أندريه جوسان: أكثر الكائنات ضرورة للحياة أحطها مرتبة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
أما فيما يتصل بالدراسات الاجتماعية فإن أشهر ما كتبه المؤلف كتابه عن علم الاجتماع الاقتصادي، ثم هذا الكتاب "طبقات المجتمع" الذي ترجمه للعربية أخيرا د.السيد محمد البدوي وصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة.
يشير جوسان إلى أن الطبقات تقوم في كل مجتمع سواء اعترفت بها الدولة أو لم تعترف وسواء أخضعتها أو لم تخضعها لتنظيم القانون. وهى تنشأ عن تغيير تلقائي في مستويات المعيشة وأنواع الحياة في المجتمع بسبب اختلاف الأعمال والمهن والتفاوت في الثروة أو الثقافة أو المواهب أو الفضائل. فإن اشترك عدة أفراد في مستوى المعيشة أو نوع الحياة كان عاملاً على تقارب بعضهم من بعض، وعلى إيجاد أنواع من الصلات والتعاطف فيما بينهم، وقد يكون ذلك بدافع الضرورة أو يدافع الحكمة وتشابه الأذواق.
ويقول "إن التكوين التلقائي للطبقات بل إن وجودها في جميع الشعوب، البدائي منها والمتحضر، يدل على أنه يستجيب لضرورات اجتماعية ثابتة ولحاجات دائمة. بيد أن الظروف التاريخية والأحوال الاجتماعية في بلد ما أو في عصر معين قد تؤدى إلى خلق طبقة جديدة أو تعمل على تطوير أو تدهور أو اختفاء كل طبقة على حدة.
ويوضح جوسان أن "هذا يعنى أن كل طبقة تقوم بوظيفة في المجتمع. وهذه الوظيفة هي مجموع الأعمال والواجبات التي تؤديها أو ما سماه "أرسطو" نشاطها الخاص، سواء أكان ذلك زراعة الأرض أو صناعة الأدوات والأسلحة أو إعداد الحرب وقيادتها أو التفكير أو التعليم أو الحكم الاتجار فى الحاصلات ونقلها إلى مكان الحاجة إليها أو على العمل على احترام قواعد القانون إلى غير ذلك من وجوه النشاط. ويختلف تقدير الناس لهذه الأعمال المختلفة تبعاً لما لها من فائدة ولما تؤديه من خدمات وليس أدل على هذه الحقيقة مما شاع فى المجتمعات القديمة من تقدير أو تحقير للعمل وفقاً للظروف التي عاش فيها كل مجتمع. إذ جاء على لسان "هزيون Hesiode" أن غضب الآلهة لا يقل عن غضب الناس من كل من يعيش بدون عمل. وليس هناك ما يعيب في أي عمل ولكن العيب هو ألا يعمل المرء شيئاً. وكانت هذه عقيدة الأثينيين فقد كانوا سكان بلد يدين برخائه لممارسة التجارة ولذا فقد أمر "دراكون dracon" ثم "صولون Solon" من بعده بتوقيع عقوبات على الكسالى العاطلين. أما في أسبارطة فقد كان الأمر على عكس ذلك. إذا لما كان سكان المدينة محوطين من كل جانب بأعداء أكثر منهم عدداً فقد اضطروا للتفرغ لأعمال الحرب كما أن الحكومة من جانبها جعلت سياستها أن يعيش المواطنون في حالة تقشف حتى لا يضعف الثراء من شجاعتهم أو يفسد أخلاقهم ولذا فقد حرم على المواطنين القيام بالأعمال التى تدر عليهم تحريماً تاماً ومن ثم ندرك مغزى ما قاله أحد الأسبرطيين حين سمع بتوقيع العقوبة على أحد سكان المناطق المجاورة لتعطله عن العمل "دلونى أين يوجد هذا الرجل الذي عوقب لأنه كان يعيش حراً". وحذت حذو اسبارطة مدن "تيسبيس Thespies"، و"طيبة Thebes" و"أبيدور Epidaure"، إذا كانت تعد ممارسة أى مهنة فقداناً لحقوق المواطنة. وقد يبرر هذه النظرة نوع الحضارة التي عاشت فيها هذه المجتمعات إذ كانت تضم بين ثناياها من العبيد والأجانب أكثر مما كانت تضم من المواطنين الأحرار ولذا تعين على كل مواطن أن يخضع لالتزامات مدنية وسياسية عدة ما كان يستطيع الوفاء بها أو أداءها على الوجه الأكمل إذا هو شغل نفسه بممارسة مهنة. وهذا بالذات هو ما دفع أرسطو إلى القول بأن "الإنسان الذي يحتاج أن يعمل لكي يعيش لا يستطيع أن يكون مواطناً". فالصالح الاجتماعي إذن هو الذي مال بالعقول إلى احتقار المهن اليدوية التي اشتهرت بأنها تفقد المرء حريته نظراً لقيام العبيد بها".
ويرى جوسان من هذا "أن الطبقات التي تستجيب أعمالها العادية لحاجات اجتماعية جوهرية يكون لها مركز الصدارة في الأحداث وفى الأذهان وفقاً لحالة الحضارة فى عصر معين. ففي حضارة علمية وصناعية كحضارتنا الحالية مثلاً يعد صيت النبلاء أثراً من آثار الماضي كما أن نفوذ رجال الكنيسة قد ضعف بكثير عما كان عليه النظام الملكي القديم. ولكن كبار رجال الصناعة أخذوا يحتلون مكان الصدارة فى المجتمع وأصبح للعلماء والأطباء والمهندسين ولطبقة العمال بصفة عامة من الأهمية ما لم يكن لها في أي زمن من الأزمان وعلى العكس من ذلك أى حينما كان العلم والصناعة والمعاملات المالية أموراً لا أهمية لها فى العصور الوسطى كانت الكنيسة والنبالة العسكرية تتمتعان بسلطة عريضة ونفوذ واسع. إذ كانت الأولى تقوم على خدمة الدين والعقيدة التي كانت متغلغلة إلى أبعد حد في النفوس، وكانت الثانية تقوم بحاجة الحماية والدفاع عن النفس فى وقت كانت الحاجة فيه إلى الحماية كبيرة".
يخرج جوسان من هذا كله بنتيجة أساسية وهى "أن الطبقات تختلف وتتنوع تبعاً لطبيعة الخدمات التي تؤديها وأنها تندرج في الأهمية بحسب قيمة هذه الخدمات.
ومع ذلك فإذا نظرنا إلى الأمور نظرة فاحصة وجدنا أن تدرج الطبقات لا يتوقف على عامل المنفعة وحدة، أي على أهمية الأعمال التي تؤديها كل طبقة من الطبقات المجتمع في مجموعة بل إنه لا يعتمد كل الاعتماد على التقدير الذي يكنه الناس لقيمة هذه الأعمال. فما من شعب يستطيع أن يستغنى عن القمح أو الأرز أو اللبن أو الجلد أو الصوف أو أي نوع آخر من أنواع السلع الاستهلاكية ولم يكن "أتيلا Attila" نفسه- أتيلا الحقيقي الذي لا ينطق تماماً على ما تصوره الأسطورة- لم يكن يخرب جميع البلاد التي تغزوها بل كان يقتصر على تدمير المدن، ويبقى على القرى حتى يستطيع أن يجد ما يغذى به رجاله وخيله. ولكن على الرغم من هذه الأهمية الرئيسية لطبقة الفلاحين فإنها لم تكن في يوم من الأيام الطبقة المهيمنة على مقاليد الأمور ولم يحدث هذا حتى في الصين نفسها وهى البلاد التي كان للفلاح فيها من الأهمية ما جعل الإمبراطور يشعر بالحاجة إلى أن يعلن على الملأ أنه الفلاح الأول في البلاد".
ويضيف "على ذلك فليست المنفعة وحدها هي المقياس الوحيد لقيمة الطبقة حتى ولو كانت موضع تقدير المجتمع بأكمله. بل يجب النظر بعين الاعتبار إلى الوظيفة ذاتها وأهميتها في البناء الاجتماعي. وليس من شك في أن أي بلد يستطيع أن يعيش وهو في غنى عن العلماء والفنانين والمشرعين، لكنه لا يستطيع أن يستغنى عن حارثي الأرض أو الحدادين. ومع ذلك فلم تكن طبقات العمال والفلاحين في أي يوم من الأيام أبرز طبقات المجتمع. وحتى فى روسيا السوفيتية نفسها وهى التي ادعت أنها أعطت المكانة الأولى لتلك الطبقات ورمزت لهذه المكانة بالمنجل والمطرقة وضعتها شعاراً على العلم الوطني للدولة، لا نزال نلحظ تدرجاً اجتماعياً كما كان الحال فى عهد القياصرة إذ، يحتل أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي وقواد الجيش والعلماء الرسميين ورجال الإدارة المكانة الأولى دون منازع".
هذه الظاهرة التي فرضتها طبيعة الأشياء هي التي يتناولها أندريه جوسان بالتحليل لتوضح حقيقتها، حيث يلاحظ "أن العالم الذي نعيش فيه يتضح له أنه يقوم على تدرج بين الكائنات. وأن أكثر الكائنات ضرورة للحياة أحطها مرتبة. فعالم المادة أو مملكة المعادن التى تعد أدنى مراتب الكون هى العماد الضروري لكل من المملكتين النباتية والحيوانية ولا تستطيع أفراد المملكة الحيوانية نفسها أن تستغني عن المملكة النباتية إذ أنها تعتمد عليها فى غذائها سواء تغذت بالنباتات أصلاً أو الحيوانات التي تعيش على العشب أو الحبوب والواقع أن وجود الوظائف الدنيا شرط أساسي لوجود الوظائف العليا. هذا قانون عام من قوانين الطبيعة. فلكي يستطيع الإنسان أن يفكر وأن يحس وأن يريد يجب أولاً أن تستنشق رئتاه الهواء وأن تهضم معدته الغذاء وأن يحقق قلبه بالنبض وأن يجرى دمعه فى عروقه وشرايينه. وإذن فحياته الزوجية وهى أسمى جانب من نشاطه مشروطة بحياته الحيوانية وهذه الحياة الحيوانية مشروطة نفسها بحياته العضوية. ولا يختلف الأمر عن ذلك فى المجتمعات الإنسانية. فحراث الأرض فيها والعمال والتجار شرط لوجود الحكام ورجال الدين والفلاسفة والعلماء. فهؤلاء فى حاجة إلى المحراث والعمال والتجار لتزويدهم بالغذاء والملبس والمسكن والأثاث وكل ما تتطلبه حياتهم المادية كما أنهم يعتمدون عليهم في تزويدهم بالسلاح اللازم للدفاع عن أرضهم وكيانهم. ومع ذلك فإن من يتقلدون زمام السلطة الزمنية أو الروحية هم الذين يحتلون المراتب العليا فى المجتمع على حين أن الفلاحين والعمال يكونون أو كانوا دائماً يؤلفون الطبقات الدنيا".
والسبب في ذلك في الواقع أن إرادة الحياة عند الأفراد والجماعات تتجه دائماً وجهة معينة وتهدف إلى تحقيق أهداف عليا، فـ "الأفراد والجماعات لا يجهدون في الاحتفاظ بالبقاء فحسب بل يحاولون أن يحققوا شكلاً معيناً من أشكال الحياة ويجتهدون للاحتفاظية في أسمى مظاهرة. ومن ثم بدت وظائف القيادة والتوجيه السياسي والديني والخلقي، بدت أكثر أهمية من وظائف الإنتاج والتبادل بالرغم من أن هذه الأخيرة أكثر منها ضرورة. وقد استطاعت الزراعة والصناعة خلال قرون طويلة أن تستغني عن العلم التجريبي، ولكن الحضارة التي وصلنا إليها والتي نتمسك بها اليوم تقوم على السكك الحديدية وعلى وسائل الملاحة التي تسير بالبخار أو البترول وعلى الطائرات والسيارات وخطوط البرق والتليفون وعلى الإنتاج الكيميائي وصهر المعادن وهذه الوسائل كلها يستحيل تحقيقها بدون العلم. كما أن هذه الحضارة تتضمن أيضاً قوانين ونظاماً اجتماعياً وعقائد فلسفية ودينية وقواعد أخلاقية لولاها لرجعت الإنسانية إلى حالة الوحشية والهمجية".
يخلص أندريه جوسان إلى أن كل مجتمع له مثل أعلى في الحياة يصدر بمقتضاه أحكامه ويرتب وجوه نشاطه. وبالقياس إلى هذا المثل الأعلى يضع المجتمع بطريقة لا شعورية أو عن إدراك تام لطبيعة الأشياء- إحدى الطبقات في مكانة أسمى بما تحتله الطبقات الأخرى. ويستمد هذا المثل الأعلى طبيعته وقوته من نزعة طبيعية تميل بالطبقات الدنيا إلى محاكاة الطبقات العليا ويجعلها تكف عن هذه المحاكاة بالرغم من ضروب الصراع والمنافسة القوية التي تنشأ فيما بينها. فلا زلنا نرى فى أيامنا هذه أن طبقة العمال تطمح في أن تتخذ لنفسها مظهراً بورجوازياً بالرغم من العداء الذي تبديه للبوجوازية.
ولا شكل أن من الرغبات المشروعة للعمال أن يتمتعوا بمستوى معقول من الرفاهية، وأن يكون لهم من الاعتبار ما للطبقات الأخرى، وأن يشعروا مثلها بنوع من الأمن بالنسبة لغدهم وأن يتمكنوا من الاحتفاظ بجزء من دخلهم يستعينون به على عاديات الزمن؛ كما أن من حقهم أن يتخلصوا من الشعور بأنهم قافلة من القوم الرحل استقرت على رقعة من أرض الدولة التي ولدوا فيما حيث تتطلب دواعي العمل، وذلك بعد أن فعلت بهم السياسة الأفاعيل وصورتهم على أنهم جزء غريب عن جسم الدولة. فشعور العمال بالنقص والدونية وعدم الثقة والحقد والحسد، كل أولئك يرتبط بهذه الرغبة المشروعة في الارتقاء الاجتماعي، بل نستطيع أن نرى فى طموحهم للاستحواذ على السلطة مظهراً من مظاهر تطلعهم للتشبه بتلك الطبقات الحاكمة التي يثورون ضدها.
إذا تعمقنا إذن جوهر الظواهر وجدنا أن هناك تدرجاً في الوظائف يتضمن- لممارستها المشروعة- عدداً من القدرات والفضائل المحددة، ووجود هذه القدرات والفضائل عند الطبقات الموجهة لدفة الأمور واعتراف الطبقات الأخرى بها هو الأساس الذي تقوم عليه السلطة والنفوذ. وما كانت جميع الطبقات الاجتماعية التي وصلت إلى مراكز الحكم بصفتها الطبقية كطبقة رجال الكنيسة وكبار النبلاء وأثرياء البورجوازية- ما كانت هذه الطبقات لتصل إلى ما وصلت إليه من سلطة ونفوذ إلا على أساس الاقتناع الذي ملأ نفوس الشعب بأن الكهانة والنبالة والبورجوازية الثرية ترتبط بفضائل خلقية معينة كالتقوى والإحسان والشجاعة والكرم والتحمس للعمل ولمصالح الجماعة؛ كما أنها لا تنفصل عن قدرات اجتماعية مفيدة تقوم على معرفة الله ومعرفة الواجبات الإنسانية وإتقان فن قيادة الجيوش والنجاح فى المشروعات إلى غير تلك من الأمور التي تبرر في نظر الشعب حق هذه الطبقات في إدارة الشؤون العامة والهيمنة على أمور الدولة.
ويترتب على ذلك حقيقة هامة وهى أنه إذا كانت المكانة التي يحتلها إحدى الطبقات فى المجتمع ترتبط بالوظيفة التي تؤديها وبالدور الذي تقوم به فإن الاعتبار إتقانها لهذه الوظيفة وعلى قيامها بواجبها في إخلاص وكفاية. وأنها تعرض نفسها وتعرض المجتمع بأكمله للخطر إذا نسيت وظيفتها وواجباتها وانصرفت إلى التفكير فيما يعود عليها من مغانم عن طريق الوظيفة. ويزودنا التاريخ بأمثلة كثيرة لطبقات وفئات اجتماعية أغراها الطمع فوقعت في هذا الخطأ.
فبالرغم من المنافع الاجتماعية التي تؤديها عادة كل طبقة فإنها تميل أحياناً إلى أن تشبح بوجهها عن التضامن الذي يربطها بالطبقات الأخرى وتنسى المصالح التي تؤديها هذه الطبقات إلى رخاء البلد وعظمته. وهى في هذه الحالة، في الواقع، تندفع وراء رغتها في الاحتفاظ بكيانها تحدوها رغبة في الحياة وقوة دافعة لا تنفق دائماً مع ما يسود المجتمع، في مجموعه، من اتجاهات وميول. ومن الأمور ا لمتفق عليها أن الأهواء والميول الأنانية تفوق في قوتها العواطف الغيرية والاتجاهات المنزهة عن الغرض. فالحكماء والأبطال والقديسون في أي عصر من العصور قلة نادرة. فكل طبقة إذن أنانية بطبعها وتنزع بفطرتها إلى أن تمنع عن الآخرين ما تتمتع به من مزايا خشية أن يقلل ذلك من قيمة ما تتمتع به. ولذلك فإن التوسع في منح حق المواطنة للأجانب في أثينا وفى روما قد اصطدم بمقاومة الطبقات الدنيا له مقاومة عنيفة. ولم يكن السبب الوحيد لهذه المقاومة في أثينا هو أن حق المواطنة كان يؤدى إلى حق امتلاك الأرض مما كان يعرض الأثينيين لانتزاع أراضيهم منهم وإعطائها إلى الأجانب الذين حصلوا على الجنسية، بل كانت أيضاً بسبب توزيع حصيلة الضرائب التي تفرض على الأغنياء لصالح الفقراء إذ كان هؤلاء يحصلون على نصيب أكبر كلما قل عددهم. أما في روما فلم تحفل طبقة الشعب بأن تقتسم القمح الذي كان يوزع مجاناً أو بأثمان مخفضة أو غنائم الحرب أو الأراضي التي تمنحها الدولة، لم تحفل بأن تقتسم ذلك مع الإيطاليين الذين تمنحهم السلطات حق المواطنة. وقد وقفت طبقة الشعب فى فرنسا قبل الثورة موقفاً عدائياً مماثلاً من النبلاء حين طلب هؤلاء أن يمنحوا حق ممارسة التجارة وكان هذا الشعور نفسه يسيطر على النقابات المهنية فى دويلات الأراضي المنخفضة الديمقراطية التى وصفها "هنرى بيرين Pirenne" وصفاً دقيقاً. فكانت كل مهنة فى ظل هذا التنظيم الديمقراطي تنطوي على نفسها بزعامة رئيس كما كان الحال فى الأسرة الرومانية وكانت خدمات الطائفة لا تتعدى نطاق أعضائها مما يجعلها تنصرف فى أنانية نحو كل من لا يمت بصلة كما كانت كل نقابة تتمسك بامتيازاتها ولا ترضى بها بديلاً.
هذه الأنانية الطبقية لا تلبث أن تغدو من أساليب تدهور الطبقات واضمحلالها: ذلك أن كل طبقة تتوقع عن التعاون مع الطبقات الأخرى تصبح في عزلة عن بقية المجتمع الذي لا يلبث أن يناصبها العداء وتجهد مدفوعة بأنانيتها فى أن توسع نطاق امتيازاتها أو تحتفظ بها دون انتقاص، وذلك فى الوقت الذي تصبح فيه الخدمات التي تؤديها لا تعادل ما تتمتع به من امتيازات. وينتج بالضرورة عن هذه الأنانية أنواع التنافس والصراع الاجتماعي بين الطبقات.
ومما يعرض الطبقة التي تسيطر على الأمور أو التي تشعر بأهميتها للخطر هو أن تستغل نفوذها استغلالاً سيئاً أو تنتهز فرصة حاجة الطبقات الأخرى إليها لكن تبسط نطاق المزايا التي تتمتع بها. ومما يعرضها للخطر كذلك أن تمهل فى أداء وظائفها التي اختصت بها أو تتركها وتظل تدعى لنفسها الاحتفاظ بجميع الامتيازات التي خولتها لها خدماتها التي توقفت. وقد كان هذا سبب تدهور النبلاء فى أواخر النظام الملكي القديم وسيكون سبب تدهور أي طبقة أخرى إذا وصلت على مركز ممتاز في أى ناحية من النواحي، ثم وجهت همها لزيادة ما تتمتع به من الامتيازات دون أن يكون هناك ما يقابلها من الخدمات: فتتدهور البورجوازية مثلاً إذا لم تحاول أن تفهم أن الثراء يحملها واجبات وتبعات. وتفقد طبقة العمال كل عطف إذا أخذت تطالب كل يوم بزيادة أجورها مهددة بالإضراب وأخذ إنتاجها يضعف يوماً عن يوم ولم تراع ضميرها فيما تعمل وأصبحت تعمل فى كسل وإهمال.
ومن الأخطار التي تهدد الطبقات كذلك أن يحاول بعضها محاكاة بعض في غير تبصر أو تعقل. فقد رأينا أن الطبقات التي لاحظ لها من الصيت والنفوذ تحاول أن تتخذ من الطبقات العليا نموذجاً تحذو حذوه فتحاول أن تتمتع بما تتمتع به من وسائل الترف وأنواع اللهو أو تحاول أن تقتبس شيئاً من عاداتها أو تكتسب شيئاً من ثقافتها. وقد قلنا إن محاكاة الطبقات بعضها بعضاً ييسر تبادل الثقافة فيما بينها. فعن طريقها استطاع النبلاء والبورجوازيين أن يزودوا أنفسهم بالمعرفة والعلم اللذين ظلا وقتاً طويلاً وفقاً على طبقة رجال الكنيسة. كما أن قواعد التأدب والتهذيب التي اتصف بها كبار الأساقفة والنبلاء هبطت شيئاً فشيئاً عن طريق المحاكاة إلى مستوى البورجوازية، ثم إلى الشعب.
ولكن هذه المحاكة المتبادلة بالرغم من مزاياها العديدة تحمل أيضاً في طياتها أخطاراً كثيرة. فالطبقة التى تحاكى أخرى قد تقتبس عاداتها السيئة وعباراتها المرذولة وعيوبها ومفاسدها، كما تأخذ عنها حسن المظهر والوجاهة وأناقتها في التعبير وصفاتها الفاضلة. ومن قبيل ذلك ما لوحظ من اقتباس أفراد المجتمع الراقي لكثير من المصطلحات السائدة في الأوساط الشعبية والعمالية "L'argot"، وما لوحظ من إدمان بعض أفراد البورجوازية للخمر كحالة الشعب، وذلك باقتباس عادة تقديم "الكوكتيل" فى كل مناسبة، ولسنا في حاجة لأن نذكر محاكاة السيدات الأعمى وولع رقيقات الحال منهن بمحاكاة سيدات الطبقات الغنية فى ملبسهن وزينتهن وطريقتهن فى تصفيف الشعر الخ..
فى مثل هذه الأحوال يمكن القول بأن ما يهدد إحدى الطبقات بالخطر حين تحاول الارتقاء وتحسين مركزها هو أن تحاكى الطبقة العليا التي تحاول الاندماج فيها أو احتلال مركزها فى نقائصا ومفاسدها بدلاً من أن تحاكيها فى ميزاتها وفضائلها؛ فتتخذ البورجوازية مثلاً النبالة نموذجاً لها في تقليد بحوثها وادعائها وطموحها دون أن يكون لها اعتزازها بالشرف وسماؤها الأصيل. ولا تختلف عن ذلك حالة "محدث النعمة" الذي يبعثر المال يمنة ويسرة دون أن يستطيع بذلك أن يتخذ مظهر "النبيل ذي القلب الكبير". كما أن طبقة العمال قد تتخذ البورجوازية نموذجاً لها وذلك بالسعي وراء المتعة والرفاهية دون أن تهتم باكتساب ما للبورجوازية من روح التدبير والاقتصاد وما اشتهرت به من الوعي المهني والاستقامة.
يرجو جوسان أن يتحقق لهو عكس هذا على التحديد: إذ يرجو أن يكون النموذج الذي تتخذه كل طبقة من محاكاتها للأخرى قائماً على اقتباس الفضائل التي ترى أنها تنقصها أو التي لا تتمتع منها إلا بحظ ضئيل، وأن تسود هذه القاعدة جميع الطبقات، العليا منها والدنيا. وهذا الأمل لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان القائمون على رأس الدولة أنفسهم قدوة لغيرهم بحيث يرسمون لهم المثل الأعلى الذي يحتذونه، وينالون من احترام الغير بما لهم من كفاءة واستقامة وما يحرصون عليه من حب للحقيقة والعدالة وإخلاص للصالح العام وإنكار للذات.