فيكتوريا غيرين: كلود ليفي شترواس رجل "البـِنْيَات"
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
ترجمة: محمد الصالح الغريسي
هذا الفيلسوف، بدافع حب الاطّلاع على كلّ شيء - وهو الّذي كان يريد أن يكون قائد تخت - صار عالما إثنيّا، يبحث عن المبادئ الّتي تنظّم المجتمعات ونظم التّفكير.
في شتاء سنة تسع وثلاثين و تسعمائة و ألف (1939)، و قد انطلقت الحرب العالميّة الثّانية، وجد ليفي شتراوس نفسه مجنّدا خلف خطّ القتال في منطقة " ماجينو "، يعاني من ضجر شديد. ماذا عساه يفعل في انتظار قدوم الألمان المتوقّع؟ هل يتنزّه في الرّيف بين الحقول، يعيد النّظر دونما كلل في السّنوات الأربع الّتي قضّاها في دراسة هنود " بورورو" و " نامبيكوارا" في البريزيل.. و يتأمّل النّباتات: أيّ القوانين يمكن أن تتحكّم في مثل هذا النّظام المعقّد كذلك الموجود في نبتة 'الهندباء البريّة' الّتي يشاهدها باهتمام؟
عالم إيثنولوجي دون سابق إضمار
بعد سنوات، تعرّف الأكاديميّ إذّاك -كنقطة انطلاق - على الحدس الّذي سيبني عليه مستقبله المهنيّ: أهمّية البنية. و قدعرّف نفسه في ما بعد، بعالم إيثنولوجي دون سابق إضمار. ومنذ ميلاده في "بروكسال " في الثّامن و العشرين(28) من شهر نوفمبر سنة ثمان و تسعمائة و ألف (1908)، إلى تاريخ سفره إلى "البريزيل" سنة خمس و ثلاثين و تسعمائة وألف (1935)، كان كلود الشّاب يهتمّ بكلّ شيء.
نشأ في باريس عصاميّا مولعا بالاطّلاع، في ورشات أبيه و أعمامه الّذين كانوا يشتغلون برسم الوجوه، ثمّ كسد شغلهم بظهور التّصوير الفوتوغرافيّ، ليجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل، فاتّجهوا إلى أعمال أخرىصغيرة و متنوّعة، وكان يتابعهم وهم يشتغلون.
تألّق في دراسته. وبعد أن استهواه المذهب الماركسي و تعلّق به، انخرط في " القسم الفرنسي الدولي للعمال"sfio . وبعد أن تحصّل كلود على الإجازة قي الحقوق أصبح يريد أن يفعل كلّ شيء؛فانتهى به الأمر إلى اختيار الفلسفة حتّى تحصّل على ىشهادة التّبريز. و قد اعترفت " سيمون دي بوفوار " الّتي كانت تقضي فترة تربّصها بالتّزامن معه، أنّها كانت تشعر بالحرج من طبعه البارد: " كان يتقنه باقتدار، وكان يبدو لي مضحكا، عندما قدّم أمام الحضور "جنون العاطفة "، بصوت غير معبّر، ووجه باهت."
هذا القناع سيصبح في ما بعد علامته المميّزة. و لكنّه و قد اشتغل في البداية أستاذا للفلسفة في " مونت دي مارسان" mont-de-marsan، ثمّ في "لاوون" laon، كان يبحث عن ذاته. كانت تسكنه رغبة في السّفرو قراءة قصص الإثنيّات ليقضي على الضجر الّذي كان يتسرّب إلى نفسه من حياة المدينة. كان له كتاب "المجتمع البدائي " لروبير. هاينريخ. لووي robert. heinrch. lowie(1920)، بمثابة الملهم: لقد كانت في النّهاية تجربة ميدانيّة مع العامّة، وليست مجرّدنظريات كبيرة. لكنّ هذه المادّة لم تكن معروفة بعد في فرنسا.
كان قريبا من " لوسيان ليفي - بروهل "Lucien Levy-bruhl الّذي كان وقتها، على رأس المعهد الإيثني، الّذي تأسّس سنة خمس وعشرين وتسعمائة وألف (1925). وكما ذكر في كتابه Tristes tropiques سنة خمس و خمسين و تسعمائة و ألف (1955):" إن مصيري المهنيّ تقرّر ذات يوم أحد، من خريف سنة أربع و ثلاثين و تسعمائة وألف (1934). على السّاعة التّاسعة صباحا على إثر مكالمة هاتفيّ".
كان المعهد يبحث، عن جامعيّين للتدريس في البريزيل: وهكذا أصبح ليفي شترواس أستاذا في علم الاجتماع في جامعة " ساو باولو " Sao paulo، فاستغلّ الفرصة لاكتشاف " ماتو غروسّو " Mato grosso و منطقة الأمازون. و قد ساعده اختلاطه بالشّعوب الهنديّة، ليكون له بمثابة قاعدة أفكار لأطروحاته حول القرابة. و قد استطاع بفضل آلة تصوير من نوع "لايكا" و كاميرا ثمانية ملّ متر، أن يسجّل كلّ ما يدور حوله بنظرة جماليّة. و لمّا عاد إلى فرنسا في شهر أوت من سنة تسع و ثلاثين وتسعمائة و ألف (1939) كانت الحرب و كانت الهزيمة، و هو اليهوديّ المهدّد في حياته آنذاك.
الاعتراف
سنة واحد و أربعين و تسعمائة و ألف (1941) نجح في السّفر إلى نيويورك حيث التقى أندريه بروتون "Andreacute; Breton " و رفاقه السّورياليّين لا سيما الألسنيّ "رومان جاكوبسن" Roman Jacobson الّذي استمدّ منه كلّ عناصر المادّة النّظريّة الّتي كان يحتاجها فيعمله حول نظم القرابة. وعند عودته إلى فرنسا سنة تسع و أربعين و تسعمائة و ألف (1949)نشر كتابه " البنيات الأولى للقرابة " الّتي طبّق فيها الطّريقة البنويّة، في نظم التّحالفات في المجتمعات الّتي درسها في البريزيل. لكنّه كعالم إثنولوجي كان في حاجة إلى الاعتراف به أكاديميّا. ذلك ما كان يتوقّّف عليه، ليصبح ليفي شتراوس رجل مؤسّسات.
و في سنة ثمان و أربعين و تسعمائة و ألف(1949) عيّن مديرا مساعدا في "متحف الإنسان" ثمّ مديرا للدّراسات في المدرسة التّطبيقيّة للدّراسات العليا. و بعد مضيّ عشر سنوات، انتخب أستاذا كرسي في الأنتروبولوجيا الاجتماعيّة بــ" كولاج دي فرانس""collegrave;ge de France "، و سرعان ما أنشأ لنفسه مخبرا خاصّا به، ثمّ مركزا مرجعيّا للبحوث اّلإثنوغرافيّة. و هكذا تسابقت إليه الجموع للاستماع لدروسه ومتابعة حلقاته الدّراسيّة. وقد أعجب بعمله كلّ من "بورديو " Bourdieu ( المرجع :ص 64 من نفس العدد)، و "ألثوسير " Althusser " (المرجع :ص 90. من نفس العدد ) و " ديلوز" Deleuse " "( المرجع : ص 54 من نفس العدد). "لقد ترك انطباعا جيّدا لدى الجميع، بصوته المعدنيّ، وبذكائه الخارق حسب ما تتذكّر" فرانسواز هيريتيه" " Franccedil;oise Heritir " الّتي خلفته في" الكوليج دي فرانس". كان بمجرّد حضوره يملك قلوب الآخرين بقوّة جاذبيّته الّتي لا تـُعرف إلاّ لدى المعلّمين الكبار ". كان كلّ درسيقدّمه، هو عبارة عن منطلق لكتاب قادم.
و بفضل أسلوبه الرّوائيّ في كتابه " مدارات حزينة " سنة خمس وخمسين و تسعمائة و ألف (1955)، تمكّن جمهوره العريض من التّعرّف على نظريّاته. غير أنّ ليفي شتراوس الّذي كان يفضّل مكتبه و كتبه على الحوارات و المناقشات، كان يشعر بأنّه ضحيّة نجاحه. لكنّ رؤيته في الأجزاء الأربع للميثولوجيا - المنشورة ما بين السنوات أربع و ستّين و تسعمائة و ألف (1964)، و واحد و سبعين و تسعمائة وألف(1971) - منحته الفرصة ليبتعد بعض الشّيء.
طقوس أكاديميّة
بسبب تراكم المهامّ، من سنة خمسين وتسعمائة و ألف (1950) إلى سنة سبعين و تسعمائة و ألف (1970)، عاش حياة أخرى، تحت وطأة الطّقوس و العادات و الحكايات التّقليديّة، يبحث عن المبادئ" البنيويّة" الّتي كانت تنظّم هذه الطّقوس و العادات و الحكايات التّقليديّة، و تتحكّم فيها. لقد أصبح هو ذاته أسطورة، تماما كالأساطير الّتي كان يخرجها.
انتخب في شهر ماي من سنة ثلاث و سبعين وتسعمائة و ألف (1973) في الأكاديميّة الفرنسيّة، و في اليوم الّذي انتخب فيه، كان عالم الإثنولوجيا الّذي يرتدي الأخضر، يحتفي ببرود من خلال مشاركته في طقس يجري في مؤسّسته الّتي ينتم إليها. وفي سنة اثنين
وثمانين وتسعمائة و ألف (1982)، عند تقاعده، عاد إلى علاقاته العاطفيّة الأولى و إلى الموسيقى والفنون. إنّه الوقت المناسب للمشاهدة و الاستماع و القراءة (1993)، ولرحلاته إلى اليابان، وساعات يقضّيها في قاعة البيوعات بــ"درووت " Drouot ". هذا المولع بـ'فاغنير "Wagner "، و بعمالقة الطّرب، لم يسعه أن يصبح قائد تخت كما كان يحلم، ولكنّه أصبح الأكاديميّ الأوّل لهذا القرن، و واحدا من المؤلّفين القلائل الّذين نشرت لهم
مجلة " لوبوان " سبتمبر - أكتوبر 2011
ص12 - 13