سيدات زحل: التباس الهوية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
-1-
قرأتُ هذه الرواية بتوجيه ذي فائدة من المؤلفة السيدة لطفية الدليميّ في رسالة شخصية " أعترف لك أنّ هذه الرواية تشتغل بكاملها على تقديم وجهة النظر النسوية من العالم أولاً ومن وقائع الحياة العراقية وكوارثها ثانياً ومن العلاقة المتوترة الملتبسة بالهوية العراقية -الأنثوية والذكورية، وبالعلاقة الاستيهامية في العشق".
وأود أنْ أتحدّث عن هذه القضية. يحاول القارئ، عادةً، أنْ يمضي قدماً بقراءةٍ مجهولةٍ لتكوين معرفة عن العمل عبر نشاطات ومكابدات شخصية، وهو بذلك أشبه بـ " البحّارة" المستكشف لقارة أو جزر جديدة، والقارئ " البحّارة" لا يشبع فضوله إلا تحسّس إمكانية الحياة في المكان الذي لا حياة فيه. وأودّ أنْ أعرب عن بهجتي في العثور على حياة تبعث من رماد المأساة في هذه الرواية الشيقة العميقة السرد والمضمون. فعلى الرغم من تفشي جراد الموت في المدينة المنكوبة إلا أنّ الحياة تترسّخ عبر العشق الفريد لعشيقَيْن يسعيان في وقت واحد لكتابة تاريخ تلك المدينة الآفلة. فالكتابة هي وثاق ذلك العشق الفريد. أو قل إنّ ما يتبقى من ذلك العشق هو السرد التاريخيّ لحياة تلك المدينة.
إنّ هذه الرواية، مع أعمال عراقية أخرى في الرواية والشعر، تقارب سردياً إلى الحياة العراقية المعاصرة عبر حكايات التاريخ العراقيّ. وعلى الرغم من تشاؤمية هذه المقاربة التي تؤكد سريان دائم للتاريخ بخطاباته وصراعاته في العقل المعاصر على نحو مَن يقع في أسر استعادة التاريخ وإعادة إنتاجه ثانية، إلا أنها من ناحية أخرى، في هذه الرواية تحديداً، تسعى إلى الخلاص/ العلاج بالترياق.
-2-
اختارت الساردة طريقة " البحث" عن عمها الشيخ قيدار البابليّ في مدة تتزامن مع احتلال بغداد واستباحتها من قبل الجميع، ولذلك هي تروي ما تسقط عليه عيناها كمثل مؤرخ يدوّن الفجائع بطريقة شعرية مؤثرة. فحياة البابليّ تحاول أنْ تجد طريقة لمعرفة هويتها الملتبسة بين شخصيّتَيْن في عالم ملتبس أصلاً، إنه عالم الفجائع الدورية المكرورة، وهذا هو موضع الإشكالية السردية في هذه الرواية التي تتحدث بأكثر من لسان وأكثر من ذاكرة وبأسلوب تتماهى فيه الأزمنة والأمكنة والأسماء والأشياء، كأنها تُكنّي عن هوية ضائعة في زحمة الأحداث، وانهيار نظام كامل.
-3-
تتخذ رواية سيّدات زحل، من " زحل" اسماً لها، وهذا الكوكب كما في الشروح الفلكية والميثولوجية القديمة هو كوكب متطرف وجالب للنحس، وفي الوقت الذي تقع فيه " سيّدات زحل" تحت وطأة هذا الطالع المنحوس، فإنّهنّ يتطلعن إلى مقاومة هذا الطالع بالسرد الحكائيّ لمصائرهنّ ومصائر الآخرين أيضاً. إنّ الشروح الفلكية تقول بأنّ كوكب " زحل" يتمتّع بظروف متطرفة متقلّبة باستمرار، و" سيّدات زحل" هنّ سيدات عالم متطرّف في كلّ شيء، وهنّ يواجهن التطرّف بتقديم وجهة نظر من خلال السرد الحكائيّ عبر رحلة تاريخية ومعاصرة مثيرة. وتعدد الطبقات السردية وتداخلها، إنما يفصح عن تعقيد لطبيعة المشكلة، والصعوبة البالغة في تفسيرها.
-4-
تتحرّك الرواية في حيّز زمنيّ ينفصل عن مداراته الأصليّة أو الحقيقية، ليتحرك في حيّز سيكولوجيّ معقّد، يكون عمل الكاتبة فيه " التأليف " بين الأزمان المتعارضة لتنصهر في صيغة متجانسة ومتناسقة إيقاعياً، فإعادة تصوير التجربة الزمنية التاريخية يجري من خلال موضعة الشخصيات الواقعة تحت ضغط سيكولوجي متناسق لتقديم رؤية فلسفية ترى في الزمن فعلاً يمكن استعادته كما تستعاد الأرواح عبر " الحلول". إنّ تنظيم الأزمان المتعارضة في سياق متناسق هو مسعى ظاهراتيّ لجعل الزمن حاضراً كشعلة متّقدة في الوعي، لا مجرّد لحظة مندثرة غير قابلة للاستعادة، وهذا ما يسمّيه بول ريكور: ظاهرية الشعور بالزمن. [ ص8- الزمان والسرد بول ريكور- ترجمة سعيد الغانمي وفلاح رحيم]. إنّ التأليف السردي يقوم على إعادة صياغة النصّ الروائيّ عبر انتخاب ما حدث فعلاً في " التاريخ" وجرت استعادته عبر عملية " التأليف" في السرد القصصي. وقد نجحتْ هذه الطريقة في استدعاء كلّ احداث الفجيعة في تاريخ بغداد قديماً وحديثاً.
-5-
أسلوبياً، تنتمي هذه الرواية إلى " الواقعية السحرية" لوصف العالم العجائبيّ والمدهش الذي رافق سيرة بغداد منذ نشأتها حتى ما بعد الاحتلال الأمريكيّ في 2003. وعبر هذه السردية السحرية، تحاول المؤلفة اكتشاف خصائص هذه المدينة العجيبة وإعادة صياغتها على وفق وجهة نظر تستوعب ما هو تاريخيّ وسياسيّ واجتماعيّ وثقافيّ في إطار من السرد الذي يريد أن يفسّر الحاضر بالماضي، وينظر إلى مستقبل محطّم بعين الماضي الجريحة أيضاً. وعلى هذا، ليس من الممكن تحاشي تداخل الأزمنة والأمكنة والشخصيّات إلا عبر استعمال الفنتازيا والخرافة لتقديم صيغة أسلوبية مقبولة لدى قارئ عايش جزءاً من تلك الأحداث البغدادية. وهكذا، فإنّ هذه الرواية تعيد تنشيط المتون الفجائعيّة عبر أساليب سردية شيّقة، حتى كأننا نقرأ تاريخاً وجيزاً ومكثّفاً لتلك الفجائع التي لازمتْ بغداد كطالع شؤم مثل طالع زحل في الميثولوجيا القديمة. وكانت " الكراسات السردية" طريقة أسلوبية موفقة لقصّ تلك الفجائع القديمة والمعاصرة على حدّ سواء. الماضي يزحف باتجاه الحاضر، والحاضر يتقهقر نحو الماضي بإيقاع سرديّ متسارع يضاعف من ضربات قلب القارئ المسكين الذي وقع تحت وطأة سرد مأساويّ.
-6-
إنّ حياة البابليّ ذات التاسعة والثلاثين سنة، هي امرأة حالمة وعاشقة المستحيل، تنتمي طبقيّاً إلى الطبقة الوسطة، فأبوها أستاذ جامعي ذو خلفية يسارية، وأمها مناضلة سياسية ذات ميول ليبرالية اعتُقِلَتْ في العام 1968، وطليقها أستاذ جامعيّ في العلوم السياسية وناشط في حقوق الإنسان قام النظام البعثيّ بإخصائه عقاباً على نشاطه السياسيّ، وهي مثقلة بحكايا المصائر لأشخاص غيّبهم الموت والسلطة، وهي وارثة آلام الأرواح التي نسِخَتْ منها، فالتناسخ لم يكن مجرّد حلول روحيّ محضٍ، وإنما هو تناسخ وحلول لآلام تلك الأرواح وفجائع عصرها.وهكذا، فإنّ حياة البابليّ المشتتة الهوية ما بين حياة البابليّ وآسيا كنعان " الاسم المزوّر في جواز سفر حياة، هي بصورة وأخرى، بغداد الممزقة الهوية أيضاً. ولذلك، فإنّ رحلة " البحث" عن بغداد لا تجدي نفعاً، ولا تسفر عن شيء، لأنها مدينة بلا ملامح، أو ذات ملامح شوهتها الحروب والكوارث والاستبداد، وقد طمست ملامحها عبر الزمن. وهي مدينة لا تنتمي إلى الحاضر والمستقبل، وإنما تستنشق هواء التاريخ وفجائعه وفتنته على نحو دوريّ. وحياة البابليّ، التي وقعتْ تحت هيمنة فكرة " الحلول" أو " التناسخ" ورثتْ الآلام والفجائع لنسوةٍ شهدن الاستبداد والكوارث وكنّ شاهدات على كلّ ما جرى، وكما تنطوي كلمة " شهد" على معنيَيْ: الرؤية والإخبار عن جرم مشهود، فإنّ حياة البابليّ، التي تنوء بتركة ثقيلةٍ، قد شاهدتْ تلك الفجائع وعانتْ آثارها، ومن ثمّ وجدتْ نفسها في محكمة التاريخ شاهدةً لتقصّ ما جرى من جرائم شتى، وانتهاكات لا تحصى. وكون المرء مشاهداً بعينيه، وشاهداً في محكمة مفترضة " محكمة التاريخ" هو ذروة المكابدة الوجودية. إنّ المزايا السيكولوجية التي امتازتْ بها حياة البابليّ هي مزايا واقع عراقيّ مضطرب وملتبس، وتظهر هذه المزايا عبر نمط الحياة التي اختارتها. إنّ الشيء المهم، هو أنّ حياة البابليّ تمتلك شخصية قوية ومؤثرة، وهي تروي أحداث الرواية وتسعى إلى إيجاد إجابات عن تساؤلاتها المحيّرة. وعبر الكم الهائل من حكايا العنف والاستبداد، تطرح وجهة نظرها حول جذور ذلك العنف والاستبداد من خلال تماهي الشخصيات والأزمنة والأمكنة والأسماء، إنه عمل ملتبس يبحث في جذور الالتباس عن " التاريخ العراقيّ". وفي مقابل تدفّق أحداث ذلك التاريخ وازدحامها كان لابدّ من مخرج أسلوبيّ هو بناء العمل على وفق رؤية استعارية وكنائية للحدث العام بحدث شخصيّ، فكان أنْ اتخذتْ من عملية إخصاء السلطة البعثية لحازم، كناية عن واقع جرى إخصاؤه من قبل السلطة البعثية عبر أكثر من خمس وثلاثين سنة. وحياة البابليّ نفسها كناية عن إنسان ممزّق الهوية. وحامد أبو الطيور الذي اقتلعت السلطة لسانه، هو قمع بكمّ أفواه الشعب بكامله. والعشق المستحيل مع ناجي، إنما هو كناية عن حياة مستقرّة عصية المنال. والبحث عن الشيخ قيدار هو بحث عن المخلّص الغائب بإرادته، أو المخلّص المستحيل الحضور. وإنّ البحث عن الشيخ قيدار في مناطق بغدادية متعددة الهوية الإثنيّة، إنما هو البحث عن بغداد المثال والحلم الذي انفرط في ليل العنف البهيم.
-7-
تنطوي هذه الرواية على غيابات متعددة، ولكلّ غياب ظروفه السياسية والاجتماعية الخاصّة. فأصبح " الغياب" ركناً أساسياً من أركان السرد في هذه الرواية، لكنّ هذا الغياب، لم يكن غياباً مطلقاً، فالرواية تستعيده بحسّ صوفيّ وروحانيّ شغوف بالباطن، والجوهر، والغامض، وما لا يُدْرَك. إنّ الإشعاعات الصوفيّة في هذه الرواية، هي إشعاعات لتحرير الألم من ظلام الفجيعة الدامس، أو كوّة على أملٍ بمخلّصٍ قريب.ولأنّ " الغياب" كان يحدث بفعل سياسيّ في الغالب، فإنه حظي بإدانة صريحة لأباطرة القتل والاستبداد طوال التاريخ. إنّ هذه الرواية تدوّن وجهة نظرها المحتجّة ضد أساليب الإبادة التاريخية الدوريّة التي تعرّضتْ لها هذه المدينة المشبعة بالفكر والشعر والجمال والفتنة طوال التاريخ، ومن هنا فإنّ تدوين " الغيابات" القسرية هو إدانة سردية واضحة لأسبابه ومسبباته، وذلك بجعله ماثلاً على الدوام في صيغة سردية حيّةٍ وحيويةٍ.
في مقابل انتشار الموت وتفشّيه وتغلغله في السيرة البغدادية، فإنّ الحياة تشعّ كبقيةٍ باقيةٍ من أملٍ جليلٍ، أو تنبض كما لو أنها نبضة غير متوقعة في جسد يحتضر. فهذه الرواية قدّمتْ مستويات رمزية عديدة لإيجاد معادلة متوازنة بين الموت المتفشّي وسعيّ الناجين لسرد الوقائع والحكايا المغموسة بالعشق المستحيل، والأحلام الغامضة، والتشبّث بما تبقّى من جمال بغداد. فكانت حكاية العشق المستحيل بين حياة البابليّ وناجي الحجاليّ تجلّياً لذلك التوازن. وإنّ استغراق الشيخ قيدار البابليّ في غيابه هو استغراق روحانيّ يستعيد عبره كلّ ما لا تمكن استعادته. وكانتْ رحلته في البحث عن " فتنة" زوجته المخطوفة الجريحة ومحاولته إعادة الحياة لها تجلّياً آخر لتلك الموزانة. وكان تشبّث حياة البابليّ بحبّ مستحيل لرجل بعيد وظروف معاشرته تبدو في حكم المستحيل تجلّياً آخر لتلك الموازنة أيضاً.