قصة غرام هامشية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
"كل ما نكتبه، لا نستطيع قوله. فلو كنا قادرين على قوله، ما كتبناه أبدا" (روني شار)
"الصورة رائعة وكذلك الفتى" هكذا علق رولان بارت ذات مرة، على صورة أُخِذتْ للويس باين. صورة غابرة في الزمان، لكنها مع ذلك تستعيذ حضورها معنا مادام أن العالم كله صورة مدركة... العالم كذلك لا لشيء إلا لأنه الوعاء الذي يضم الموجود في كليته، إلى درجة ألا أحد يستطيع أن ينفلت من فضائه. لكن من أين له بهذه الشمولية القاسية، يا ترى؟ أقصد شمولية الصورة الإطار التي مافتئنا ننتمي إليها حتما لا خيارا. كل منا يا للهول ينتمي لنفس الصورة ولا محيد له عنها قيد أنملة. كل واحد منا يحيا، تماما كما لو كان يستبق جرحه الوجودي، يرسم خطوط انكساراته و نجاحاته، لحظات انهزامه و انتصاره. كل منا لا يكاد يحيد عن هذه اللازمة، بحيث يكشف بذلك عن هذا السر الثاوي بداخله، يستبق قدره على نحو ما يستبق الحلزون قوقعته؛ ظانا أنه قد ينفلت منها، لكن الأرجح أنه سرعان ما ينبطح مستسلما لها في أمان.
في ظل هذه التأملات، التي لا تفتأ تطاردني، منذ البارحة، سيما عندما ألقي بنظراتي عبر النافذة، فلا أرى غير بياض الثلوج التي تكسو الفناء من كل حدب وصوب، يكاد لا يبلغ مسامعي إلا هتافها المليء بالشكوى. تعرَّفنا على بعضنا البعض منذ عقدين من الزمن أو أكثر. أحبتني و أحببتها حتى الجنون. تبادلنا الغرام وعشنا حياة العشاق كل بحسب مقدرته. لكن الفتور نال مني. نال مني لوحدي. أقصد فتور الحب بطبيعة الحال، وإلا فما دعوى الشكاوي التي تسترسل في مباغتتي بها. تلومني عن كل ما جرى بيننا، وما لم يجر. وتؤاخذني عن كل صغيرة وكبيرة. "تغيرتَ، تغيرتَ كثيرا، يا حبيبي"هي ذي اللازمة التي تطاردني بها أينما وَلَّيْتُ وجهي، في المطبخ أو الحمام، في الصالون أو المكتبة، في الحديقة أو الشارع، وحيدا أو على مرأى من الجميع، و الأفظع من ذلك كله، هو أثناء الجماع. كارثة حصلتْ لي، أكيد ولا مخرج. ها هي تقترب مني، على الفور: - فيما تفكر حبيبي؟
-لا شيء، مجرد تأملات فلسفية كما العادة.
- الفلسفة، أم هي إحداهُن؟
- إحداهن؟ما قصدُكِ؟
- تلك اللائي لا يَكلْن يُهاتفنَكَ، صباح مساء.
- أرجوك سعيدة، دعيني من هذه الترهات، أنا مشغول الآن بكتابة مقال فلسفي، وما عليك إلا أن تسعفينني تيسيرا لذلك.
- إذن، قل لي بصراحة، فيما تفكر، وإنْ كان الأمر موضوعا فلسفيا بحق وحقيقي، لا موضوع نِسوان، فما فحواه؟
- تتناقضين حبيبتي في كلامك، فهل موضوع الفلسفة موضوع رجال؟
تُربت بيدها على كتفي الأيمن، بلطف مَنْ ترغب في تليين خليلها، وتردُّ: - حبيبي، بالله عليك، قَرِّبْني من برجك العاجي.
سألتُها: هل تعرفين "لويس باين"؟أجابتني: لا شيء سوى ما كتبته الصحافة الأمريكية يومها.
استطردتها لتخبرني بما يلوج ببالها، فقالت: "لقد حاول اغتيال كاتب الدولة الأمريكي. فحُكِم عليه بالإعدام. "
سكتَتْ رفيقتي، مباشرة فور ما انتهى إليه لسانُها، بينما تِهْتُ أفكر بالسر الذي جعل، ابن عمها خالد، ينهي حياته بما انتهت به حياة "باين". ناوليني، قلت لها، سجارة أرجوك. العلبة الأولى نفذت بالكامل، هل ما تزال راغبا في المزيد؟ألم تعد تَوَدُّ العمل بنصيحة الطبيب، يا أحمد؟أبدا حبيبتي، فلو كان النصح في الحياة يفيد شيئا، لأفاد الطبيب نفسه. أبدا، أبدا، الحياة في غنى عن كل نصح، هكذا خبرتُ على مر الأيام، ألا أسترشدَ إلا برغباتي. رغباتي لا غير، فما الحياة إلا رغبة. وحالما تنتهي لا مناص لك من التلاشي والذوبان في صقيع العدم، أليس كذلك؟
- الآن، فحسب بدأتُ أفهمُ ما يدور بخلدك منذ قليل، قالتْ وهي تُناولني، العلبة الثانية من نوع "فورتينا".
- كيف؟
-أتعتقد أني مغفلة إلى هذا الحد، يا أحمد، أم ماذا؟
- كلا، حبيبتي؛ إطلاقا.
أُسرِعُ إلى تقبيلها من وجنتها اليسرى، ضاما إياها إلى صدري، كما لو كنت أقول لها بُوحي لي بما في صدرك، اعتصري كل ما يحويه من أسرار، أنا اليوم مستعد لسماع كل شكاويك عساني أفلح في استنفاذها بالكامل.
فتقهقه، كعادتها، صائحة: - دعني حبيبي، إني أتكلم بجد.
-ها أنذا، ياعمري، وكل آذاني صاغية.
-أحمد، أنا لا أمزح، أعرف أنك كثيرا ما تستغبيني، لكن ليس إلى هذا الحد!
بخطوتين، إلى الوراء، أعدتُ تشغيل قرص أغاني المنوعات الفرنسية، من جديد، محافظا على هدوء المكان بطبيعة الحال. حينها بدأتْ سعيدة تحكي بِنِيَّةِ مَنْ يَوَدُّ أن يفك عن نفسه تهمة الغباء التي تظنني أنا من يلصقها بها.
لا تقاطعني، قالتْ، إني أعرفك حق المعرفة، تذكَّر يا أحمد أني وفية لك لـعشرين سنة أو ينيف، و أني لم أحب رجلا في حياتي كلها مثلما أحببتك؛ بخلافك، أنت تماما، الذي مارس الحب مع كل النساء، ولم تستطع ولو مرة واحدة في حياتك أن تكون وفيا. آه، قل لي...
ما هذا، الكلام، حبيبتي، أنا لا أرغب أن أعيد معك هذا الهراء، هذه اللازمة التي جراءها شرعت أمقت حياتي. ألم أقل لك مرارا أني لا أحب الكلام المزعج، أليس يكفيك ما بك من ويلات حتى تستزيدي وتعكري الأجواء ثانية؟
تبدأ أغنية شارل أزنفور المفضلة لدي : بعنوان أنا في انتظارك، فتهرع نحوي جاهشة بالبكاء، أعانقها في صمت عدا شذى شارل الذي يصدح عاليا، بينما جسدينا يلتحمان في سكون منقطع النظير. أردد وإياها بعض المقاطع المعهودة، كالعادة، لكن لَكْنَةَ نطقها لحرف " r " يكاد يمحو كل ما كان لهنيهة بيننا من تباعد، وخصام: سيما في المقطع التالي: "مثلما الفنان، أخلقكِ وأنتظر... أنا في انتظاركِ يا حلمي المجهول... ما اسمكِ ؟ما هدفكِ؟ بالنسبة لي هدفي هو الحب".
أتفكر كم مرة أنقدنا فيها، هذا المقطع بالذات من ويلات لا حصر لها. كم مرة استطاع أن يعود بنا إلى حالة الأتراكسيا، ومطارحة الغرام. أرى أنني لم أعد أستطيع أن أعشقها دونما موسيقى، بل لولا الموسيقى لغدا حبنا خطأ، وجرما. الموسيقى وحدها ما يخفف من حدة الثقالة التي لا تفتأ تطالنا كل يوم. بَسْمَة من جانبها، و قهقهة مني، فأحسها تداعب شيئي المنتصب، بلطف، فأمسك بدوري بإبزيم رافدة نهديها، وأفك عنهما الحصار... تسترسل الموسيقى بقدرما نسترسل في الغرام. الغرام الممتع مادام أنه ليس ثمة الآن من شكوى، ولا وقت فراغ لإيداع ملفات المنازعات العاطفية. فكرتُ أن ما يجعل الحب ينكسر إنما هو الفراغ. والحق أن النساء يستشعرن هذا الفراغ على غير العادة من الرجال. النساء يخفن الفراغ، ربما لتكوينهن الفزيولوجي، بالأساس: وإلا فما حاجتهن إلى إيلاج قضيب الذكر؟فالمرأة ثقوب، ونوافذ مشرعة، أحصاها غيوم أبولينير وحصرها في تسعة. لكن مِنْ أين لنا المقدرة على سد كل هذه الفراغات؟وحده الله يستطيع ذلك، فما تريده المرأة هو نفسه ما يريده الله. بعد أخد ورد، من جانبي كما من جانبها، يبدأ صبيب من العرق يتدفق من على جبيني، فأسمعها ترشدني: إياك أحمد، إياك، أن تفعل.
لا. لا... ، أردُّ عليها، وأكتفي بالاسترسال في ما أنا بصدده، داركا أني ولعمري كنت عبدا إلا لرغباتي. فأنتهي أخيرا بالقذف بداخل مهبلها. بينما هي تشدني إليها بكل ما أوتيتْ من قوة، غير مكترثة بالعواقب المحتملة. أتوجه إليها بالكلام: حبيبتي، ما بك اليوم؟ ضحكتْ منتشية: البارحة فقط، انقطعتْ عني العادة الشهرية. لكن قل لي؟بالله عليك، أليس الأروع ما أنت فيه اللحظة؟.
ماذا؟
- ها، ها، ها، من مقال فلسفي، إلى مطارحة في الغرام.
- لكنها، مرَّتْ دونما مؤاخذات، ولا حتى شكاوى، أليس كذلك؟
- أنتَ السبب، يا حبيبي، يكفيك كقائد أن تتعلم فن توجيه سفينتك، حتى حينما لا تستطيع أن تتحكم في وجهة الرياح.
- لكنك لا تنقادين لي بسهولة، يا بلهاء.
أتمحص، سر التداعيات التي تطال علاقتي بسعيدة، فأجد أنها، تعود أول ما تعود إلى كونها دوما تُعَقْلِنُ الأشياء، أكثر من اللازم. وبخلاف ما يقال عن النساء من قبيل كونهن ناقصات عقل ودين، أجد أنهن يحسبن الشاذة والفذة في كل الأمور. فالمرأة غالبا ما تنتصب ضد رغباتها، و لها من القدرة ما يكفي لأن تمتنع بالرغم من كونها الراغبة، أما الرجل، فهو دوما ضحية حواسه؛ وسرعان ما يميل حيثما توجهه رياحها. هذا ما يجري لي الآن بالضبط مع سعيدة، وإلا، كيف لي أن أفهم سر استدارتي 180 درجة : من مقال فلسفي، وحكاية لويس باين، إلى سلسلة من الحركات الرعناء، التي تنتهي بي إلى فقدان طاقة يصعب علي استردادها في أقل من يوم أو يومين. ينتابني نوع من الخزي، مؤداه لعنتي لهذا العبث الذي حال دونما استغراقي في وضع تصميم للمقال، الذي ينبغي علي بعثه للنشر في أقل من أربعة أيام.
- دامت لك الراحة، قالت سعيدة وهي تلوح لي بيدها خارجة من الباب.
-إلى أين حبيبتي؟
-إلى الحمام، باي.
ألتفت إلى الساعة الحائطية، فلا يكاد يظهر لي من عقاربها إلا أطولها، أقصد هذا الذي يعدُّ الثواني؛ لأن الظلام الذي بدأ يسود المكان، لا تخترقه إلا حمرة هذا العقرب المفتقدة بالنسبة للعقارب الأخرى، جراء فعل الزمان الذي وحده يأتي على الحابل والنابل. لذلك أفشل في إدراك الساعة التي أنا فيها الآن. ربما كانت السادسة مساء أو السابعة، من يدري؟بله لِمَ أشغل بالي بالوقت ؟ سيما وأني في عطلة. أغمض عيني مرة أخرى عساني أنام، لكن دونما جدوى؛ أفكر ثانية في قصة هذه الساعة التي لا يبدو منها غير عقرب الثواني الأحمر، وأجد أنها هي ما يفسد علي لحظة الراحة قبل عودة سعيدة من الحمام. لكن لِمَ لا تسمح لي إلا بتعداد الثواني؟لِمَ هذه الصورة الملغزة، التي تفرض علي أنا البطيء في تحركاتي، أن أسير على خطى سريعة ؟وتلزمني أن أضبط إيقاعات حياتي على نغمات هذا العقرب الأرعن، الذي يدوس على أنف البطء، ويجبرني على العيش على وجه السرعة؟الحقيقة أني لم أعد أحتمل هذه الوثيرة السريعة التي غدت تسير بها الحياة. لأنها جعلتنا ككائنات، نفتقد نشوة البطء. لهذه القصة على ما يظهر تاريخ، هو تاريخ التقنية الذي غيَّر كليا مجرى حياة الإنسان، وبدَّل رؤيته لذاته كما للكون من حوله، وبحسب كونديرا، يمكننا أن نؤرخ لهذا الحدث، بتلك اللحظة التي عندها كف الإنسان عن اعتبار حياته سبيلا و شرع ينظر إليها كما لو كانت طريقا. لكن ما الفرق بين الاثنين؟وفيما يتميز الأول عن الثاني؟بله، أية علاقة لهما بحياة الإنسان؟وما تأثيرهما عليه؟ يقول كونديرا معرفا السبيل: "إنه قطعة من الأرض نسير عليها بالأقدام. أما الطريق فهو لا يختلف عن السبيل في كوننا نقطعه بالسيارة فحسب، بل في كونه مجرد خط يصل نقطة بأخرى. فالطريق يكاد لا ينطوي في حد ذاته على أي مغزى، ووحدهما النقطتان اللتان يربط بينهما لهما معنى. السبيل احتفاء بالمكان وتمجيد له. كل قطعة من السبيل ذات دلالة لا تفتأ تدعونا للتوقف. أما الطريق فهو أكبر تبخيس للمكان، ولم يعد اليوم يشكل غير عرقلة لتحركات الناس؛ إنه مضيعة للوقت. "إن السبيل إذن إذ يدعونا إلى التوقف والتريث يمنحنا فرصة استعادة الذات التي افتقدناها مع عجالة الطريق. فهو من ثمة فن الزمان الذي يسمح لنا بنحت اللحظة وبناء الذات بالاشتغال عليها و أخذ المسافة مع كل ما اعتدناه مألوفا توخيا للمسائلة والتفكير. وبقد رما ينادينا السبيل للمشي بقد رما ينادينا الطريق للهرولة. لكن شتان مابين المشي والهرولة. فالذي يمشي هو وحده من يستطيع أن ينصت لذاته كما للكائنات من حوله. أما الذي يهرول فهو ليس ينتشي إلا بالسرعة التي تكاد تفصله عن كل ما يستطيعه، وعلى عكس الذي يمشي، فإن الذي يهرول، يكون دائما خارج جسده وأقل إحساسا بنفسه كما بزمانه، بله هو من لا يحيا فضلا عن ذلك إلا تحت صخب ضجيج الآلات والسيارات. مما يحرمه من حكمة الصمت على اعتباره المقياس الحقيقي لملاقاة الذات. و إذا كنا في السبيل إذن نحيا نشوة الصمت بينما في الطريق نحيا رعب الضجيج فليس إلا لأن الثاني يحملنا يقينا إلى حيث نريد أن نذهب، وهو المكان الذي نعرفه مسبقا، بينما الأول يؤدي بنا إلى حيث لا ندري، لكن بقصد التعرف عليه. السبيل بهذا المعنى تيهان؛ بينما الطريق يقين. في هذا السياق كتب يوما "روجي مارتن دي غار": "الحياة الأكثر رزانة و حيطة هي تلك التي تشبه في سيرها سير الضرير" و جملته هاته ليست إلا ترديدا لبيت شعري لـ"جريمي" وهو يصيح : "لا سلطة للناس على مسارها ويستحيل على الذي يمشي أن يوجه خطاه". ثمة في نظري ضرورة تلزمنا على اتخاذ وجهة ما و السير نحو أفق غير قابل للرصد مسبقا، فأنا مثلا لم أختر الاقتران بسعيدة ولم يكن لذي أي مخطط قبلي للزواج بها. كل ما في الأمر أن تظاهرة طلابية قادتني خطأ ذات يوم لاستعادة أنفاسي، بالقرب من ذلك الحائط القصير، وعندها أحسست بأن مرفقي يكاد يلامس أصابع فتاة في مقتبل العمر. فتاة في العشرينات، تتأهب لمصادفة شاب يشفي غليل شغفها. كان ذلك في نهاية الثمانينات من القرن الفائت، حيث لا مناص لمن يود اصطياد فريسته من ركوب صهوة الغزل المباشر، و التقابل معها وجها لوجه، بخلاف اليوم حيث غدا، الحب الرقمي يعفينا من المثول أمام الحبيب، و صار الـ"Messenger" يختصر المسافات مابين العشاق و يُيَسِّر التعارف دونما حاجة لمظاهرات و لا لحيطان قصيرة تسمح بتماس مرفق ذكر و أنامل أنثى. أتذكر بالمناسبة مصطفى، أخ سعيدة، الأصغر سنا. تعرف منذ سنتين، بفضل الأنترنيت، على فتاة مغربية تعمل بالديار الإسبانية، بينما هو يقيم بإيطاليا على نحو غير قانوني، أي دونما عقدة عمل تجيز له المكوث لوقت طويل بأوربا، و انتهى به الأمر إلى التزوج بها، و ما أن تمكن من تصحيح وضعيته، حتى بادر بتطليقها. لكن ومع ذلك، هل هو الأول أوالأخير في هذا المضمار؟أليس كل واحد منا على نهج مصطفى؟فأنا على سبيل المثال، أُصِبْتُ بنوع من السأم والفتور في علاقتي بسعيدة، حتى أني أخال نفسي أحيانا مطلقا منها. لا شيء غذا يحمسني إليها عدا أغنية شارل أزنفور، اليتيمة. عندما أحاول أن أفك أظافر هذا اللغز الرجالي، يداهمني نوع من الدوار، حد أنني أكاد أجن، لا لشيء إلا لأني أطارد شيئا يستحيل علي الإمساك به. و لست ههنا، وحدي من يعاني من هذه المحنة، بل كل رجل رجل يكابد على نحو سيزيفي مثلما أكابد. كل رجل ينادي مثلي امرأة لكنه لا يحوزها. هكذا هي قصتنا مع النساء، وستبقى كذلك طالما ثمة رجال ونساء على وجه البسيطة. "ما بك، قالت سعيدة وهي تحاول إيقاظي، لقد نِمتَ أكثر من اللازم " أستدير في الفراش، و أرمق الساعة اللعينة، تشير إلى العاشرة صباحا. الآن فقط استطعتُ أن أقرأ نبوءاتها. نعم الساعة تنذر أكثر مما تخبر. لذلك سميت بالمنبه و هو اسم أوافق عليه تمام الموافقة. فالساعة دوما تعمل على تنبيهنا إلى ما سيقع و تلح علينا بأخذ الحيطة و الحذر قبل فوات الأوان، وإلا فلا جدوى منها و لا قيمة لحركات عقاربها. الساعة لا يهمها ما فات أكثر مما يهمها ما هو آت. كل عقرب من عقاربها يسير نحو الأمام و لا يعرف معنى العودة إلى الوراء. لذلك فالزمان يتقصى أفق انتظارنا، و لا يكترث بالماضي أيا كان. أبدا، ما من ذاكرة لهذا الوعاء التقني؛ لأنه يكاد لا يرقص إلا على سمفونية الحاضر. فما قيمة ما طرأ مثلا بيننا الأمس، أنا وسعيدة. ما قيمة ما طواه الزمان أمام هذا الذي يشدني الآن إلى استنهاض قواي و القفز من على السرير، قفزة شاب كله حماسة و طموح، عساني أنجز ما أنا مجبر على إنجازه. أقصد كتابة المقال الفلسفي الذي علي إتمامه قبل ثلاثة أيام. لقد أصبحت أكتب تحت الطلب، لكن دونما التخلي عن اختياراتي، بطبيعة الحال. مر زمان كنت أتهافت فيه على نشر مقالاتي هنا وهناك، على أعمدة هذه الجريدة أو تلك وبين ثنايا هذه المجلة العربية أو القومية، كانت الغاية من الكتابة حينئذ تتلخص في خلق نوع من التميز ولو على حساب التمزق الذاتي. أجل كنت بقدرما أكتب و أنشر بقدرما أتفقر و أجوع. هكذا أدركت أن هذا الفعل لا يجدي في البلاد العربية. وهي بلدان تسودها الشعبوية، يغتني فيها الأمي و الجاهل على حساب الحكيم و المبدع. يكفينا أن نعرف كيف عاش زفزاف و العفيف الأخضر و لِمَ يدخن بادريس الزرقاء بدل المارلبورو، وكيف كان محمد خير الدين يتمنع عن المكوث مع بائعات الهوى مكتفيا بالتبصص عليهن من بعيد... فكرت بعد هذا اللف و الدوران ألا بأس والحالة هاته أن أكتب موضوعا بخصوص ذلك الثري الذي تعرفت عليه في الصويرة. صاحب عشر قصص، ملياردير مهووس بفعل تافه. فليكن إذن المقال بعنوان "هوس الكتابة". ناوليني سروالي قلت لسعيدة. ليس قبل أن تستحم، حبيبي، خذ لك دوش، فرائحة العرق تفوح منك أيما فوحان"
- أجل، عمري، السمع والطاعة.
ردت علي وأنا على مشارف عتبة الدوش : - آه، لو كنت تسمعني ؟
أطلقت رشاشة الماء، و تذكرت حكمة مونتاني بخصوص الزواج الناجح حيث: " يشترط، أن تكون المرأة مكفوفة، والزوج أصم" وأدركت أن سعيدة محقة فيما تقول. فلو كنت أنصت لكل ما تقوله، ما كان لعلاقتنا أن تستمر، هذا العمر كله. و ربما توقفنا حتى قبل أن نبدأ. و ربما انتحر أحدنا ما أن يكتشف منحى، لا يروقه عند الآخر. نعم كل شيء ممكن، كل شيء محتمل في العلاقات الزوجية والغير الزوجية. ابن عمها خالد مثلا، انتحر لا لشيء إلا لأن أحدهم وشى له بخيانة خليلته له. كان المسكين ينوي المضي معها في العلاقة أكثر من اللازم، فتراه يقتني لها هدايا بالجملة و يغدق عليها كل ماله دونما حساب. قلت له ذات مرة مؤاخذا إياه، على ما يأتيه معها من تصرفات غير مضبوطة: "خالد إن المرأة بهذا النحو تستهين بك، كن واثقا أنها في أية لحظة ستنفلت منك ". لكنه لم يكن يكترث بما أقول. بل الأفظع من ذلك كله، كون نادية صاحبة حسن طالعه، تصر أيما إصرار على أن يبقى خادمها الوفي، يتعب ويكل مقابل قبلة يتيمة في رأس جبال "إسوال" المعروفة بثلجها القاسي. كانا يعملان معا كمعلمين بمنطقة نائية تدعى "إسوال "على طريق ورززات ذهابا من مراكش. يقطعان الطرقات، المعبدة منها والغير المعبدة. يجتازان بصبر و أناة الجبال والوديان تحت ذريعة الفوز في آخر الشهر براتب هزيل لا ولن يسعفهما حتى على التخلص من الديون التي تراكمت عليهما ما أن بدآ مهنة الوظيفة. هي تعيل أسرتها بالدار البيضاء وهو يحمل أثقال مصاريف إخوانه و أخواته بالمحاذاة لجامع الفناء. وحرصا منها على قضاء حاجاتها و مواربها على حسابه كانت تمسك باللعين مثلما يمسك الأسد بفريسته، فتراه ينط شمالا وجنوبا لعله، ينال رضاها. ومن طرافة علاقتهما، هاته، تكليفه على مدار السنة بالتبضع من سوق" زرقطن" الأسبوعي، وهو سوق يقام كل سبت، للوصول إليه عليه أن يقطع مسافة سبع ساعات مشيا على الأقدام من حيث كان يعمل. مما يعني أن الرجل يقضي من أجل ضريبة الحب، أزيد من أربعة عشر ساعة بِحَرِّها و بَرْدِها، كل يوم في الأسبوع، طيلة عام و ربما أعوام. وإذا أجرينا عملية حسابية أخرى نجد أنه يمضي ستة وخمسين ساعة في الشهر أي ما يعادل يومين ونصف يوم من كل شهر، في حياته، تلبية لرغبة امرأة جامحة لا تسعفه حتى على إتيان حاجاته الجنسية كما ينبغي. قلت له ذات مرة، ما أظنها تحبك، فطفح غاضبا مني. أما هي فتعرف ما تفعل و تدرك أن لا أحد من الرجال يقبل بحماقاتها عدا خالد. لذلك عندما أرادت أن تسافر صيفا إلى الديار الفرنسية، كلفته بتحويل إلى" الأورو" كل ما سيمنحه إياها من نقود. ففعل دونما تردد. وكانت تلك المرة الأخيرة التي رأى فيها نادية. بحيث لم تعد إلى العمل بجانبه على الإطلاق، واستمر الوضع على ما هو عليه إلى أن جاءه الوشاة بالنبأ الجازم مؤكدين له بما لا يقبل الشك و لا الدحض على أن اللعينة تربطها علاقة برجل آخر في تلك الديار. لينتهي به الأمر، إلى الانتحار شنقا وراء قوس من أقواس باب دكالة. كانت سعيدة لا تكف عن معاتبته، عما كان يفعل بل وعن علاقته بنادية. وها هي اليوم تعاتبه على انتحاره، ساعية إلى إبراز خصالها الحميدة لي. "أنا بنت الناس "تقول لي. لكن لماذا تتكلم بصوت مرتفع؟وبوثيرة سريعة كما لو كانت غير واثقة مما تصرح به؟لماذا لا تستطيع أن تبقي عينيها على عيني، وتتحاشى تقاطعا صريحا لنظرتينا دونما أن تأبه؟ ربما كان الافتراء يجنح بنظراتها بعيدا، هي التي صارت تعاني من ثقل الكذب.
كانت سعيدة في واقع الأمر، البنت الوحيدة في عائلتها، أمها أستاذة اللغة العربية في الثانوي، التقت أباها ذات مرة في حفل عند الجيران، وتعرفت عليه، وهو في وضع مادي صعب. كان حينها ما يزال طالبا، حالمًا، مثل باقي الطلبة، أما هي فسبقته إلى عالم الشغل بعدما أتمت بنجاح مسلسل الامتحانات الجامعية، دونما مشاق، وفي مدة زمانية لم تتعدى أربع سنوات. تخرجت من كلية اللغة، شعبة الشريعة الإسلامية، دونما أن تتذوق طعم السقوط بخلافه هو الذي عانى الأمرين جراء، صعوبة المواد المدرسة، والتي تتطلب منه المثابرة و إعمال الفكر، لما يطبعها من نزوع علمي محض. هكذا كان ينجح سنة ويكرر سنة، على مدار حياته الجامعية. فلم يحرز على الإجازة إلا بعد ثمان سنوات، ليتقدم إلى مباراة ولوج عالم الوظيفة مرات متعددة دون أن يفلح عدا في واحدة منها هي مبارة ولوج مركز تكوين المعلمين. ليجد نفسه مضطرا، ليهب سنة كاملة من عمره، فيتخرج بعدها ويعين في إحدى المناطق الجبلية النائية، بأجر شهري زهيد لا يكاد يتجاوز الألفين و خمسمائة درهم، لا يعرف هل يصرفه على نفسه أم على أفراد شجرته العائلية الكثيرين، المعوزين. وعلى ما حكى لسعيدة، فإنه مرارا ما كان يلعن حالته تلك، كلما طلبت منه أمه أن يتزوج، ويردف صارخا في وجهها: "أمي، ألا تعرفين أن من يمتهن التعليم حرفة، قد تزوج سلفا بالفقر؟". أن تغدو معلما بنظره يعني أنك تزوجت العوز، إلى الأبد، وانتهى أمر مصيرك ومسارك. إلا أن الأقدار، منحته ما لم يكن في الحسبان، حيث تزوج أم سعيدة وهو في عز العطالة، و أقسى درجات التشرد. قبلتْ به كما هو وهي الحسناء المرغوبة من لدن الألوفات من الرجال. و بخلافي تماما أنا وسعيدة، راح ينعم في خيرات الزوجة المادية و المعنوية: حشد اللعين الثروات كلها، وهو الذي ولئن لم يزرع شيئا يذكر، حصد بلا حساب، ونال وحاز بلا رقيب. نال المال والجمال، أما أنا فهيهات هيهات، لا هذا و لا ذاك. سعيدة اسم رديف للعطالة و القبح الذي ورثته عن أبيها. إني والحقيقة تقال، ضحية لعبة السلالات. فاللعينة التي اقترنتُ بها لم ترث من أمها شيئا، لا بل حتى الجمال الذي أشع علي يومها من سحنتها، سرعان ما تبخر مع مر الزمان، لأجد نفسي، وجها لوجه، أمام، معادلة رياضية يميل مُنحناها نحو السلب والنقصان.