ثقافات

من أفلام السيرة (3): ناسخة بيتهوفن: حين تغيرت الموسيقى الى الأبد

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

سعد هادي: لا تختلف الصورة التي يقدمها فيلم "ناسخة بيتهوفن Copying Beethoven 2006" عن الصورة التقليدية المعروفة لأعظم مؤلف موسيقي عبر العصور، إنه فظ، نصف مجنون، متعجرف لا يطيقه أحد، صريح حد الموت، أحاله صممه الى ما يشبه الوحش، يصفه إبن أخيه كارل بأنه وغد قذر، لايمكن ردعه عن شيء، إنه أحد قوى الطبيعة، ومن جانب آخر مناقض تماماً لصورته الإنسانية يصوره فيلم المخرجة البولندية "أنيشيكا هولاند" بإعتباره أكبر مجدد في تاريخ الموسيقى، عندما يعتلي المنصة ليقود الأوركسترا التي ستعزف سيمفونيته الأخيرة، "التاسعة" يهمس لنفسه: ستتغير الموسيقى من الآن الى الأبد، ويقول في مشهد آخر لصاحب الحانة التي يتردد عليها: إنها السيمفونية الوداعية لعملي الموسيقي، إنني أبدأ فصلاً جديداً من حياتي، أشكال جديدة، لغة جديدة، أما حين تبدي له ناسخته "أنا هولتز" إمتعاضها من عمله الموسيقي الثوري الـ(غروس فيوغ- Gross Fugue) والتي تعد من أعظم رباعياته الأخيرة وأصبحت مصدر إلهام لموسيقي المستقبل، يرد عليها بشكل غريب: نعم إنها قبيحة، ولكن أليست جميلة؟ ويضيف: إنها تتحدى إحساسك بالجمال، من خلالها سأفتح باباً أمام الموسيقى للقبح وللأحشاء كي يخاطبان المشاعر، إنها لغة جديدة أخترعها، ثم يقول لها في مشهد لاحق: إنها جسري الى مستقبل الموسيقى، إن إستطعت عبوره ذات يوم ستتحررين، هيا لننسخها كي نرى العالم فيها، ولكن هذه القطعة تفشل فشلاً ذريعاً عند تقديمها للمرة الأولى في حفل خاص ويقول له الأرشيدوق: أنت أكثر صمماً مما توقعت. فلا يتحمل بيتهوفن (الممثل الأمريكي إد هاريس) الصدمة ويسقط على الأرض لتبدأ المرحلة الأخيرة من حياته التي تنتهي بوفاته في 26آذار 1827: مرحلة الصمم المطبق والمرض والعزلة. حين تعود "أنا هولتز" الى فيينا وتستعيد مقاطع الـ"الفيوغ" أثناء مرور العربة بين مناظر ريفية ووجوه فلاحين ورعاة وموسيقيين متجولين، تقول لبيتهوفن المحتضر كأنها تواسيه: لقد سمعتها، سمعت الفيوغ كما تسمعها أنت، إنها ساحرة، ولكنها يرد عليها كأنه في عالم آخر: أنا أسمع العاصفة، إنه آت ليأخذني.
يصور فيلم "ناسخة بيتهوفن" وقائع الأيام القليلة التي سبقت تقديم السيمفونية التاسعة في عام 1824، تلك الأيام المشحونة التي يعجز فيها ناشر بيتهوفن عن مجاراته في نسخ المدونة النهائية للسمفونية الحافلة بالإشارات والحذوف والإضافات بسبب إصابته بالسرطان ثم بسبب كراهيته الخفية لما يحدثه بيتهوفن من تغييرات في السياق الموسيقي السائد والذي سيبعد الجمهور عنه، يناشد أصدقاءه في معهد الموسيقى لكي يرسلوا له أفضل الطلاب لمعاونته في مواجهة العواصف المتتالية التي يحدثها بيتهوفن، ولكنهم بدلاً عن ذلك يرسلون له فتاة جميلة في الثالثة والعشرين هي "أنّا هولتز(الممثلة الألمانية ديان كروغر) وأثناء حديثه معها، وبينما يسخر مما فعله بيتهوفن بإدخاله للأصوات البشرية للمرة الأولى في الحركة الأخيرة من السيمفونية مؤكداً أنه فقد صوابه (يقول في مشهد آخر :كأن روحه أصابها الصمم، لم يعد يصغي لأحد) يقتحم بيتهوفن المكان في ثورة غضب، يسأل ناشره: ماذا تفعل؟ فيجيب: أنا أحتضر فيصرخ هو: وأنا أصلب. ثم يطلب منه أن يصحح المسودة ويحضرها الى منزله، فلا يجد شليمر مناصاً من إستخدام "أنّا" التي تبدأ بالنسخ فوراً بينما تتردد من حولها أصوات السيمفونية، وترافقها تلك الأصوات في طريقها الى منزل بيتهوفن، تجد الباب مفتوحاً وقد أشعلت الشموع في كل مكان بينما يستغرق الموسيقار في إعادة صياغة اللحن الذي وضعه لنشيد الفرح لـ"شيلر" والذي سيغنيه الكورال، يجلس بيتهوفن الى البيانو وقد وضع حول رأسه ما يشبه الدرع المعدني لتركيز الصوت، يرفض إستخدام الفتاة في البداية ولكنه حين يكتشف أنها صححت إحدى أخطائه في المسودة، يسألها: لم فعلت ذلك؟ فترد: أنت تعمدت ذلك الخطأ إنه فخ. وحين تقول له أنها تحلم بأن تصبح مؤلفة موسيقية يجيبها بفظاظة: المؤلفة الموسيقية كالكلب الذي يسير على قدميه الخلفيتين، لا يحسن السير ولكن تدهشك رؤيته. عندما تعود "أنّا" الى دير راهبات القلب الأقدس الذي تقيم فيه، تسألها إحدى الراهبات ممن يصفهن هو بأنهن أسوأ من القطط: لماذا تأخرت؟ فتقول أنها حصلت على عمل مع بيتهوفن، فتصرخ الراهبة: الكاثوليكي المنشق، لقد كادت الكنيسة أن تطرده، ماذا ستتعلمين منه: السكر، التجديف، الهرطقة؟ وبعكس ذلك فنحن نكتشف طوال الفيلم الإيمان العميق لبيتهوفن، الإيمان بوحدة الوجود، وسمو الإنسان، وبأنه كموسيقار ذا رسالة سماوية، وأن عزلته هي إحدى أسرار إبداعه، يقول لأنا: العزلة هي ديانتي، نحن الموسيقيون أقرب ما نكون الى الله.، وفي مشهد آخر يقول لها: أنا شخص يصعب التعامل معه ولكن ما يواسيني إن الله خلقني هكذا.
وبرغم تصرفات بيتهوفن القذرة مع أنّا وإحتقاره لها (من ذلك إظهاره لمؤخرته حين يحدثها عن سوناتته: في ضوء القمر أو ترديده لمقاطع معزوفتها بشكل فضائحي واصفاً إياها بإطلاق الريح موسيقياً) تستمر هي بالعمل بشكل حثيث طوال الأيام التالية لإكمال نسخ مدونة السيمفونية، بينما يصر هو على قيادة الفرقة الموسيقية مع صممه وسط تذمر العازفين من أخطائه القاتلة وعدم قدرته على ضبط الإيقاع، ويصل الأمر الى طريق مسدود في ليلة تقديم السيمفونية التي يحضرها كل الموسيقيين في فيينا، فكل الدلائل تشير الى أن كارثة مرعبة ستقع، يجلس بيتهوفن حزيناً بإنتظار معجزة تنقذه من ورطته، وفجأة يأتي الحل من أنّا، تختبيء بين الموسيقيين لتقيس له الوقت وتحدد له المداخل بينما يعتلي هو المنصة، وفي أجمل مشاهد الفيلم يجري ما يشبه أن يكون عملية آيروتيكية رمزية بين الموسيقار وناسخته بينما تتردد من حولهما أنغام الموسيقى السماوية، المحسوسة بالنسبة للجميع والمتخيلة بالنسبة لمبدعها الأصم، وفي لقطات سريعة كبيرة جداً تتناوب بين الوجهين المنفعلين والمجهدين والمتأملين نلمح صورة جديدة للحب الإنساني، إذ يبدو بيتهوفن الذي يقدم أعظم أعماله في هيئة العاشق، بينما تبدو أنّا مثل معشوقة صامتة في حضرة أستاذها، حوار بين كائنين معذبين كان من المستحيل أن يلتقيا في مكان وزمان آخرين، في ما بعد سيقول بيتهوفن لأنّا: أنت مفتاح حريتي ويطلب منها أن تغسل جسده مستسلماً الى الموت القادم مؤكداً أن العالم لن يحتاج الى بيتهوفن مجنون آخر.، في ذلك المشهد( مشهد تقديم السيمفونية) يعود الى إنسانيته، الى ضعفه وغرائزه وعزلته، يبدو كائنا بشرياً لا تميزه عن الآخرين سوى عبقريته الموسيقية. أنه خاضع لشروط اللعبة الإنسانية وعليه أن يستسلم لها برغم عنجهيته. في مشهد سابق كان بيتهوفن يتجول في غابة "كالتبرغ" وحيداً حاملاً بوقاً يصغي من خلاله الى أصوات الطبيعة، كما يتأمل خلال لحظات طويلة من الألم والحزن أنغام سيمفونيته، إن رأسه كما يقول مليء بالموسيقى ولن يستريح الا بتدوينها، ولكن بينما يتمتع العالم كله بتلك الموسيقى يعجز هو عن سماعها.
مخرجة الفيلم البولندية (أنيشيكا هولاند)، ولدت في وارشو عام 1948، درست السينما في تشيكوسلوفاكيا، ومارست كتابة السيناريو الى جانب عملها الإخراجي الذي بدأته عام 1977 بفيلم "إختبارات سينمائية" ، من أبرز أعمالها كتابتها السيناريو لفيلم مواطنها أندريه فايدا: دانتون 1982، وإخراجها لفيلم "أوربا أوربا" 1991(وقد رشحت لجائزة الأوسكار عن كتابتها للسيناريو) إضافة الى إخراجها لفيلم "الحديقة السرية1993، عن رواية للكاتب فرانسيز بيرنيت.
أما سيناريو فيلم "ناسخة بيتهوفن" فقد كتبه الثنائي ستيفن ريفيل وكريستوفر ولكنسون ولهما تجارب ناجحة عديدة من قبل من أبرزها: "نيكسون" إخراج أوليفر ستون و"علي" عن حياة الملاكم محمد علي كلاي للمخرج مايكل مان.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
بتهوفن امريكي
مقداد عبدالرضا -

شخصيا وعلى الرغم من عزوفي عن مشاهدة الانجاز الامريكي السينمائي لانه انجاز ورقي لكني اقدر كثيرا اداء الممثل اد هارس .. لكنه للاسف لم يوفق في تجسيد في الاقل الانجاز الهائل الذي قدمه بتهوفن طيلة مسيرة حياته .. لقد كان اداءا بائسا تماما ومفتعلا ,, احسب ان السينما الامريكية ليس من اختصاصها تجسيد الانجاز الكبير والمهم لما قامت به البشرية على مد التاريخ .. اخرها كان الحب في زمن الكوليرا الذي جاء امريكيا صرفا اطاح بشحنة الرواية المهم .. منذ زمن الاخوة كرامازوف ( حسب مشاهداتي ) والى حد هذه اللحظة لم تستطع السينما الامريكية ان تقترب حتى من ادبها الامريكي ومثالا على ذلك تسطيحها لاعظم انجاز روائي قام به وليم فوكنر ,,, الصخب والعنف ,,, السينما الامريكية في عمومها سينما صيف وكوكا كولا ,,, على الرغم من احترامي الكبير للجهد الكبير الذي انجزه لي سترسبوغ وايليا كازان في ستديو الممثل وتخرج وجبة مهمة من الممثلين والممثلات من ذلك البيت .شخصيا اتوقف امام انجاز الافلام الموسيقية الاستعراضية التي قدمتها هوليوود والفضل يعود في ذلك الى شركة مترو كولدوين ماير والى اعظم راقصي هذا النوع الاستعراضي ,, جين كيلي ,, فريد استير .. تقديري

بتهوفن امريكي
مقداد عبدالرضا -

شخصيا وعلى الرغم من عزوفي عن مشاهدة الانجاز الامريكي السينمائي لانه انجاز ورقي لكني اقدر كثيرا اداء الممثل اد هارس .. لكنه للاسف لم يوفق في تجسيد في الاقل الانجاز الهائل الذي قدمه بتهوفن طيلة مسيرة حياته .. لقد كان اداءا بائسا تماما ومفتعلا ,, احسب ان السينما الامريكية ليس من اختصاصها تجسيد الانجاز الكبير والمهم لما قامت به البشرية على مد التاريخ .. اخرها كان الحب في زمن الكوليرا الذي جاء امريكيا صرفا اطاح بشحنة الرواية المهم .. منذ زمن الاخوة كرامازوف ( حسب مشاهداتي ) والى حد هذه اللحظة لم تستطع السينما الامريكية ان تقترب حتى من ادبها الامريكي ومثالا على ذلك تسطيحها لاعظم انجاز روائي قام به وليم فوكنر ,,, الصخب والعنف ,,, السينما الامريكية في عمومها سينما صيف وكوكا كولا ,,, على الرغم من احترامي الكبير للجهد الكبير الذي انجزه لي سترسبوغ وايليا كازان في ستديو الممثل وتخرج وجبة مهمة من الممثلين والممثلات من ذلك البيت .شخصيا اتوقف امام انجاز الافلام الموسيقية الاستعراضية التي قدمتها هوليوود والفضل يعود في ذلك الى شركة مترو كولدوين ماير والى اعظم راقصي هذا النوع الاستعراضي ,, جين كيلي ,, فريد استير .. تقديري