ثقافات

الشاعر الإنجليزي جون دون: لماذا لم يعد الناس يموتون حُبّا؟

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

عبد الله كرمون من باريس: أبت دار أليّا الباريسية، هي أيضا، إلا أن تنفخ، قبل أيام قليلة، في جمر الفترة الفاصلة ما بين القرون الوسطى ومشارف النهضة، واللهب الذي استفزته منها جاء على شكل كتيب لطيف ضم بعض مفارقات ومسائل الشاعر الإنجليزي جون دوون (لندن 1572_1631)، وتنبئ عنه بمرح صورة الغلاف "قراءة كتابين" لصاحبها وليام ويغمان. مع أنها، إنما تعيد نشره، بَيْدَ أن طبعتها الأولى له تعود إلى حوالي عقدين من الزمن.
لعل هذه الأوبة إلى أواخر القرن السادس عشر وبداية القرن السابع عشر الأوروبيين، باتت ضرورية بالنسبة إلينا. فما أحوجنا إلى التطلع، من خلالها، مرة أخرى إلى خصوصية تلك الفترة على المستويات السياسية، الصوفية، الدينية، العلمية والشعرية. وربما سنكتشف هكذا، وبأسى بالغ، على أن تقهقرنا ملموس، وإن على المستوى الشعري.
قررت أن أقف عند حدود الكتاب السالف الذكر، دون أن أتعرض إلا بشكل عرضي لحياة وشعر جون دوون، وكل ما أُثير حولهما من سجال. لا لضحالتهما ولكن، بالعكس من ذلك، بسبب غناهما وتعقدهما الهائلين. خاصة وأن دوون كان أيضا من أكبر وأفصح خطباء عصره، وخطبه مشهورة في هذا السياق. وليس من باب الصدفة العابرة أن يتقارب جون دوون ودي كيفيدو الإسباني، في كثير من أمور حياتيهما وثقافتيهما، مثل دورانهما حول أفلاك الملوك، وميولهما الدينية بعد حياة انقضى معظمها في الفجور، ثم فرادة شعرهما، في الحب كان أو في الهزل وفي الصلوات والموت، إضافة إلى التهمة نفسها (المرجحة أحيانا وفي التباس) والتي ظلت تُلصق بالرجلين كليهما معا: بُغض المرأة!
وكما اقترن كيفيدو بنساء كثيرات، وبغض النظر عن علاقته بالممثلة المعروفة، فقد تزوج بعد تجاوزه سن الخمسين بامرأة فارقها بعد سنتين من زواجهما (أو أنها ماتت على الأرجح). كان ذلك أيضا حال دوون الذي عاث في مقتبل حياته مجونا، ثم أنه ارتبط بنساء كثيرات، حتى تزوج سنة 1601 بآن مور، التي أنجبت لهما اثنتي عشر طفلا، غير أن ولادتها لآخرهم كانت بمثابة نهاية محتمة لها: فبينما كانت تمنح الحياة، تجرعت هي بدورها سكرة نقيضها. وقد كتب يوما مخاطبا الرب بأنه لم يهتد إليه إلا بسبب الوجد الذي يضمره لتلك التي فقدها. صحيح أنه قد تأثر تأثرا بالغا بفاجعة وفاة زوجته الحبيبة، التي تحملت معه حياتهما الصعبة دونما أي تأفف.
ألم يكن هو نفسه من كتب، قبل هيمنغواي، الذي رُجّح أنه قد أخذ منه هذه العبارة التالية واتخذها عنونا لروايته المعروفة حول الحرب الأهلية الإسبانية، "لا تسأل أبدا لمن تدق الأجراس، لأنها لك تدق"!
اقترن اسم جون دوون بتيار الشعراء الميتافيزيقيين، بل هو الذي كان على رأسه. وكان صموئيل جونسون هو أول من أطلق عليه تلك التسمية منذ سنة 1744، وضم معه أتباعا مثل جورج هربرت الذي كان صديقا له، وكانت لدوون علاقة ملتبسة بأم هذا الأخير، ويحضر ذكرها في بعض قصائده، وكذا هنري فوغان وغيرهما. في حين يتحدث بعض النقاد عن دوون باعتباره مؤسسا لما سموه بالمدرسة الميتافيزيقية.
لم ينشر دوون مواد هذا الكتاب في حياته أبدا. إذ أنها لم تظهر بذلك إلا في سنة 1633 أي بعيد وفاته. فقد كان بنفسه وبحق ضد نشرها: "جراء الخوف من الحرج والحرج من الخوف" مثلما دل عليه. يبدو، مع ذلك، بالرغم من الطبعات التي تتالت مذ ذاك، بأن طبعة هايلين بيترز في بداية الثمانينيات هي أتمها على الإطلاق.
يحتوي الكتاب على قسمين:
أzwnj;-يتناول الأول المفارقات، وهي نصوص يميل فيها الشاعر إلى امتداح أمور منفرة، أو يتبنى فيها أراء مخالفة لما يعتقد به عامة الناس، وذلك في سلسلة من البراهين المنطقية القوية، والمغلفة في أحايين كثيرة بسخرية واضحة.
بzwnj;-بينما يفرد في الثاني حيزا، يتعرض فيه لبعض المسائل في قضايا مختلفة. وذلك بأن يطرح سؤالا معينا، ويوفيه حق الجواب أسفله، أو يقترح له عدة إجابات محتملة.

ليست هذه الأشكال التعبيرية من ابتكار جون دوون أبدا، لأنها كانت رائجة في تلك الفترة، وحتى فيما قبلها، وإذا ما عدنا إلى مقدمة مديح الجنون لإيرازم سوف نجد فيها جردا بأهم المفارقات الهزلية التي أنتجها الأدبان اللاتيني والروماني، كما أن كتاب إيرازم نفسه يدخل ضمن هذا التصنيف. غير أن لإضافة دوون الإبداعية هنا ما يميزها بالتأكيد.
وأكاد، من عمقها وانسيابية لغتها، أعتبرها قصائد نثرية جميلة. بل إنها كذلك. وقد أبان فيها جون دوون عن "فوضوية" فكرية مبكرة. وإذا كانت "الفوضوية نظاما خارج أية سلطة"، فإن دوون أراد أن يؤسس لكتاباته نظاما خاصا بها خارج كل سلطة إجرائية، متأتية من تعاليم لا يمكن لها أن تلجم الطاقة الإبداعية الهائلة للرجل.
إن التناقض الذي هو أساس تلك المفارقات ينبني على ترجيح إمكان صحة ما كان يؤخذ على كونه مشوب بالخطَل. كما أن اعتماد تلك الطريقة يشي بإرادة بينة في إعادة النظر، ولو بشكل عشوائي، في سجل الحقائق المطلقة والراسخة، مهما كانت مصادرها.
فأن يرجح سمو الجسد على الروح هو إقدام بلا نظير. خاصة وأنه كان أبا في إحدى الكنائس (صحيح أنه قد انسل من الكاثوليكية واعتنق الأنكليكانية منذ تسعينيات القرن السادس عشر). لكن يبدو أن أمر الروح هو رأسمال الأديان الذي لا يجب أن يمس في الحقيقة.
كتب أن "الجسد هو الذي يجبل الروح، أي أنه يخلق منها روحا سامية أو روحا سافلة." ويوحي بذلك إذن، في برهنته، على أن الكمال كله يعود إلى الجسد، وذلك في قدرته على توفير الملذات كلها للروح. ويكمن عيب الروح في كونها لا تستطيع أن توصل عطاياها للأعضاء المعتلة، كما لا تستطيع أن توري للأعضاء السليمة جمال الملائكة أو موسيقى الأعالي التي تدعي أنها تتأمل الأولى وتصيخ السمع إلى الثانية!
يواصل دوون القول على أن للجسد فضائله على الروح، مؤكدا أن "الصحة هي عطية من الجسد، في حين أن الصبر لدى المرض هو من النفس (الروح). فمن ذا الذي يقدر على الجزم بأن هذا الصبر لدى البلاء سعادة تعادل الصحة، إذا كان لزاما علينا أن نكون حزانى جدا كي نحصل على تلك السعادة؟"
يبدو، على أي حال، إلى أي حد سعى دوون إلى قلب المواضعات المعرفية التي وثقت بعض المعارف والقيم. وصار جليا أيضا، كيف أن المفارق في أرائه تلك ينتج أحيانا عن مقارعته لبعض تلك الحجج الثابتة مع بعض الأفكار التي تسري في سرية بين أفراد مجتمع معين حول شأن من شؤونه. فإذا ما عدنا إلى موضوعة النساء فإننا نكتشف أنها لتوشك أن تكون مركزية في نتاج جون دوون. عندما كان يتحدث عن المفارقة التي تجعل الخير أكثر اقتساما من الشر، سرعان ما وجد نفسه وجها لوجه حيال شبح المرأة، كما وجد في تربتها مثالا صاغه على الشكل التالي: "لم يتبادر إلى ذهني شيء يصير سيئا بحكم اقتسامنا له ما عدا النساء، حتى أنه هنا أيضا، فاللائي يُقتسَمن يَكُنّ من أفضلهن في المهنة التي يزاولنها".
أما المسألة التي طرحها بشأنهن فمفادها: "لماذا ينسب الرأيُ الشائعُ إلى المرأة روحا؟ أشار دوون إلى أن هناك من يدعوهن ملائكة، بل آلهة، إلى درجة أن يتم الزعم بامتلاكهن لروح!
وصاغ دوون احتجاجه المثير للاستغراب في هذه اللهجة المرة: "لننسب الروح إلى أي كان، ولنقتنع بأنه إذا ما كانت تملكها امرأة فهذا يعني أن الروح ليست ذات شأن"!
إن نسبة الروح إليهن في نظره ليست سوى من أجل غرض واحد، وهو أن يحق عليهن عذاب الجحيم!
يمضي جون دوون إذن في تحامله أبعد، وقد وقع في تناقض لم يلبث أن ألفى له حلا، في ما إذا انتفت الفضائل لدى النساء، وكتب: "لست وقحا كي أدافع عن النساء، وأقر بأنهن لسن سيئات، لكن، إذا ما نحن رأينا الأطباء يقولون بوجود فضائل معينة لبعض السموم، فكيف لنا، مع الأسف، أن نستثني منها النساء؟"
اقتصرت على مثالي الروح والمرأة للتمثيل على المحتوى الحجاجي والمستفز لهذا النوع من الكتابة لدى جون دوون، في حين أن الكتاب غني بهذا النوع من الجمال. وليس بمقدوري كشفه كاملا هنا. وأعتقد أنكم سوف تحسون بهسيس ذلك الإغراء الجامح الذي يشكله بالنسبة إلي متابعتها إلى ما نهاية.
إن المضامين التي أتينا عليها أعلاه، والتي تشي بنوع من القرف تجاه النساء، لا بد أن تؤخذ في سياق أدبي محدد، وإلا فقدت قيمتها، وصارت مجرد شتائم مهووس، يستعيدها مهووس آخر بعد قرون عديدة على إنتاجها.
إن البعد الإغريقي للسخرية حاضر فيها بشدة، لذلك سيكون من الأجدر، التمعن فيها عميقا وبعيدا عن كل سطحية، باعتبار الضحك، بمعنى ما، أداة للمعرفة. ولسوف نقترب من هذه المعاني متى أنصتنا إليه يقول ثانية: "الذي يضحك يدرك بأنه إنسان، لأنه يحسن الضحك، وبأنه حكيم لأنه يدرك على ماذا يضحك، وبأنه شجاع لأنه يجرؤ على الضحك ؛ لأن الذي يضحك أكثر حكمة من الذي نضحك عليه".
يلزم التذكير، كي لا يبدو الكتاب مجرد ركام سوداوي من التأملات المضحكة أحيانا، بأنه يوفر كذلك غنى فريدا، ما بين التساؤل حول "لماذا لا يوسخ الذهبُ الأصابعَ؟"، "لماذا تحب النساء الريش؟"، "لماذا يتمتع اللقطاء بالرغد؟"، و"لماذا تكون الأشياء الزائفة هي دائما الأشياء المتألقة؟"
أما، "لماذا لم يعد الناس يموتون حبا؟"، فقد يكون مستملحا ذكر بعض ما علل به جون دوون ذلك. فقد رأى بأنه صار الفوز اليوم (القرن السادس عشر) بامرأة سهلا جدا، أو لأن زمننا يوفر للناس وسائل جديدة، وبكميات كبيرة، كي يدمروا أنفسهم، وكذا بعضهم البعض مثل الأمراض، الزواج المبكر والخلافات الدينية"!
إنها طريقة أخرى في فهم الأدب والأشياء، ولئن كان جون دوون من أبناء القرن السابع عشر فإنه لَأَقرب إلينا من كثير من معاصرينا.
ولربما كان يتحدث عن نفسه يوما لما كتب، في مكان آخر، بأن البحر يظل دائما عميقا في حالي سكونه ولدى هبوب العواصف!
kermounfr@yahoo.fr

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف