ثقافات

أبعاد التشكل في "تماثلٌ الصورة"

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

حسين عجة: في قلب "ممالك"، ديوان مؤيد الراوي الفخم، تَفتحُ تماثل الصورة (هل ينبغي القول قصيدة، أم عمل بحد ذاته)؟ الكتابة الشعرية على محوري التشكل الروحي، المُغيبين بالضرورة ضمن التجربة الحياتية "المعطاة" : البعد الفني الذي تتبلور عبر رؤيته، اللاتماثلية بالدقة، عناصر التماثل ذاتها، بدءً بما يُسمى المُعاش الشعوري، ومن ثم المرور بحالات التقمص العديدة، من جانب الراصد وانتهاءً بنوع من المطابقة المُموضعةِ ما بين الراصد والمرصود؛ والبعد الإنطولوجي. نعني بالبعد الإنطولوجي إمكانيات الفكر التأملي الذهاب إلى ما وراء الموقف أو اللحظات السايكولوجية، إن كانت وصفية "موضوعية"، أو تحليلية "مرآوية" تتلاحق على سطحها الصور وتنعكس في أعماق مينتها آمال وخيبات اليومي، بكل ما ينطوي عليه من غنائية استطرادية أو توقف تخشبي مفاجىء. على العكس من كل ذلك، يعلق الأنطولوجي عموماً، وفي "تماثل الصورة" خاصة، فعل العيش المتواتر في العالم، أي الفاعليات المختلفة للذوات وتداخلها مع "الأشياء"، بغية إلقاء كل ما يمكن من الضوء على حضورها أو غيابها باعتبارها ظواهر آنية وزائلة، كما يوقف نزيفها الغنائي المبعثر، وذلك لكي يتمتع بها باعتبارها جواهر لا تسقط تحت عين الفاحص المباشرة، بل لا بد من شحنها إلى حدودها النهائية، تلك التي ترقيها إلى مصاف الفعل التأملي. المفهوم خطأ، لسوء الحظ، كونه نقيضاً للحركة أو الفاعلية الذهنية الحركية. ذلك ما سنراه، أو نتلمسه عبر "تماثل الصورة"، التي تنطوي على ستة تخطيطات أو تشكلات في لوحة واحدة، سنقوم هنا بقراءة واحدة من تلك التخطيطات.

إزدواجية اللعبة
لكن إلا يحق لنا، قبل الشروع بالكتابة عن "تماثل الصورة"، معرفة ما الذي نعنيه حينما نتكلم أو نذكر، على الأقل، مفردة "تماثل"؟ هل هو "التطابق"، "التشابه" و"الإقتراب من"؟ من ماذا؟ من شخص ما، من حالة بعينها، من نموذج بحد ذاته. لا ريب أن الكلمة معروفة، وحتى شائعة، بيد أن ذلك لا يجعلها مفهومة، وربما يكون العكس هو الصحيح؛ أي قد يكون شيوعها السبب الرئيس في إلتباسها، كما هو الذي يمنحها، معاً، قدرتها الاستثنائية على الإيهام. مثال على ذلك، غالباً ما يتمّ تناول إشكالية الهوية، وحدتها وانشطارها، التمامها على نفسها كما تبعثرها؛ لغزها وسذاجتها المفضوحة، باعتبارها أشكالاً متنوعة من التطابق، التشابه، الإنعكاس، أو التماثل؛ فيما نعرف بأنه ليس هناك لا من تطابق ولا من تماثل، حتى ما بين الأنا الواحدة. سيكون تعاملنا، إذاً، مع مفردة "تماثل" ضمن هذا الإلتباس، أي أنه ليست لدينا ولا يمكننا تفضيل أحدى دلالته أو معانيه على غيرها من الدلالات والمعاني الباقية. سوف نستخدم كل واحدة من تلك الدلالات في وقتها ومكانها المحددين. وكذلك سيكون عليه الأمر فيما يتعلق بمفردة "صورة" التي لا تقل، كما هو جلي، بالتباسيتها وغموضها، حدتها وتعدديتها عن "تماثل". لقد سالت بحار من الحبر الأسود والأزرق من أجل توضيح العلاقة الغريبة ما بين "الصورة" كمفردة، و"المفردة" كصورة.
ومع ذلك، هل يمكن تجسيد "التماثل"، هل ثمة من حيز طوبغرافي، إلى جانب البعد الزماني، يمكن جعله أكثر ملموسية بالنسبة لنا؟
تبدأ قصيدة "تماثلٌ الصورة" بتقديم إجابة وصفية تقريرية، في الظاهر، على سؤالنا :
في غرفة ما، أمامَ نافذةٍ مُسدلة الستار،
يكمنُ قاتلٌ يرصدُ الظلالَ المبهمة.
بطريقة تقترب كثيراً من عدسة الأفلام البوليسية المُتمثلةَ، من وجهة نظرنا، بإمكانية الإقتراب الشديد من مشهد ما ومن ثم قراءة أدق تفاصيله، والإبتعاد عنه في ذات الوقت، وذلك من أجل التركيز على جانبٍ واحدٍ منه، وبالتالي حصره ضمن إطار لقطة "زوم" تجعلنا نتوهم دخول المشهد وتحولنا نحن بالذات إلى جزء منه؛ بمثل هذه الطريقة تدخلنا "تماثل الصورة" في عوالمها، التي وإن لم تكف عن الإيحاء بالغور العميق في سايكولوجية أو أفعال شخوصها، لا تنى عن مباغتتنا بأنها، في حقيقة الأمر، لم تبتعد كثيراً، بل ظلت ملاصقة لحيزها المحدود، الذي لا يتجاوز ربما مساحة غرفة ضيقة.
ثمة هنا، لكي نجمع بعض الدلالات المكانية المحضة، ما يلي :
1-غرفة...ما.
2-نافذة.
3-ستارة...مسدلة
4-ظلال... مبهمة.
أسماء وصفات.
لكن هناك أيضا أسم فاعل واحد: قاتلٌ؛ وفعلان: يكمنُ، يرصدُ.
الستار المُسدلِ، الظلال المبهمة هما ما أسميناه التباس "التماثل"، سواء كان ذلك كمفردة معجمية ودلالة وجودية، أو كحالة يتم أستخدامها هنا، من أجل تقديم التجربة الفنية.
في البدء، نحن لا نعرف أي شيء عن ذلك القاتل؛ ليس فيما يتعلق بدوافعه وحدها، وإنما أيضاً عن هويته، ولاسيما الأماكن أو الأصقاع الذي قدم منها. لكن، وبالرغم من ذلك، يستشعر القارىء سلفاً بمناخ له خصوصيته، هواجسه وسحنته الإختناقية، إذا جاز التعبير.
سيلقي النص، دون أقل أشك، المزيد من الضوء على الزوايا المتعددة، الضمنية أو الإفتراضية لهذه الشخصية، التي يتم الإعلان عن حضورها المباغت من خلال ما ليس بمقدوره تشكيل جزءً من حضورها المادي أو الجسدي؛ عبر هذه "الغرفة" المجهولة، "غرفة ما"، و"النافذة" المُغفلةِ، أي الخالية من أي نعت، و"الظلال المبهمة"، الثقيلة؟ لكن، ولنقل هذا بسرعة وجانبياً، علينا التأكيد بأن ثمة من فارق جوهري ما بين "التماثل" و"الأمتثال"!
لنقوم بالخطوة التالية :
يَمتثلُ كصديق واضح الملامحِ حينما يرادُ منهُ-يتشرَّبُ
بسحنةِ من يرصدهُ. ولكي يستكمل المهمةَّ
يحملُ وثيقتين من البراءة :
وجه حملِ مُهَدَد بسكين،
ومخلب صقرٍ مضموم.
تلك هي اللعبة المزدوجة، وثيقة "البراءة" المُغلفةِ : الوجه والقفا، الجلاد والضحية، الجرح والسكين، الخ...
منْ هو شاهد ذلك "القاتل"، أي صوت ذلك الذي يصفه لنا، هنا، ويحدثنا عن انشطار شخصيته أو ثنائية "حقيقته"؟ هل يمكن القول : الشاعر؟ لا يمكن أدعاء هذا، أو استعجال حكماً كهذا، بمثل هذه الخشونة أو المباشرة، ذلك لأننا حيال لوحة تشكيلية يكمن سحرها، في المقام الأول، في حريتها الكبيرة باستخدام ليس الألوان فحسب، بل وبصورة ملحوظة "الظلال"، بما فيها تلك المتعلقة بالسارد أو "الراوي"، أي ذلك الذي يمد لنا حبل القراءة، لا لكي نعثر بسهولة ومن ثم نستمرأ بعذوبة كأس المعنى الشهير، ولكن حتى يضاعف ربما تأويلاتنا للوحتة تلك، بكل ما تتضمنه تلك التأويلات، التفسيرات وحتى القراءات البسيطة من مُخاطرة واخطاء. من الواضح أيضاً بأن الشاعر لا يزج بنفسه ولا ينزلق، عند هذه النقطة، أي في لحظة الوصف المطلق والمحايد، بمعنى ما، في ميدان الاحكام القيمية أو الجمالية. يكفيه مواصلة نسج خيوط قماشة لوحتة التجريدية هذه، أو على الأقل رسم مخططها الأول؛ تجريدية بذات الأسلوب البلاستيكي الذي لا يعني، بالضرورة، الوقوف عند الخطوط والإنحناءات وحدها، ومن ثم تحاشي الأشكال أو ما يسمى بـ "Figures". على العكس من ذلك تماماً، ما دام هذا المقطع من "تماثل الصورة" لا يني عن مدنا بمعلومات ملموسة عن شخصية "القاتل" الزئبقية هذه، فيما تضاعف ريشة خفية ظلاله وجعلها تتكور أمامنا وكأنها مادة صلبة ومنحوتة من صلصال ممانع ومرهف بطريقة مفرطة، في آن معاً :
قاتلٌ يتخفى، ثم يتململُ داخل سياج الحديقة،
لا يعبأ بالوقت المؤجّلِ، لأنّ الوقتَ رصيده.
يراقبُ الضحيَّةّ،
يداعبها بالتخفي،
يناجيها،
ويُخوَّفها،
في الغسق الذي تعكّرُ صفوهُ الطيور.
لم نعد، أو لم يعد "القاتل" بالأحرى "أمام نافذةٍ مُسدلة الستار"، بل "داخل سياج الحديقة". أية حديقة؟ حديقة نفس التخطيط الطوبغرافي، حيث تتحرك رغبة القيام بالفعل، إلى جوار رغبة التعليق التأملي، الذي تحدثنا عنه قبل قليل، والذي يبعد أي حكم قيمي ازاء العالم وما يسيل من فوق جسده من ظواهر، لكي يستنفذ وصفه الكامل والناجز من أجل بلوغ والتمتع بالجواهر بحد ذاتها. ومع ذلك، يرفدنا هذا المقطع بخاصية جديدة عن ذلك القاتل، لم يكن أي شيء قد أشار إليها من قريب أو بعيد، إزدواجيته حيال الزمان، وليس إنشطاره داخل الحيز المكاني فقط :
لا يعبأ بالوقت المؤجّلِ، لأن الوقتَ رصيده.
تلك هي الصفة الثعلبية "للبرادوكس"، للمفارقة، لجانبي العملة الواحدة : الظهر والقفا، "المداعبة" و"التخويف".
ثنائية، أزدواجية "النظام"، أو كل نظام. إذ يمكن القول عن هذا الأخير بأنه في كينونته "كلاني"، استحواذي، يحيط بالشيء ونقيضه، كما يمسك بيديه على مرآة مقعرة أو معكوفة بطريقة تجعلها قادرة، في كل لحظة، على عكس جانبي المعادلة : "التخفي" و"التململ"، عدم الأكتراث "بالوقت"، ذلك لأن هذا الأخيرة هو بمثابة رأس ماله، أو "رصيده".

التحول
يمكننا التأكيد على النقطة التالية، دون خوف كبير : تزدحم قصيدة "تماثلٌ الصورة" على هواجس القلق الوجودي، وليس النفسي، حيال فعلي "تخفى" وفعل "كشف"، إلى حد قد يكون من الصحيح القول بأن كل مونتاج هذه اللوحة الثرية بتشكلاتها قد وضعَ بغية أظهار "الطبيعة" المرواغة لمداليل هذين الفعلين. قبل أن نصل إلى حد تبيان تلك الوسواس الهذيانية التي تحوم من حول ثبات وتحول الفعلين إلى نقائضهما، لنواصل قليلاً الحركة الداخلية لهذه الشخصية والكيفية التي تدير بها عوالمها، أو تترك نفسها تتحول هي بموجب فاعلية تلك العوالم :
يجثو أحياناً كضبعٍ مجروح، وفي مرات يتحفَّز.
يعرفُ مَن يراقبهُ في الغرفةِ سيبللُ العَرَقُ عانته.
ما زلنا أمام نفس الثنائية أو الأزدواجية، أو الإنشطار في الشخصية، الذي عشناه قبل لحظات، لكننا نعيشه الآن عبر فعلي "جثى" و"تحفز"، وليس كصفات تُمهر أو تلصق بأحدهم، وكأنها القاب تأتيه من خارجه.
لكن، هل ما زلنا في رفقة ذات القاتل، نفس المُراقبِ، أم، على العكس من ذلك، في صحبة منْ يُراقب وربما يستثمر تلك المراقبة، ما دامت أنها تتعلق بطرف ثان أو ثالث، يجد نفسه على مسافة منه؟
يراهُ من خلف الستارة طيفاً حرجاً
فيستمرىء اللعبةَ ويقلّب الأهواء،
يستذكرُ التجارب فيها ويعرف خفايا التوجسْ.
وها أننا أمام المرآة الأسطورية، الخالدة، لتبادل الأقنعة الساحرة، حيث ما كان يرى، قبل لحظة فقط، يصبح بدوره، مرئياً، أو منْ كان، في نفس الحيز الطوبغرافي، يتطلع نحو الذهاب إلى نهاية الشوط في لعبة المراقبة، التي لا ترتكز على شيء أخر غير فعلي "تخفى" و"تكشف". من هنا أيضاً ذلك الإستمراء غير المتوقع، وتقلب الأهواء المعروف، اليومي، تحت ذريعة "التذكر".
يبقى علينا أقتفاء تحولات هذا المقطع حتى نهايته الأخيرة، بغية الحصول على ضربته الشعرية المتفردة، والتي تمثل بالنسبة لنا ذروة توتر "تماثل الصورة"، ومن ثم التمتع، حد العبث أو الهذيان، بهلوساته السخية :
وجههٌ مشبوهٌ كحضنٍ شجرة مقصوفةً،
يقفُ، هناك، في ظلَّ عمود الضوءِ
باستقامةِ قامته. يخترعُ النور، ليكشف عن نفسهِ،
يوهمُ بالأمانٍ،
يخفي في ردائهِ
نوايا الأحتراق بينَ النجوم.

هل ثمة ما يدفعنا على وضع لمسة أخيرة على ضربة الريشة المرهفة والموجعة، في آن، على "الحضن"، "الشجرة"، "القامة المستقيمة"، و"اختراع النور"، الخصيلة الكبرى للشعر، أو عكسه، أي خلق الدياجير والإلتباسات المتدافعة والتي لا نهاية لها، بغية فضح "النوايا"، أو التظاهر، على الأقل، "بالأحتراق". لكن أين؟ "بين النجوم"؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف