"مطر على بغداد"... سبع سنوات من تاريخ العراق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
ترسم الروائية هالة البدري، الخطوط العريضة لروايتها، على لسان بطلتها، الصحفية المصرية "نورا سليمان"..."أحمل حقيبتي في طريقي إلى بغداد (...) آملة أن أعرف سر اختفاء "أنهار خيون" صديقتي العراقية، وزميلتي في مكتب مجلة الزهرة المصرية في بغداد، وأن أزور بيتي في حي الدورة الذي أصابته الطائرات الإيرانية، وأطمئن على جيراني، وألتقي "بسيوني عبد المعين" الذي التحق بالجيش العراقي، وأعطيه خطاباً من أهله يحثه على العودة، وأن أزور مكتب مجلة الزهرة لكي أكمل تصفية أعماله، والبحث عن مقالات "حلمي أمين" كل هذا في إطار قبولي دعوة للاشتراك ببحث في مؤتمر عن ثقافة النساء بعد محو أميتهن." خطوط أولية مهمة تكشف محاور الرواية الرئيسة، ولكنها تضعنا ومنذ البداية أمام قلق حكاية متشعبة المسالك... فالهم الأول لبطلة الرواية، والكامن في اكتشاف سر اختفاء زميلتها، الصحفية الشيوعية "أنهار خيون" ابنة أهوار العمارة، التي اختفت مع بداية ضرب السلطة للحزب الشيوعي العراقي، سرعان ما ينتقل إلى ظروف وتبعات تهجير العراقيين إلى إيران بحجة التبعية، ثم الانتقال إلى تداعيات اندلاع الحرب الإيرانية العراقية، وغيرها الكثير من الأحداث التي راحت "نورا" تستعرضها بطريقة الـ "الفلاش باك" وهي في طريقها إلى بغداد لحضور المؤتمر... الذكريات امتدت لتغطي سنوات مضت، كانت البطلة قد عاشتها في العراق كمراسلة لمجلة الزهرة، ومتزوجة من مهندس مصري يعمل في أحد المصانع العراقية. إلا أن الصور المتأرجحة بين حاضرها وذكرياتها ظهرت بصورة ينقصها التنظيم ورشاقة الانتقال من حدث لآخر أو من فترة زمنية لأخرى، حيث يتداخل السرد بين الماضي والحاضر دون تمهيد، مما يربك القارئ...
هكذا، تتابع الرواية معتمدة ذاكرة بطلتها. يوميات الصحفية "نورا"... يوميات حاضنتها بغداد، حيث مكتب مجلة الزهرة الذي لا يضم من الموظفين سوى مديره المصري "حلمي أمين" ونورا، ثم العراقية أنهار خيون التي كانت تعمل "بالقطعة" لصالح المكتب، لتقع بعد ذلك بقصة حب منقوصة مع حلمي أمين، "اختفت أنهار، كما اختفت تماماً الشيوعيات من المؤتمرات العراقية، واعترضت الرقابة على ذكرهن في كتابي عن المرأة العراقية، وشطبت على أسماء الرائدات، حتى الممثلات، وعازفات البيانو أصبحن فجأة من الأعداء!!."
المكتب الصحفي "محور الرواية" انطلقت منه الصحفية ورئيسها إلى أغلب مناطق العراق وأكثرها سخونة، وصار المفتاح الرئيس لدخول البطلة الصحفية مسرح أحداث العراق وتطوراتها، بالإضافة إلى أن طبيعة عملها جعلها على تماس مع شخصيات سياسية وثقافية عراقية ومصرية مهمة كانت تعمل في العراق، وهذا ما حاولت الروائية من خلاله رسم صورة للمصري المثقف في العراق، لتبدد الصورة النمطية المتعارف عليها في العراق، الكامنة في بساطة ومحدودية تفكير غالبية العمالة المصرية آنذاك. حتى بات من السهل على القارئ أن يتلمس في نورا سليمان، شخصية مستعارة لتحل محل كاتبة الرواية هالة البدري - المراسلة الصحفية التي عملت في بغداد خمس سنوات لصالح مجلة روز اليوسف - حيث منحت البدري تجربتها وذكرياتها وخبرتها عن بغداد لبطلة الرواية، كي تحكي لنا حكايتها، طمعاً بفسحة من الحرية تمنحها البدري لنفسها وهي تكتب ذكرياتها، بدلاً من قيود الكتابة المباشرة عن نفسها وباسمها الصريح.
المحاور العديدة والهامة التي تطرقت لها الرواية، يمنحها أهمية أرشيفية خاصة لفترة زمنية مهمة. ويمكن اعتبارها أيضاً، وثيقة صحفية تعرض لنا سيناريو صعود صدام حسين إلى سدة الحكم... "لا شيء يقف أما قوة صدام حسين التي كانت واضحة وهو نائب لرئيس الجمهورية. فماذا سيحدث الآن وهو رئيس؟!." حيث لم تدخر الراوية جهداً في ذكر كل تفاصيل السيناريو منذ اشتراك صدام في محاول اغتيال عبد الكريم قاسم وهروبه إلى سوريا ومصر حتى صار نائباً ليوقع معاهدة عام 75، ثم رئيساً مسيطراً على سدة الحكم بعد مذبحة القيادة القطرية الشهيرة وصولاً إلى الحرب على إيران، حتى أنها لم تنسَ ذكر الأهزوجة التي كان رجال البعث يطلقوها بحضور صدام في المؤتمرات "هلهولة للبعث الصاعد... هلهولة للبعث الصامد" وكأن صدام هو البعث نفسه.
رغم وضوح واقعية الرواية المغرقة بالتفاصيل، وازدحامها بالعديد من الشخصيات المعروفة في مجال الثقافة والفن والسياسة، بالإضافة إلى أسلوبها السردي الذي جاء على الغالب بطريقة صياغة الخبر الصحفي، إلا أننا نقرأ على صفحتها الأولى عبارة: "هذه الرواية ليست نصاً واقعياً، وأبطالها من صنع الخيال وحده."، ربما هو تخوف الكاتبة التي اشتغلت في الصحافة فترة طويلة من أن "يتهمها" النقاد بالواقعية، رغم أنها ليست بتهمة.
هالة البدري التي ظهرت معنية بسرد المعلومات السياسية والاجتماعية العراقية التي تختزنها ذاكرتها بطريقة تحليلية، أكثر من تمسكها بالحبكة الروائية، كانت قد بدأت روايتها بالبحث عن أنهار خيون، ولكنها أنهتها دون أن تخبرنا بمكانها أو مصيرها، وعلاوة على هذا نجدها وقد صنعت لغزاً مضافاً لروايتها، حين عرفنا باختفاء رئيسها السابق في مكتب مجلة الزهرة "حلمي أمين" الذي ترك للراوية مذكراته، التي لا ندري لماذا اختارت البطلة قراءة صفحات منها تتعلق بالممارسة المنقوصة للجنس مع أنهار خيون بدلاً أن تدخل إلى أعماقه الشخصية، خصوصاً لو عرفنا أنه شيوعي مصري ومطارد من قبل حكومة السادات...