ثقافات

المسرح المدرسي وميدان التحرير

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

عمرو زكريا عبدالله: لمَ لا يكون في كل مدرسة ميدان تحرير مُصَغَّر من ميدان التحرير الكبير الذي يقع في قلب القاهرة؟ كان هذا سؤالاً طرحتُه على نفسي منذ بداية هذه الثورة التي نعيشها حتى لحظة كتابتي هذه السطور. أين هو المسرح المدرسي الآن؟ المسرح الذي يمثل عليه الطلاب المسرحيات التي تعبر عما يعتور مشاعرهم ويُبْدُون من خلاله آراءهم فيما يدور من حولهم ويكشفون عن مشكلاتهم التي تعبر عن مراحلهم العمرية المتباينة من السادسة وحتى المدرسة الثانوية. أكاد أجزم بالقول إن هذا المسرح المدرسي منعدم الوجود. هذا على الرغم من أن المسرح إحدى الوسائل التربوية التي لا بد من توظيفها في خلق جيل من المصريين يبغض الجريمة والعنف والتعصب وما إلى ذلك من رذائل غرسها فينا النظام السابق على مدار الثلاثين سنة الأخيرة. ومما لا شك فيه أن ثورة 25 يناير من هذه السنة المباركة سوف تؤتي ثمارها على المستوى الإيجابي في الفترة المقبلة على كل الأصعدة، وبما أننا نشكو من العنف الذي ساد بين شبابنا في كل مكان من أرجاء الوطن فلا مندوحة والحال كذلك عن نشر الفنون الجميلة بين النشء على وجه الخصوص؛ فَهُمُ النبت الذي ننتظر منه ثمار هذه الثورة في المستقبل. ولا يخفى على أحدٍ ما للفنون الجميلة من أثر في رقي الأخلاق وسموها. والفنون الجميلة الآن غيرها من ذي قبل، فقد أصبحت هذه الموصوفة بالجمال لها معايير تقاس بما يؤديه الممثلون والمغنون الذين يكون هدفهم تجاريا بحتا. وصار المثل الأعلى في الفن الغنائي هو المطرب الذي يحب الحمار، والمثل الأعلى في المسرح هو عادل إمام صاحب التوجه المسرحي التجاري الذي لا همَّ له إلا صفع يوسف داود على وجهه أو قفاه مما يثير ضحكات الناس وهذا بالطبع نوع من الإضحاك مُسِفٌّ. ومع انتشار هذا المسرح التجاري أوشك المسرح الجاد أن يغيب حتى صارت الأغلبية تفهم المسرح على أنه الكوميديا فحسب. وهذا يرجع إلى غياب الثقافة المسرحية عن الناس؛ فالناس لا يعرفون أن للمسرح مدارسَ واتجاهاتٍ مذهبية شتى والكوميديا فرع واحد فقط من شجرة المسرح الكبيرة. إن المسؤول الأول عن غياب هذه الثقافة المسرحية هي وزارة التربية والتعليم. وبقيام الثورة يكون من المناسب بل من الواجب أن نحيي التقاليد المسرحية حتى نتجاوز المساوئ الفنية التي مرت بنا خلال السنين الفائتة. إن حديثي ههنا موجَّه على وجه الخصوص إلى وزير التربية والتعليم كائنًا من كان؛ لأنه المسؤول أمام الله والشعب عن كل ما يحدث في المجتمع من عنف وجريمة وتعصب نراه في كل ركن من أركان وطننا.
لِتسمحْ لي أيها القارئ أن أعرض عليك كيف كانت منزلة المسرح في المدارس المصرية في الماضي. كانت المدرسة في مصر القرن التاسع عشر، قرن التنوير في الثقافة المصرية، تهتم اهتماما لا مثيل له بالفنون الجميلة ويكفيك أن تتبَّع دوريات ذلك القرن كي ترى مبلغ اهتمام المدارس بالمسرح وبتقديم مسرحيات يقوم التلاميذ الصغار السن بتمثيلها حتى ولو في فناء المدرسة. وممن التفتوا إلى المسرحيات المدرسية في القرن التاسع عشر كان الأستاذ فيليب سادجروف في كتابه المهم "المسرح المصري في القرن التاسع عشر (1799- 1882)" The Egyptian Theatre In The Nineteenth Century (1799- 1882)، حيث يشير في الفصل الثالث من هذا الكتاب إلى المسرحيات التي كان التلاميذ يؤدونها في المدارس، وأرى من الأفضل لو أنقل لك هذه الفقرة كما هي واردة في الكتاب، يقول الأستاذ سادجروف:
المسرحيات المدرسية
في شهر أغسطس كان هناك تقرير في الصحافة عن تسليم الجوائز السنوية بالمدرسة الفرنسية، "مدرسة إخوان المدارس النصرانية" في الخرنفش بالقاهرة. حكى الطلاب بعض الحكايات، وألقوا خطبًا، ومثَّلوا مسرحياتٍ قصيرةً (تخليعات أو تياترات)، أمام جمهور ضمَّ القنصل الفرنسي، والذوات، والأمراء. هذه المسرحيات القصيرة، التي يمكن للمرء أن يتصور أنها قد عُرِضَتْ بالفرنسية، تضمنت "مواعظ" و"حِكمًا" و"اعتبارات" بهدف تهذيب التلاميذ والجمهور المتفرج.
عُرِضَتْ مسرحية كوميدية فصول ثلاثة باللغة الفرنسية بعنوان "أدونيس" كتبها مدرس فرنساوي يُدْعَى "لوي فاروجيا" Louis Farrugia من خلال طلاب "مدرسة العمليات المصرية" Ecole des arts et meacute;tiers meacute;caniques ببولاق في اليوم التالي لامتحاناتهم، والذي وافق يوم الثلاثاء الخامس عشر من نوفمبر 1870 الموافق الحادي والعشرين من شعبان. كانت هذه المسرحية تقصد إلى تدريب الطلاب على "الأعمال النبيلة وآداب السلوك". وفي صيف عام 1871 قُدِّمَتْ مسرحيات "بمدرسة دير الإخوة الفرنساوية" بالإسكندرية. عُرِضَتْ كوميديات وتراجيديات في هذه المناسبات. ومثَّلَتْ تلميذات مدرسة "أخوات الرحمة الداخلية" Pensinnat des Soelig;urs de la Miseacute;ricorde بالإسكندرية مسرحية راسين Racine "أثالي" Athalie في شهر أغسطس عام 1872. وفي صيف عام 1874تمَّ تقْديم مسرحية في "المدرسة الخيرية الإنكليزية" بالقاهرة. وفي عام 1876 كان هناك عرض قُدِّمَ في "المعهد الإنجليزي" بالإسكندرية. ومما لا شك فيه أن مسرحيات أكثر بكثير من هذه المسرحيات المذكورة والتي كتبت الصحافة تقارير عنها قد قُدِّمَتْ في المدارس خلال تلك الفترة، إلا أنه ليس هناك معلومات متاحة عنها".
هذ ما كتبه الأستاذ سادجروف، وهو يوضح لك كيف كان الناس جد حريصين على التمثيل فهمًا منهم لما له من قيمة في تشكيل وعي التلاميذ، بل إن عبد الله النديم (1843- 1896) كان له نشاط مسرحي ممتاز، فإننا نقرأ في تاريخ نضاله وفيما كتبه عنه المفكرون والمؤرخون أنه ذو وعيٍ بقيمة المسرح في تشكيل الوعي السياسي في السياق التاريخي الذي عاش فيه، وعلى سبيل المثال نقرأ أنه رأس في أبريل 1879 "الجمعية الخيرية الإسلامية" بهدف مساعدة أبناء الفقراء واليتامى. ونرى كيف أن هذا الرجل عظيم حقًّا عندما نقرأ أنه ساهم في تشكيل جمعيات وطنية أدبية وأن الطلاب في هذه الجمعيات كانوا يقدمون مسرحيات باللغات المختلفة ولا سيما الفرنسية، ويذكر الأستاذ فيليب سادجروف في كتابه سالف الذكر أن واحدة من هذه الجمعيات مثَّلَتْ مسرحية بالفرنسية وعرضت جريدة النقاش "المحروسة" تقريرًا عنها. كذلك جعل النديم الطلاب يستخدمون المسرح ليس للتمثيل فحسب بل للخطابة والمناظرات وكلاهما في حسباني من العناصر المؤسسة للخطاب المسرحي والشعري في أوائل القرن العشرين، ويذكر الأستاذ سادجروف أن هذه الجمعية كانت تضم طلابًا "من أية مدرسة ومن أي بلد أو عقيدة". كان هؤلاء التلاميذ ثمرة التعليم المدرسي الذي اهتم فيما اهتم بالمسرح بل وجعله من الأولويات الضرورية، وهم التلاميذ الذين كانوا النواة الخصبة للمرحلة الليبرالية التي كانت سائدة في مصر في النصف الأول من القرن العشرين حتى حلَّ عصر العسكر بثورتهم الملعونة يوم 23 يوليو 1952. وهؤلاء التلاميذ كانوا النواة الأولى التي أخرجت أناسًا يعشقون الفن المسرحي فخدموه حتى الموت. ومن أبرز المهتمين بالمسرح المدرسي في مصر في الربع الأول من الربع الأول من القرن العشرين كان الأستاذ المرحوم "محمود مراد" (1891؟- 1925). كانت معرفتي الأولى باسمه من خلال كتاب "مدرسة المسرح" للأستاذ يحيى حقي. وفيه أفرد فصلاً عن محمود مراد. والكتاب طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1986، وهو في الأصل مقال ضمن ما كان ينشره في الملحق الفني والأدبي لجريدة "المساء". والمقال منشور في العدد 18 بتاريخ 3 أبريل 1963. وفيه يتذكر الأستاذ يحيى حقي أستاذه "مراد" الذي كان يدرس له المسرح في المدرسة الخديوية عام 1921 وكيف كان عاشقًا للفنون حتى آخر رمق من حياته. كان محمود مراد يؤمن أن المسرح أحد الوسائل التي ترقي المجتمع وتخرج به من الواقع المأساوي الذي يعيشه لا سيما أنه في هذه الفترة انتشرت صيغة (الأدب جزء من الحياة). ومسرحيات مراد المدرسية كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر: "زهراب ورستم"، و"الأساس فالبناء"، و"الجزاء الحق"، و"الابن الضال"، و"ما وراء الستار"، و"مجد رمسيس"، و"توت عنخ آمون". وكان هذا الأستاذ العظيم قد أُرسِل في بعثة إلى أوروبا للاطلاع على فنون المسرح والموسيقى، وكان من ثمرة هذه البعثة أنه كتب تقريرًا إلى وزارة المعارف عن المسارح التي زارها في النمسا وسويسرا وفرنسا وإنجلترا وأسكتلندا, وقد وجدتُ هذا التقرير في دار الكتب المصرية ويمكن أن نتكلم عنه بإسهاب مرة أخرى إذا سنحت الظروفُ بذلك.
أذكر كل هذا كي أعرض عليكم كيف كان المسرح وسيلة من وسائل تربية النشأ التي اعتمد عليها أسلافُنا في الماضي القريب بعد أن احتكوا بالحضار الأوروبية. إن الهدف من المسرح المدرسي هو تهيئة مناخ وبيئة تساعد على تشكل وعي الأطفال تشكُّلاً يحبون معه ما هو خيِّر من الأعمال ويبغضون من خلاله كل مظاهر العنف والتعصب ورفض الآخر دون الاستماع لما يقوله. كما أن المسرح المدرسي وسيلة ممتازة لخلق جيل مدرك قادر على عرض مشكلات مجتمعه ونقدها وتقديم الحل لها. إن الطالب الذي يخاف أن يقول رأيه في أستاذه أو في إدارة مدرسته سوف تكون لديه الفرصة سانحةً؛ كي يصرح بهذا الرأي أو الملاحظات على خشبة المسرح المدرسي في شكل حوار مسرحي أمام أساتذته وأفراد إدارة مدرسته مجتمعين، وليس كما نرى الآن من ردود الأفعال العنيفة التي تصدر من التلاميذ تجاه أساتذتهم.
إن الهدف الظاهري من المسرح المدرسي هو الإمتاع، إلا أن الهدف الأعمق إنما هو هدف تربوي بالدرجة الأولى. وليس معنى الإمتاع ههنا الإضحاك بل معناه الإمتاع الروحي من خلال الوظيفة التطهيرية للمسرح، أعني التطهير بالمعنى الأرسطي Catharsis كما ورد في الفصل السادس من كتاب "فن الشعر" Poetics حيث إن التراجيديا تثير مشاعر الخوف والشفقة في الجمهور أثناء مشاهدتها، والتطهير بذلك يتوظف على نحو يشبه الطريقة التي يتوظف بها (العلاج المثلي) Homeopathic medicine الذي يعالج الاضطرابات النفسية من خلال التحكم في الجرعات الدوائية للبواعث المماثلة، من مثل بواعث عاطفتي الشفقة pity والخوف fear.
إن الطفل عندما يرى المسرح للمرة الأولى في حياته سيكون من المستحيل أن ينساه، ومن الممكن أن يكون عادة يعتاده في حياته اليومية كالدراسة والصلاة والقراءة وما إلى ذلك من الأشياء التي نغرسها في نفوس أطفالنا منذ الصغر. كما أن الطفولة هي السن الوحيدة المناسبة لغرس عادة المسرح في أطفالنا، فهو في تلك السن المبكرة لا ينشغل بشيء إلا بأسباب لعبه فما المشكلة إذا كان من بين ألعابه المسرح والفنون الجميلة بدلا من تربية أبنائنا على الخوف والكبت اللذين ورثناهما نحن -جيلَيْ الثمانينات والتسعينات- فتولد من الخوف الحقد والعنف والنكوص على الذات والتعصب البغيض. فالمسرح يسمح لهم بحرية التعبير عن مكنون شعورهم وعواطفهم مما يغرس فيهم فكرة حرية التعبير عما يرونه ويعتقدونه.
أحب أن أختتم كلمتي هذه بتكرار أن كل ما ورد آنفًا إنما هو موجَّهٌ إلى وزراء التربية والتعليم الذين بأيديهم السلطة كي يقوموا بما يشبه الإحياء للفن المسرحي المدرسي على وجه الخصوص والفنون الجميلة على وجه العموم في هذه الفترة العصيبة من تاريخ مصر. فبتوفير المدرسة لدروس الفنون الجميلة كلها سيكون لدينا جيل قادر على أن يخطو بنا خطوة إلى الأمام لا رِدَّةً ونكوصًا إلى الوراء كما نعيش في أيامنا هذه. عسى أن يكون ذلك عما قريب، والسلام،،،

donqol@hotmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف