قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
سعد هادي: لا أساس تاريخي للشخصيتين الأساسيتين في فيلم ميلوش فورمان(أشباح غويا GOYA'S GHOSTS-2006) وهما: الكاهن "لورنزو" والفتاة الجميلة "أينيس" إذ إستمد المخرج ملامحهما من لوحات الرسام الإسباني الذي يعشق فنه ولكنه يناقض أفكاره (فرانشيسكو غويا 1746-1828) وأعاد عبر الصراع الخفي وغير المتكافيء بين هاتين الشخصيتين، بناء علاقات جديدة على أنقاض وقائع تاريخية حقيقية لإيضاح أن الشر لا يأتي من الإيمان بل من الإنسان، وإن التاريخ ليس رحيماً مطلقاً، فهو يعيد نفسه بإستمرار، كما أن القوى الظلامية والأصولية في هذا التاريخ من الذكاء الشيطاني "سابقاً وفي الوقت الحاضر" لكي تشيع حقيقة مُرَّة وهي أن الليبراليين لن ينتصروا أبداً، أما فكرة الفيلم الذي كلف 50 مليون دولار وجاء بعد ثمانية سنوات من آخراج فومان لآخر أفلامه( رجل فوق القمرThe Man On The Moon ) فتعود الى الخمسينيات، عندما كان فورمان ما يزال يدرس السينما في جامعة براغ، إذ إذيعت آنذاك وقائع محاكمة لأشخاص إعترفوا بجريمة لم يرتكبوها، بل أكثر من ذلك أكدوا أنهم يستحقون عقوبة الإعدام التي أصدرتها السلطات بحقهم، وقد صرح فورمان عند عرض فيلمه أن ما يريده ليس تقديم بورتريه عن فنان عبقري بل أن يقدم ما هو أكثر شمولاً، فـ"غويا" الذي رسم الأعماق المظلمة وعدَّ آخر الكلاسيكيين العظام وأول من أحدث إنعطافة في تاريخ الرسم بإتجاه الحداثة، لم يكن برأي فورمان سوى رسام للملوك وأصحاب السلطة، كان جباناً على حد وصفه، لا يثق بأحد، لا مواقف واضحة له، وحتى في رسائله لم يكتب الا ما هو عرضي وما ليس له أية أهمية. أما يركز عليه الفيلم من أعمال غويا فهي سلسة رسومه المنفذة بالأسود والأبيض والمعروفة بـ"النزوات" والتي حاول فيها أن يطلق الرؤى التشاؤمية والكوابيس والمخاوف من أعماقه، إذ يبدأ الفيلم في أحد أيام 1792 برجال دين يتداولون نسخاً من هذه الرسوم التي يقوم غويا بحفرها على صفائح المعدن ثم يطورها لاحقاً، وإذ يتوقع المشاهد أن الفيلم سيبرز أهمية هذه الرسوم وإتجاهها النقدي في مواجهة الكنيسة وقيمها المهيمنة، يبتعد في مشاهده اللاحقة عن ذلك ليستخدم المخرج(وهو في الوقت ذاته كاتب السيناريو بالإشتراك مع الفرنسي جان كلود كارير) تلك الرسوم في تجسيد وساوس غويا وروحه المظلمة التي تجسدها مثلما تجسد كراهيته للآخر وسعيه الى إذلاله وتدميره كتعويض عن عدم قدرته على ذلك في الواقع أو ذلك ما يمكن إستنتاجه أو إستخلاصه عبر إعادة تفكيك الكثير من الإشارات في الفيلم، إن تلك الرسوم التي إختيرت بتعمد من بين كل رسوم غويا "بالإضافة الى بعض رسومه للعائلة المالكة ولأشخاص آخرين" وفق هذه الرؤية هي الأقدر على إظهار سلبية غويا أو ظلاميته وعدائه للكون والإنسان برغم أنه قال مرة بما يشبه تسويغاً لها: إن نوم العقل يوقظ الوحوش، وبتحوير بسيط يمكن لفورمان أن يقول: إن غويا يرى العالم هكذا بدلاً عن الكاهن في المشهد الأول الذي ينتقد الرسوم قائلاً: إن العالم سيرانا هكذا، فيعقب عليه الكاهن لورنزو: أنها ترينا الوجه الحقيقي لعالمنا. في المشهد التالي يرد غويا(يمثل دوره السويدي ستيلان سكارسغارد 1951) على سؤال لساحرته كما يصفها "أينيس" حين تشاهد لوحة شبه مكتملة بلا وجه: إنه شبح، لنكتشف لاحقاً إن ذلك الشبح هو الكاهن لورنزو نفسه، وهكذا تمضي المشاهد في حقل من الألغام، بين مكائد رجال الكنيسة وحكايات الأشباح وصور الساحرات ورسوم الأرواح المظلمة وجموح النزوات ومشاهد التعذيب، وكل ذلك يؤدي أو يطمح الى إظهار ضعف غويا وتردده وجشعه، إن الفيلم يدينه مثلما يدين السلطة الكنسية وأساليبها في الإستقصاء والتحقيق والتعذيب للحصول على الإعترافات، بل يمكن تشبيهه (أي الفيلم) بمحاكمة سينمائية لـ"غويا" من أجل الحصول على إعتراف منه لقاء جريمة لم يرتكبها، حتى تعمده السخرية من الملكة التي يرسمها على حصانها في لوحة كبيرة جداً مركزاً على قبحها وترهل ملامحها يظهره الفيلم كأنه حماقة أو أفراط في الواقعية. لاشيء في صالح غويا، لا أحد يحبه مثلما لا يحب أحداً، أنه مغفل وبخيل وعجوز أصم، حين يذهب الى مستشفى المجانين ويقدم نفسه قائلا: أنا غويا رسام الملك، يقول له المدير: أي ملك منهم؟ لدي إثنان هنا يدعيان أنهما نابليون وأحدهما عربي. أما حين يقدم نفسه الى البغايا في احدى الحانات بالطريقة ذاتها، فلا يتلقى سوى نظرات مرتبكة وهمهمات غامضة. بالطبع إن الفيلم يدين الشخصيات الأخرى بدرجات متفاوتة كما يدين العصر الملتبس والذي شهد إنعطافة حاسمة بإتجاه الحرية من خلال تلك الشخصيات، كل شيء ماضٍ الى الخراب والموت والجنون وكذلك العهر، تقلبات مستمرة للأشخاص بين الفراديس المفقودة والعوالم السفلية، بين السمو والحضيض، بين ظلمات محاكم التفتيش ومباديء الثورة الفرنسية، الجلاد يتحول الى ضحية والقاتل ينقلب الى مصلح إجتماعي، أما غويا فهو شاهد سلبي لما يجري أمام بصره، إما الصراع الأساسي في الفيلم فيتمحور حول شخصيتين هما: الكاهن "لورنزو" المسؤول عن إكتشاف المرتدين وإنتزاع الإعترافات منهم والذي يهرب الى فرنسا بعد أن وقع إعترافاً تحت التعذيب يفيد بأنه "قرد" يعادي الكنيسة ثم يكتشف خارج جدران الكنيسة وبعيدا عن حدود إسبانيا عالماً آخر يتعلم من صراعات ويقرأ فيه مؤلفات روسو وفولتير ويلتقي بدانتون، وقد أدى دور لورنزو الممثل الإسباني خافيير بارديم المولود عام 1969 والذي حاز على أوسكار أفضل ممثل عن دوره في فيلم (لا مكان للمسنين) وكان يأمل أن يختاره المخرج لأداء دور غويا ولكن إعترف لاحقاً إنه وجد في دور لورنزو ضالته، أما شخصية أينيس والتي أدتها الممثلة ناتالي بورتمان المولودة عام 1981 وقد اختارها فورمان لهذا الدور لأنها تشبه الفتاة في لوحة غويا "بائعة اللبن في بوردو" فهي سليلة العائلة الثرية والتي يرسمها غويا في صورة ملاك على سقف إحدى الكنائس مثلما يواصل في المشاهد الأولى رسم صورة شخصية لها معتبراً إياها مثله الأعلى في الجمال، إنها تسجن وتعذب لأن مخبري الكنيسة يعتقدون أنها يهودية. ولا تجدي محاولات أبيها لإطلاق سراحها، إذ يقبل الكاردينال صندوق النقوذ الذهبية الذي تبرع به أبيها ولكنه يرفض إطلاق سراحها لأنه لا يريد التشكيك في مبدأ الإستقصاء الذي تتبعه الكنيسة. يغتصبها لورنزو في السجن وحين تخرج منه بعد 15 عاماً شبه مجنونة عندما يحرر الغزاة الفرنسيون السجناء ويوقفون العمل بالقوانين السائدة، يراودها حلم أن تعثر على إبنتها ولكنها تجد نفسها في مستشفى المجانين، فـ"لورنزو" لا يريد أن تذكره بالماضي، كل شيء تغير، ليس هناك سوى الخراب، قتلت عائلتها وإحرق القصر الذي كانت تسكنه، أما أبنتها فقد تحولت الى عاهرة. إنها مثال موجز على فقدان الأمل وتدمير قوى الشر للإنسان روحياً وجسدياً، ثم تنقلب الآية فجأة حين ينسحب الفرنسيون، يلقى القبض على لورنزو ويحكم عليه بالموت وتعود السلطة ثانية لرجال الكنيسة, ويلخص المشهد الأخير في الفيلم مآل الشخصيات الثلاث الأساسية: لورنزو، جثة هامدة بعد أن يشنق على عربة يحيط بها أطفال يغنون، آينيس تلاحق العربة وهي تحمل الطفل الذي عثرت عليه في إحدى الحانات متخيلة أنه الطفل الذي فقدته قبل سنوات، ثم غويا الأصم الذي لا يدري الى أين يمضي مع هذا الموكب، وهل أن من يتبعهم في زقاق ضيق بشر أم أشباح يأتون من لا مكان ويذهبون الى حيث لا يدري.