كالاس الى الأبد... العودة لإكتشاف الذات بدون خداع
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
سعد هادي: يصور فيلم (كالاس الى الأبد-2002Callas forever /) وقائع الشهور الأخيرة من حياة ماريا كالاس أعظم مغنيات الأوبرا في العصر الحديث، وقد ركَّز مؤلف الفيلم ومخرجه الإيطالي فرانكو زيفريللي(المولود عام 1923 والذي عرف على نطاق واسع من خلال إخراجه لتراجيديات شكسبير: روميو وجوليت1968، عطيل 1986، هاملت1990) على مراحل تصوير كالاس لفيلم مأخوذ عن أوبرا كارمن الشهيرة، أفلح منتجها الأمريكي(لاري كيلي) بعد محاولات بإقناعها على تمثيله مع إستعادة صوتها من تسجيلات قديمة لها، ويذكر أن كالاس كانت قد توقفت عن الغناء منذ عام 1965، وإستمرت تعيش في ظلال الملياردير أوناسيس، الرجل الوحيد الذي عشقته، وكانت لها تجربة سينمائية وحيدة أقرب الى الفشل، مستمدة من المأساة الإغريقية (ميديا) أخرجها: بازوليني عام 1970.
جاء الفيلم في الذكرى الخامسة والعشرين على رحيل كالاس، التي توفيت بأزمة قلبية مفاجئة في 16آب/سبتمبر عام 1977 عن 54عاماً، وقد تم إحراق جسدها حسب وصيتها ونثر الرماد فوق البحر المتوسط وفق الطقوس اليونانية القديمة، تذكيراً منها بأصولها، برغم أنها ظلت طوال حياتها إنموذجا للمواطن العالمي، تقول في مشهد من الفيلم: ليس لي وطن، عشت في إيطاليا واليونان وأمريكا، أتظنني تعلقت بمكان أو بلد، لا أنطق أية لغة بشكل صحيح، لا اعرف من أكون، أنا أطفو حسب. بالإضافة الى ذلك تحاول كالاس( أدت الدور ببراعة الفرنسية فاني أرادن المولودة عام 1949وقد كانت في السن نفسه الذي توفيت عنه كالاس) أن تعبر عن فشلها الفني، نراها في أحد المشاهد الأولى تصغي بحزن الى مقاطع من أوبراتها القديمة وتحاول تكرارها دون جدوى، ثم تقول: لقد طوى الماضي أعظم مغنية في العالم، وحين يقترح عليها منتجها كيلي(الممثل الإنكليزي الأصل جيرمي آيرونز 1948) أن تغادر عزلتها وتعود للأضواء ثانية لأن جيلاً جديداً لم يشاهدها وهي تغني تقول له: هل أتيت لتقترح عليّ طريقة أخرى لتظهرني حمقاء، لا تكلمني عن الفرصة الثانية، وهل كانت لإيكاروس فرصة ثانية؟ فيرد عليها: ينبغي أن نصنع له جناحين إصطناعيين، ثم يشرح لها إمكانية تصوير أدوارها الأوبرالية القديمة مع إستخدام التكنولوجيا لإضافة الأصوات القديمة عليها( قامت كالاس بأداء أكثر من 40 أوبرا وقد أخرج بعضها كبار المخرجين ومنهم لوتشينو فيسكونتي)، ترفض في البداية ثم توافق على مضض، وحين يسألها أحد الصحفيين: لماذا غيرت رأيك؟ تجيبه: لأنني إمرأة والمرأة تغيِّر الحياة، يتم إختيار "كارمن" للبدء في المشروع، لأنها الأوبرا الأكثر شعبية، وكذلك لأن كالاس سجلتها صوتياً فقط ولم تقم بأدائها على المسرح، وقد كانت قد ذكرت لصحفية أمريكية مقربة منها أن أشباح شخصياتها الأوبرالية ميديا وفيوليتا ونورما وسواها تزورها ليلاً، ثم تتوالى بعد ذلك مشاهد من الفيلم داخل الفيلم (الذي يفترض أن يقوم بإخراجه الإسباني إستيبان غوميز والذي يحرص على إنجاز ما يليق بسمعة كالاس ومن ذلك قيامه بإحضار راقصات وراقصين غجر من إسبانيا حيث تجري أحداث الرواية الأساسية التي كتبها بروسبير مريميه وألهمت الفرنسي جورج بيزيه أجمل أوبراته لتأكيد المنحى الواقعي في الفيلم)، يتم إظهار المشاهد الأولى أثناء التصوير، ثم
بعد إنتهاء تصوير "كارمن" وفي ظل الإستعداد لإختيار أوبرا أخرى ليعاد إنتاجها بالطريقة نفسها، تتوقف كالاس لتتأمل ما فعلته، تقول للصحفية الأمريكية: إن ما فعلته نجاح أسوأ من فشل، الأمر أشبه بفاوست الذي إستعاد شبابه كما إستعدت صوت شبابي، فترد عليها الصحفية: تعرفين فاوست لأنه شخصية أوبرالية خيالية، فتصرخ كالاس: كارمن كانت إحتيالاً، فتجيبها الصحفية: مثل أي إداء فني، في تلك المسرحيات ألم تقفي أمام مناظر مرسومة، وحين مثلت "ميديا" ألم تقتلي أولادك، هل فعلت ذلك حقاً؟ يتصاعد الشك لاحقاً لدى كالاس، تبدأ بإجراء التمارين على أوبرا "توسكا" وتبدأ كما تقول بالغوص في شخصيتها الأخرى، تقول لمنتجها: عدت لإكتشاف روحي ولكن علي أن أعود ثانية الى كالاس بدون خداع، كالاس كما هي الآن، وتأتي اللحظة الحاسمة، تطلب منه إتلاف ما تم تصويره: إنه غش، تلفيق مع إن من يراه لن يدرك ذلك، هل تريد أن أختتم حياتي بأن يقول عني الناس أنني كنت محتالة، أن أفعل ما هو مناقض لكل ما تشبثت به، (أثناء حديثهما تتم إستعادة المشاهد الأخيرة من كارمن، وهي المشاهد الأكثر قسوة في الأوبرا) لا يجد كيلي أمامه سوى القبول برغم أن ذلك سيؤدي الى إفلاسه إذ كان قد ساهم بنصف تكاليف الإنتاج مع ممولين آخرين ولن يتبقى له إذا إنسحبت كالاس سوى مشاريع مازلت على الورق وسوى المشاكل التي تجلبها له فرقة الـ(Bad Dreams) التي يقوم بتمويل حفلاتها،
علي أخيرأ أن أنوه بإعجابي المفرط بأداء "فاني أرادن" الذي لم يستند الى التشابه المظهري والإنفعالي حسب وإنما الى إدراك جوهر الشخصية في لحظة تطور حاسمة، وأرادن ممثلة مسرحية جسدت شخصية إسطورة المسرح الفرنسي سارة برنارد وشخصيات أخرى، كما تسنى لي مشاهدتها مؤخراً في فيلم قديم نسبياً أخرجه "ألان رينيه" عام 1986بعنوان "ميلو" وهو معالجة سينمائية تحاول الحفاظ على وحدات الدراما الثلاث في مسرحية من تأليف هنري بيرنستين، والتمرد على إشتراطات الوسيط السينمائي.