ثقافات

السيمورغ: الطير هو الطير

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

نذير الماجد: مع أي نص موارب يبدو النقد وكأنه محاولة لتثبيت النص ضمن سياج دلالي محدد، أو محاولة للإمساك بدلالات هاربة ووضعها في نسق جامد، فهو بالتالي تعنيف ناجم عن استكراه نسقي لكتابة غير نسقية، والكتابة في أعم معانيها تبدأ من أفق مفتوح يعطيها بعدا جماليا، الجمال الذي يكمن في الهروب، أو الابتعاد، أو جمالية الغموض التي تكمن في الاستعصاء الدائم للنص، والصفة الأدبية تتحدد في غموض النص بالذات، مستمدا وجوده من الرؤية والإشارة، التي هي طلسم أو علامة بالمعنى السيميائي، وبين الغموض والوضوح تكمن إشكالية التأويل والنقد لنص هلامي هو في تعبير ابن عربي سديم من طلسمات سيميائية، هذا التأرجح بين الغموض والوضوح يحيل إلى تمييز أقامه التصوف بين العبارة والإشارة، حيث تستفحل الإشكالية وتتعقد، فنحن أمام نص هو قبل كل شيء فعالية، أو ترجمة لغوية لانبجاس داخلي، فالأدب الصوفي نص رؤيوي مستغلق، الاشارة والرمز هو مفتاحه الوحيد للفهم، كأننا أمام حضور لا متناهي يؤسس غيابا على مستوى اللغة ويتبدى في هيئة غموض أو ألغاز لا تحل إلا بتذوق أو معايشة للإشارة بوصفها "مفتاحا للمعاني العشقية"، فكلما اتسعت الرؤية، يقول النفري، ضاقت العبارة.

المقول الصوفي انعكاس لتجربة ذاتية في المعرفة، لذا فهو يتسع ويضيق، ولكنه مع ذلك يبدو متفاوتا، فالمنجز الأدبي هنا يتدرج ليتخذ في أدنى مستوياته شكل عبارة تزخر بها التأطيرات النظرية للتجربة الصوفية، ثم يتصاعد نحو مستويات أكثر غموض وأقل مباشرة تتجلى في بنية الإشارة والرمز، ليصل أخير إلى تعبير كلامي لحالة السكر يتمثل في الظاهرة الأدبية الفريدة: الشطحات.

والشطح الذي هو ترجمة لسانية لوجد يفيض، يتماهى مع حالة داخلية مسكونة بقلق متأجج ناجم عن حيرة وجودية، ولذا فالنص الصوفي ليس مجرد نص أدبي، ليس أدبا بالمعنى الاصطلاحي إنه أكثر من ذلك، فهو تساؤل أنطولوجي، كما يقول أدونيس، إنه رواية للتجربة الذاتية التي يعايشها الهائم المتعشق والذي هو -في استعارة وجودية- يعاني من مرارة نسيان الكينونة، وضد عذابه أو اغترابه الوجودي يبحث عن خلاصه، هويته الضائعة، لهذا تبدو الكتابة الصوفية كما لو كانت رواية أو رحلة لتحقيق الذات عبر معاينة الذات وقد توحدت بطائر العنقاء في الغرب أو في جبل قاف، هذه الرواية لا تنقل إلا في لغة رمزية تجد ذروتها في الرحلة الشيقة لمجتمع الطيور التي كتبها فريد الدين العطار. ابتهج العطار كثيرا لأنه أبدع هذه التحفة الأدبية، ويحق له ذلك، فمنطق الطير هو قبل كل شيء عمل أدبي يتسم بذات الإمكانات الإبداعية لأي عمل أدبي رمزي متفجر بطاقاته التأويلية وتعريفاته الهاربة كما يحلو لكونديرا أن يقول، فالطائر الذي يبحث عن ضالته لا يختلف كثيرا عن سنتياغو في رائعة باولو كويلو "الخيميائي"..سينتاغو الراعي الأندلسي الشاب يبحث عن حجر الفلاسفة أي الإكسير الذي يحول المعادن إلى نفائس وذهب، وهو في الخيميائيرمز لاكتشاف الذات، لتحقيق الحلم الذي هو لغة الله، أو التوغل أكثر في الذات بعد الخروج منها وتجاوزها، إنها عودة للذات وقد تضخمت وأصبحت أسطورة، والقاسم المشترك بين الطير عند فريد الدين العطار وسينتاغو عند كويلو يكمن تحديدا في هذا الكشف الصوفي للأسطورة الذاتية، فسنتياغو يتجشم عناء البحث عن الكنز بجانب الأهرامات " إن الأهرامات ليست إلا كومة حصى، تستطيع أنت أن تبن أهرامات في حديقتك" والكنز تحت قدميك، لكن سنتياغو لا يجيد لغة التجريد، فالبحث وتحقيق الأسطورة الذاتية عند سنتياغو لا يتم إلا بمعايشة، بمعرفة مباشرة كشفية، وهذا ما حصل، فبعد أن قطع الصحراء اكتشف أخيرا أن الكنز في داخله.هذا البحث المضني عن الذات نجده أيضا وفي قالب رمزي وإثارة درامية في رحلة الطيور إلى سلطانها السيمورغ، ولو لا وجود بعض الثغرات الماثلة في فقرات تعليمية تتخلل بنيان الرواية لكنا أمام بناء رمزي لعمل سوريالي محكم، كأننا مع صادق هدايت في هذيانه السريالي "البومة العمياء" أو كأننا أمام قصيدة "الحكاية" لرامبو، حيث الأمير هو نفسه الجني، هذه التماهيات الأدبية لا تقتصر على نماذج أدبية معاصرة وإنما تغوص في تماثلات لمنجز أدبي يتخطى حدود القومية والثقافة ليغدو أدبا عالميا بامتياز، فالظل الذي يتحول إلى شمس، أو الملك الذي يقتل رعاياه في كناية عن الفناء الصوفي، يشبه شهريار الذي يقتل نساءه في "ألف ليلة وليلة".لجأ العطار في كتابة منظومته إلى فن المثنوي المعروف في الأدب الفارسي، ولكننا نقرأه منثورا في العربية مع شيء من السجع، ورغم ذلك فالقالب القصصي للمنظومة بإبداعيته وفرادته يستحثك على إكماله حتى آخر حرف، إن القص عند العطار هو بناء من حكايات تتوالد في استطراد يفصح عن خطاب تعليمي حينا ويمعن في رمزية أو لغة أسطورية عجائبية حينا آخر، لكن هذا التلون يعزز جمالية القصد، فالاستطراد الحكائي وحتى التعليمي هو تخفيف من حدة نص مبهم وغامض ومليء برمزية متعالية، إن الجدار الرمزي تتخلله كوى الحكايات المتوالدة والتي تنتشر على مدار الحكاية الأم ، وما لا تقوله هذه الحكاية تشير إليها الحكايات الفرعية.يبدأ العطار حكايته بمقدمة يذم فيها التعصب، لأن التصوف هو نفي لكل اصطفاف مذهبي، والحب جوهر التصوف، وفي الحب تتلاشى الصور أو تمحي في حيرة المشاهدة، فليس مفاجئا إذن أن تبدأ الرحلة بوادي العشق، لكنه قبل ذلك يروي لنا اشتداد الرغبة في بحث الطيور عن حاكم، الطيور تكتشف ذاتها بلا سلطان، فتتساءل، ويأتيها الجواب من الهدهد الذي هو وحده القادر على أن يكون دليلا في طريق وعر وشاق وطويل، فهو الذي يخبر الطيور عن السيمورغ الطائر الذي حلق في رحلة بحث عن مملكة فوق الصين، فسقطت منه ريشة فاضت عنها آلاف الطيور "فصور طير العالم جميعا هي ظل السمورغ"، هذا الطائر هو سلطان يبحث عن رعايا، والطيور رعايا يبحثون عن سلطان: حاكم يبحث عن شعب وشعب يبحث عن حاكم، إن الطلب متبادل فليس ثمة عاشق ومعشوق، هناك فقط تعشق هو من السيمورغ" التعشق يكون من الله وليس من العبد وإلا سيكون تباهيا".لكن الطيور رغم رغبتها في السيمورغ إلا أنها تتحجج بأعذار هي من سنخ طبائعها، لقد أبدع العطار في استخلاص الدلالات من طبائع الطيور التي تبدو كما لو أنها علامات مصطنعة في نسق ثقافي، فالهدهد وهو الدليل الذي يسعى إلى تعبئة حشد الطيور يصيح متوسلا: لكني لا أستطيع السفر إليه وحدي، والبطة تتردد وتعتذر بقولها: " ومن يكن وعاء مائه مملوء فمتى تتولد لديه الرغبة في السيمورغ، والبومة هي أيضا لها أعذارها وحججها، فهي طائر يعشق الكنز " وإنما علي أن أعشق الكنز والخرابة".. إن كل هذه الحجج عبارة عن ترميز لآمال نفعية ترغب في الجنة وتجفل من النار أو هيمنة عقلية يحاربها العطار، هذه الهيمنة تجعل الطريق خاليا، لذا يغني العندليب حتى تثمل الأرواح وتكون جاهزة لمغامرة الطريق: "فكان كل منهم بين صحو وسكر، بعد ذلك بدأ الهدهد الكلام، فرفع الحجب من على وجه المعاني" وفي الطريق محطات هي الوديان السبعة، أولها وادي العشق، والعشق عند العطار ضرورة للتحرر من العقل، لا يعود التدين في مرحلة العشق إلا هوى، الهوى الذي هو بحسب ابن عربي إرادة ممتزجة بحب، حيث يتحول الإيمان من صورة لاعتقادات تصديقية إلى إرادة، من مقولات معممة وجاهزة سابقا ومعبئة اجتماعيا إلى تجربة منبجسة من الداخل، التدين هنا يسفر عن إشعاع باطني ينير عتمة العالم ويصبح معه الطير مهيئا للانتقال إلى وادي المعرفة، التي ترتسم معالمها من حضرة الغياب إلى الغيب المحض، فالمعرفة في المفهوم الصوفي، "أولها الله وآخرها ما لانهاية له" كما يقول الشبلي.ومثلما أن الله لا يتجلى في صورة واحدة مرتين، فإن المعرفة متجددة تبعا لنهر هرقليطس، وكما أن العشق انخطاف، أو موت عابر، فإن وادي المعرفة محل لانبعاث صورة جديدة: ذات تتجاوز ذاتها، ذات شفافة قادرة على ردم متعلقات الجسد بوصفه وجودا كثيفا يحد من انطلاقة الروح ولطافتها.فهي الآن على عتبة الاستغناء وهو الوادي أو المقام الثالث في رحلة الطير "وكل من وصل إلى شمسه، اعلم يقينا أنه تخلص من كل حسن وقبح" إن التخلص من العوالق الحسية الذي يعني تحول الطائر إلى كائن أثيري هو الشرط الوجودي للاتحاد بالشمس ومعرفة كنه العالم، كمثل الفراشة التي تطوف حول الشمعة وتتعشق بها حتى تغوص فيها وتحترق، والمثل للعطار أيضا.ثم نصل إلى رابع الأودية حيث بداية التوحيد الذي هو في التيوصوفيا يعبر عن وحدة الوجود لا عن انفصال كامل للمطلق، فالعالم خلق وحق ، تكثر في الصور والتجليات، ووحدة في العين، والتوحيد هو نفي هذه الاثنينية ليبدو العالم كينونة واحدة لكنها تعدد فقط من زاوية النظر كما يبين ابن عربي "فكيفترى الغير إن لم تكن أحولا"، ولكن الحيرة تعقب التوحيد، ففي وادي الحيرة، تفقد العلامة اللغوية مرجعياتها وتعود المعرفة عمياء، لأن الحضرة الجامعة هي عماء "ومن شدة الظهور الخفاء" إن اللص أو قاطع الطريق يصبح مرشدا للسالك كما لو كان متنسكا صالحا، والكفر يتحول إلى إيمان والإيمان يتحول إلى كفر، هذه الحيرة التي يمجدها ابن عربي هي التي تصفي الطير من كل مسبق أو ثابت عقلاني، إن الحيرة تفرغ القلب من طمأنينته لتصل به إلى مقام الفقر ثم وادي الفناء وحينها "سترى مئات الظلال الخالدة تتلاشى أمام شعاع واحد من شمسك الوضاءة".هنا يتحول الظل إلى شمس، ويصبح الطير هو الطير، وما إن يعبر الثلاثون طائرا وهي الطيور المتبقية وادي الفناء حتى تجد ذاتها أمام مرآة كبيرة في جبل قاف، مكان السيمورغ، والسيمورغ ليس سوى سي مورغ، وهي كلمة تعني في اللغة الفارسية ثلاثين طائرا، فهذه الرحلة المريرة هي عودة للذات أو كشف لها " وذلك الجمع الغفير من الطير لم يصل منه إلا ثلاثون طائرا، وصل الثلاثون وقد عدموا الأجنحة والريش وألم بهم التعب والوهن.. ويا للحسرة على ما تحملناه من آلام الطريق" وتملكتهم حيرة من نوع جديد.. وانمحى من صدورهم كل ما صنعوه وما لم يصنعوه... وفي تلك الآونة رأى الثلاثون طائرا طلعة السيمورغ في مواجهتهم، وعندما نظر الثلاثون طائرا على عجل رأوا أن السيمورغ هو الثلاثون طائرا"اعتمد العطار في حبكته على جناس في اللفظ الفارسي بهدف تصوير الامحاء أو الفناء الكامل على أنه حضور وغياب في ذات الوقت، الشمس هي ظلالها، والظل يصير شمسا، ولعل ما يؤكد هذا التصور المقلوب الحكاية التي أوردها العطار في خاتمة منظومتة، فالملك يعشق غلاما ثم ينوي قتله لأن الغلام أحب امرأة، لكن شبيها أنقذ الفتى من موت محتم، إنها غيرة العاشق التي تجعله يقتل، فهل السيمورغ يقتل الطيور ليفنى هو فيهم؟ يقول العطار: اعبر الظل ثم ابحث عن السر، إن تر الظل يتلاشى في الشمس على الدوام، فسترى أنك أنت الشمس والسلام"

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
Thank you
Levi -

Thank you Sir for one of the best written articles I have ever read on Sufism and on Attar''s Conference of the Birds. Beautifully written and you''ve hit the nail on the head, with every word. Peace and love.

Thank you
Levi -

Thank you Sir for one of the best written articles I have ever read on Sufism and on Attar''s Conference of the Birds. Beautifully written and you''ve hit the nail on the head, with every word. Peace and love.

جدا شدن زال از سيمرغ
عاصم كامل-متخصص لغات -

سيمرغ هو رمز الامبراطورية الساسانية ,والسيمرغ:سي بالفارسية والكردية الفيلية تعني ثلاثين, ومرغ( يقراء مورغ) يعني الطائر, اي ثلاثين طائر.والان في اللغة الفارسية الحديثة والكردية الفيلية تطلق كلمة مرغ على الدجاج.والسيمرغ الساساني,هو بذيل الطاووس وجسم العقاب وراءس وقبضة الاسد.معناه ثلاثين طائرا هي احدى الطيور الخرافية الذي يكثر ذكره في الاساطير الايرانية الدينية والتاريخية والثقافيةوفي( شاهنامة( رسالة الملك) للحكيم ابو القاسم فردوسي, وفي منطق الطير للشيخ عطار نيشابورى). وتسكن السيمرغ على الشجرة التي تقي كل بذور النباتات وعلى مقربة من شجرة الخلدالتي تجتمع عليها البذور التي انتجتها النباتات كلها طوال السنة. وقد ذهبت بعض الدراسات التي وردت في الادبيات الفارسية حول حقيقة طائر السيمرغ الى انه يرمز الى (جبرائيل), لان جميع الصفات المتواجدة في سيمرغ هي التي في جبرائيل من:الكبر والهيبة والجمال والابهة. واخيرا لايمكن الخلط بين طائر سيمرغ( وهي اسطورة فارسية بحتة), وطائر العنقاء( وهي اسطورة عربية من العصر الجاهلي).

جدا شدن زال از سيمرغ
عاصم كامل-متخصص لغات -

سيمرغ هو رمز الامبراطورية الساسانية ,والسيمرغ:سي بالفارسية والكردية الفيلية تعني ثلاثين, ومرغ( يقراء مورغ) يعني الطائر, اي ثلاثين طائر.والان في اللغة الفارسية الحديثة والكردية الفيلية تطلق كلمة مرغ على الدجاج.والسيمرغ الساساني,هو بذيل الطاووس وجسم العقاب وراءس وقبضة الاسد.معناه ثلاثين طائرا هي احدى الطيور الخرافية الذي يكثر ذكره في الاساطير الايرانية الدينية والتاريخية والثقافيةوفي( شاهنامة( رسالة الملك) للحكيم ابو القاسم فردوسي, وفي منطق الطير للشيخ عطار نيشابورى). وتسكن السيمرغ على الشجرة التي تقي كل بذور النباتات وعلى مقربة من شجرة الخلدالتي تجتمع عليها البذور التي انتجتها النباتات كلها طوال السنة. وقد ذهبت بعض الدراسات التي وردت في الادبيات الفارسية حول حقيقة طائر السيمرغ الى انه يرمز الى (جبرائيل), لان جميع الصفات المتواجدة في سيمرغ هي التي في جبرائيل من:الكبر والهيبة والجمال والابهة. واخيرا لايمكن الخلط بين طائر سيمرغ( وهي اسطورة فارسية بحتة), وطائر العنقاء( وهي اسطورة عربية من العصر الجاهلي).