارك، أوفيد وغيرهم. بغض النظر عن هذا الأمر، ودون اتخاذه عيبا، فإن الثقافة الواسعة التي كان الرجل يمتلك ناصيتها، جعلت من شعره حديقة يصعب على كل من هب ودب أن يقطف، دون مشقة، ثمارها. لذلك، كان من الضروري وضع حواشي له، إذ كان من الصعب على غير المتمرس بشعر الفترة أن يلم بشكل كامل، وبفهم تام، بمعاني كيفيدو وبإحالاته الكثيرة التي تقتضي الشروح والهوامش على كل حال.
يتفق كثير من دارسي شعر كيفيدو، مثل الألماني فريدريش بوترويك (1812) الذي اطلعت على ما كتبه في تاريخه الأدبي، على أن شاعرنا لم ينجز حقيقة ما كان بمقدور عبقريته إتيانه. ذلك أن هؤلاء يعتبرون بمعنى ما أن كتاباته الساخرة غير جدية، ولم يكن بوسعهم منحها ما تستحقه من اهتمام. وكثيرا ما نجد هنا وهناك مقارنات ما بينه وبين سرفانثيس الذي عايش أيامه الأخيرة، والتي تنتهي في الغالب بأن كيفيدو ليس في مستوى الأول.
بالرغم من أن فرنسيسكو دي كيفيدو قد ولد بتشوه في رجليه، وبضعف في البصر، أوهنته قراءاته الكثيرة فيما بعد تماما، فإنه كان من أكبر الكتاب الذين أنجبتهم أرض إسبانيا إقداما ونفاذ بصيرة. ولا تكفي هذه الإطلالة السريعة أبدا لإيفاء منجزه الثر حق القراءة. ألم يكن هو من كتب:
يتعايش، بسلام، الماء والنار بداخلي ؛
هما حليفان ؛ فإذا ما امتحنني كلاهما،
وإذا ما قتلاني، فهما لا يقتتلان"؟
kermounfr@yahoo.fr

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف