ثقافات

جديد محمد لفتح: "المعركة الأخيرة للكابتن نعمت"

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

عبد الله كرمون من باريس: لن يُصدم الذين اطلعوا على كتابات محمد لفتح السابقة عند فتحهم لروايته المنشورة مؤخرا "المعركة الأخيرة للكابتن نعمت". لا تكتفي المعركة هنا بدلالتها المباشرة لوحدها، بل تمتد إلى حقول رمزية أخرى، سوف نتعرف على بعضها فيما يلي.
لا بد من التذكير بـأن الكاتب قد رحل عن عالمنا منذ ثلاث سنوات تقريبا، وقد تكون روايته الحالية، إذا أخذنا إحدى المصادر مأخذ الجد، هي آخرها على الإطلاق.
يشير التاريخ الذي وقّعت به الرواية إلى مقتبل سنة 2006، قبيل سنتين من رحيله. إنها ثاني رواياته التي توقع بنفس التاريخ من شهر وسنة، بالإضافة إلى أن مجموعة قصصية أخرى له قد أُرخت بالسنة نفسها؛ وهي الكتاب الرابع له على مستوى التفرد بالتأريخ، إذا أضفنا رواية أخرى نشرت سنة 2009 وتم تأريخ التفرغ من كتابتها بسنة 1997، وذلك من أصل عشرة كتب صدرت له حتى الآن إذا شمل تعدادنا الرواية الحالية.
قد يكون مبالغة مني _أو ربما حقيقا بي_ أن أطالب بوضع مقدمات توضيحية لمثل هذه الأعمال التي تصدر بعد رحيل أصحابها، مثلما أشرت إلى ذلك في السنة الماضية بخصوص كاتبنا ذاته، يتم فيها، على الأقل، إخبار القراء والمهتمين بالحالة التي تواجد عليها النص قبل نشره ؛ هل كانت هناك وصية من طرف الكاتب بشأن مخطوطاته؟ هل صحح النص بنفسه أم اضطلع بذلك شخص آخر (وإن وُجد، فمن يكون)؟ هل وقع الكاتب عقودا كثيرة مع دار لاديفيرونس لسنوات؟ إلى غير ذلك من أسئلة محيرة!

لن أتمادى في النبش على هذا المنوال في ال"لماذا" وفي "الكيف"، وإلا استغرق حديثنا في ذلك استغراقا، وأهملنا الرواية التي هي موضوعنا الحالي.
لعل هذه الرواية هي من أكثر روايات لفتح كلاسيكية. أقصد بهذا أن الكاتب عمد فيها عموما إلى سلطة السرد. بل إنه ضحى من أجل الحكاية بالكثير من العناصر التي كانت تميز كتابته عن غيره من كتاب جلدته المبدعين بالفرنسية. صحيح أن سمو اللغة ما يزال ميزتها، غير أن العارف بسابق كتابات الرجل سوف يفطن سريعا إلى فرق ما بينها.
إذا ما تحدثت عن الصدمة في البدء فلأنني أردت بذلك الإشارة إلى مضمون الرواية. ولمحت إلى أن من تعود على الموضوعات القريبة إلى نفس لفتح، ربما لن تصدمه كثيرا رواية خصصت بكاملها إلى موضوع المثلية!
وقد تأرجح لفتح بشأنها في هذا النص بين تفسيرين متناقضين، في الوقت الذي لم يأبه فيه كثيرا وفي رواياته الأخرى بتبرير حديثه عنها.
أولا: اعتباره لمثلية بطل روايته الكابتن نعمت الطارئة متأتية من حرب 67 التي شارك فيها كطيار عسكري، وأن الهزيمة قد صارت بهذا المعنى فقدانا للرجولة.
ثانيا: إن المثلية التي انزلق إليها نعمت في خريف عمره لوثة سيئة، لم يدرك بنفسه كيف ولماذا انقاد إليها، ومن أين جاءته؟ بغض النظر عن التعليل الذي سمعه من كون عضو البروستات يصير حساسا جدا بعد سن الخمسين ؛ ما يبرر نوعا النزوع إلى تلك الميول!
يتعلق الأمر الثالث بتناقض ضمني يوحي به جانب من النص يمكننا أن نستشفه من انتقاد البطل للمجتمع الذي يعيش فيه، والذي يعادي ويرفض بالبات والمطلق كل انحراف جنسي عن العادة. ويعتبر المفعول به (خوالة بالمصري) جيفة ينأى عنها المرء مسيرة أربعين ألف عام!
ثم أنه أفرد نقدا خاصا لفئة سياسية ودينية بعينها، هي الأصولية التي حولت المجتمع، في نظره، أبعد من شأن المثلية، إلى مدى غامق وحزين، كبحت فيه المباهج والمسرات التي تشكل في الواقع صلب الحياة وأحد أجمل مبررات وجودها.
بهذا المعنى إذن يسهل تلخيص رواية لفتح هذه في سطر واحد، ما لم يكن ممكنا أبدا بشأن رواياته السابقة. إنها بهذا المعنى إذن حكاية المعركة الأخيرة للكابتن نعمت، والتي باءت بالفشل الذريع مثل معاركه أو فقط معركته السابقة.
لا يمكن أن ننكر كون الرواية تشد القارئ إليها شدا، في رغبة ملحة منه في التعرف على مجرياتها. غير أن إحساسا معينا، مبهما بالنسبة لي، قد رافقني خلال قراءتها. ليس فقط لأنها لم تعد تشبه تماما رواياته الأخرى، ولكن ربما لأنها ركزت على موضوع واحد، منقطعة به عن مشاغل العالم الأخرى. بالرغم من أن نقد أفكار الظلام، وإحياء ذكرى أبي نواس هما أمران جميلان، غير أنهما لا يكفيان، في نظري، لتبرير إفراد نص روائي بكامله للحديث عن علاقة مثلية، وفوق ذلك اعتبرتْ، في أكثر من مكان في النص، بأنها لوثة تحتاج إلى علاج!
انسابت حياة الكابتن نعمت في روتينيتها، حتى اليوم الذي اضطر فيه فتيان صغار إلى التردد على مسبح الكبار الذي يرتاده نعمت في حي المعادي، خلال الفترة التي يُصلح فيه المسبح المخصص لهم. تأمل حينها أجسادهم الغضة في نضارتها، واستشعر في نفسه ميلا غريبا إليهم، وتغنيا نفسيا مبهما بمحاسنهم. خلال تلك الليلة رأى في منامه رؤيا إيروسية زكت لديه رغبات دفينة.
انتبه حينها لوجود إسلام تحت إمرته، خادمه النوبي الشاب، الذي استدرجه سريعا لأن يحقق له ما فضحت نظراتُه إلى صبيان المسبح، ومجريات الحلم، كبتَه له.
إن أولى انعكاسات انفضاح أمره تراجيدية. طُرد الغلام من الفيلا، ثم غادر بنفسه البيت والزوجة، وقد باءت كل محاولاته لدرء الصدع بالبطلان. وما نفعت شفاعة شيماء صديقة الزوجة في شيء.
سوف يعاود نعمت مع الغلام نفسه أمر رغباتهما في شقة حقيرة بحي "الفجالة" الشعبي حيث استقر. تناهت كلمات خطبة الجمعة إليهما من الجامع القريب، في الوقت الذي كان إسلام يعتلي فيه يوما ظهره، وترددت فيها لفظة الجحيم مرات كثيرة!
إن همّ محمد لفتح هنا هو التعرض مرة أخرى لمحرم فظيع من محرمات المجتمع. بل أكثر من ذلك لحالة نفسية فريدة، أشرنا أعلاه إلى خصوصيتها. فإذا كان انبطاح نعمت جنسيا قدام خادمه النوبي أمرا طارئا، فإن إتيان هذا الأخير لسيده من الدبر أمر حدثٌ أيضا. خاصة وأنه اعترف لنعمت بأنها أول مرة بمارس فيها الجنس مع بشر، لأن إسلام قد نكح البهائم سابقا في بلدته النوبية قبل أن يستبيح ظهر العسكري نعمت!
هل شاء لفتح أن يكتب بهذا رواية مصرية صرفة؟ وأن يوفي أرضا أقام فيها لزمن حقها، مثلما فعل مع باريس والبيضاء؟
سبق له أن تعرض لمصر ولحياته فيها، وبشكل خاطف، في قصص قصيرة سالفة، غير أنها هي المرة الأولى التي يفرد لها كتابا بكامله، بل عن بعض حواريه وأحيائه فقط.
إن نص لفتح هذا يبعث، نوعا، على الاستفهام. ما الداعي حقيقة إلى كتابة قصة رجل استشعر جنوح ذاته إلى المثلية السلبية؟ هل في الأمر شيء من سيرة الرجل؟ أم هل انتشى فقط يوما بخيالات تلك المغامرة أو المغامرات دون أن يخوض فيها؟
ندرت مع ذلك تأملات لفتح في هذا النص، خلافا للنصوص الأخرى، حول أمور مختلفة. إذ ظل يحيط حول واقعة واحدة بعينها. فإذا كان نعمت قد جعل من المثلية لوثة سيئة بنفسه، فكيف يبحث لدى الآخرين عن مواثيق قبولها؟
رصف الكاتب في الرواية أسماء مختلفة لابد أنه يعشق جرسها ومعانيها، غير أن خياله لم يجنح في ذلك كعادته. مثل: ميرفت، شيماء، فيحاء وغيرهن.
كتب على لسان الكابتن نعمت ما يلي، موضحا ما تواضع عليه مع إسلام الذي سماه خلال وقت ما باسم قريته كوم أمبو، بالرغم من كون الغلام قد انتفض يوما لما ناداه بهذا الاسم مشيرا له بأنه ليس بلدة كي يناديه بذلك الاسم:
"أيتها السماء المبهمة، كوني رحيمة، واقبلي اسمينا الجديدين، اسمي حيوانيتنا، اسمينا البريئين، اسمينا المقدسين، إننا كتمساح وصقر، نعيش حبا غريبا ومهولا!"
هكذا إذن تحول نعمت الذي كانت تناديه زوجته ميرفت بالصقر في أولى عهود زواجهما، من صقر إلى تمساح منبطح. لم تكن نزوته عابرة بتاتا. إنها تحول جذري إلى عالم بهيمي، يأخذ فيه اسما حيوانيا.
تبعه الرقيب مرة أخرى إلى مسكنه الجديد، كي يخط تهديداته على خشب الباب. ما اضطر إسلام، على إثرها، إلى أن يغادر، نهائيا، نعمت. ليركن هذا الأخير إلى شجون معركته الأخيرة التي يداريها باليوميات يخطّها، وبسكْر فادح، يؤنس عزلته الفظيعة!

kermounfr@yahoo.fr

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف