عودة الى كلاسيك السينما (9): الرجل الثالث
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
هذه هي فكرة الفيلم الاساسية الذي تم انتاجه في 1949، و التي تحكي كيف أن رجلا ذكيا طوى ضميره ومبادئه الانسانية ليدخل في هذا السوق الاسود الرديء، في تجارة ldquo;البلازماldquo; وldquo;البنسلينrdquo; التي تعتبر كما الذهب بالنسبة لضحايا ومعوقي الحرب العالمية الثانية من الجرحى، و هذا كان سيد تسويق هذه المواد الفاسدة، التي لم تكن تشفي مريضا وبالعكس كانت تعقد اوضاعهم الصحية الى الاسوأ، فينتهون موتى او مرضى لما بقي لهم من حياة،
اورسون ويلز، 1915-1985 يؤدي دور ldquo;هاري لايمrdquo; كتاجر حرب غامض في ldquo;فييناrdquo; ما بعد الحرب في 1947، وهذه كانت تحت سيطرة الحلفاء الذين قسموا المدينة الى أربعة اقسام، تشرف عليها السلطات العسكرية الاميركية، الروسية، البريطانية، و الفرنسية، وهو كان يتحرك من منطقة الى أخرى مستفيدا من علاقاته مع بعض المسؤولين الفاسدين في هذه السلطات، ولكن القوات البريطانية أكتشفت حيل هذا وتبدأ مطاردته يشكل جدي، ولكن ldquo;لايمrdquo; قيل ذالك كان قد أرسل دعوة لصديق طفولته ldquo;مارتينسrdquo; الذي يقوم بدوره الممثل الرائع ldquo;جوزيف كوتينrdquo; 1905-1994 وكان قد وعده، بعمل محترم في فيينا كي يترك كتابة الروايات الرخيصة من البوليسية وldquo;الكاوبويrdquo; و يبدو أن قبل وصول هذا من الولايات المتحدة، كانت السلطات البريطانية قد احكمت الطوق على ldquo;هاري لايمrdquo; الذي يخترع قصة موته قبل وصول صديقه بيوم، وهذا يحضر ldquo;فييناrdquo; قبل لحظات من مراسيم دفن صديقه، وهنا يبدأ اللغز، فهذا الكاتب يصل المدينة مليئا بأمل رؤية صديقه من جديد، وكذالك العمل، ولكنه لايستطيع أكثر من رمي وردة على قبر صديقه في اخر دقيقة.
هكذا يبدا الفيلم بوصول ldquo;مارتينسrdquo; كاتب روايات ldquo;رعاة البقرrdquo; الرخيصة الى المدينة المتعبة، والمقتسمة بين الحلفاء ليفاجأ بمراسم دفن صديقه الذى نفق في حادث دهس غامض.
حضور العبقري ldquo;أورسون ويلزrdquo; يبدأ من الدقيقة الاولى ليسيطر على على كل تفاصيل القصة، رغم ان ظهوره شخصيا على الشاشة لم يحدث الا بعد منتصف الفيلم، ليحسم العديد من حالات الانتظار والتوقع التي تصيب المشاهد طول هذا الوقت، لتبدأ مرحلة أخرى من الغموض الذي يرهق الاعصاب، فتدور الشائعات، و أسم ldquo;لايمrdquo; على كل لسان، من قبل شخصيات غريبة وباهتة و مزدوجة، وحتى غريبة الاطوار، لتضاعف من ندرة حالته و تكاد لمس ldquo;السورياليةrdquo;
في الكثير من الاحيان، و تتشابك القصص حول شخصيته لتثير في نفس المشاهد حالات من عدم الارتياح والشغف في ان واحد، ويمضي الفيلم الى منتصفه ليظهر ldquo;الميت المفترضrdquo; في كل بهائه السينمائي ldquo;اورسون ويلزrdquo; ليلتقي صديقه القديم والحميم، و الان متناقض الانطباع في حيرة بين الحب والشك في مصداقية اخلاقه، و هو الذي لم يصدق أي شائعة حول نبل صديقه ليصاب باحباط عميق بعد تأكده من صحة تلك، وكذالك تقارير الشرطة البريطانية التي تلاحقه و تتهمه بتهريب ldquo;البنسلين ldquo; الملوث للمرضى الذين يعدون الافا، من بقايا مصابي الحرب و رغم أحباطه يستمع ويحاور صديقه الذي صار شريرا في لحظة في علو ldquo;ناعور هواءrdquo; وهو النصب الوحيد الذي سلم من الدمار، وldquo;هاري لايم ldquo; يلح على صديقه بضرورة أنضمام ldquo;مارتينسrdquo; الى عمله ldquo;التجاريrdquo; اللاخلاقي، وأثناء الاخذ والرد بينهما يقول ldquo;ويلزrdquo; جملته التي تذعر الكاتب ldquo;الرخيصrdquo; النبيل، مارتينس.يقول، rdquo;في ايطاليا، وتحت حكم عائلة ldquo;بورخياrdquo; الدامي، صارت الحروب المدمرة، وظهر الارهاب، والمذابح، ولكن ظهر ايضا ldquo;مايكل أنجيلوrdquo;وldquo;ليوناردو دافنشيrdquo;، ثم عصر النهضة...ماذا حقق السويسريون خلال 500 عام من السلام؟؟؟.... أخترعوا ساعة ال ldquo;كوكوrdquo; مجيبا نفسه بتهكم ldquo;
ولكنني أود العودة الى بداية الفيلم قبل الاستطراد بهذا السرد، فحين وصول الصديق عاصمة النمسا، و حضور دفن ldquo;لايمrdquo; والظروف الغامضة التي احاطت أسباب وفاته، يقرر التحقيق شخصيا مدفوعا بغريزته ككاتب روايات بوليسية، ولتطبيق خياله الروائي لاول مرة على الواقع بعد نشره سلسلة طويلة من الروايات الرخيصة، هذا من جانب، و من جانب أخر كان يريد تفنيد اتهامات العسكري البريطاني ldquo;تريفور هيواردrdquo; (1913-1988) وهنا يبدو شابا و ممثلا من الدرجة الاولى، يؤدي دور الضابط ldquo;كالاويrdquo; الذي كان يصر على ان ldquo;هاري لايم ldquo; هو مجرم حرب،، وشخص عديم القيم والاخلاق فيعود مارتينس الى موقع الحادث الغامض، و يسائل بواب العمارة الذي كان شاهد عيان حادثة الدهس ليضاعف شكوكه، وتزداد حيرته أمام أحاديث أصدقاء القتيل المليئة بالتناقضات، فنحن الان في دوامة من الاثارة والشك، هل انتحر ldquo;لايمrdquo;؟ وربما اغتيل، و الاهم هو، هل كان حادث الدهس حقيقيا؟؟، ليصل بعد ذالك الى عشيقة صديقه ldquo;انا شميدتrdquo; التي تؤدي دورها الممثلة الكرواتية الاصل ldquo; اليد فاليrdquo; (1921-2006)، التي يقع في غرامها لاحقا، و هذه تؤكد له وتقسم ان صديقه المتوفي كان من انبل الذين عرفتهم في حياتها، و كان طيبا وكريما، ولا تتخيله مجرما بأي حال،، و هنا نحن امام العديد من الافتراضات- في رحلة التحقيق هذه، وحسب العديد من النقاد يؤدي ldquo;جوزيف كوتينrdquo; أروع أدواره على طول مسيرته السينمائية التي استمرت عدة عقود، خصوصا اثناء لقائه مع هاري لايم، حيث يشعر الاسى بعد أكتشافه انه مجرم فعلا ولص حرب، ويستغرب هذا ldquo;التحولrdquo; في شخصية صديقه القديم والحميم الذي معه تقاسم مبادئ الحق والانسانية، ثم يفشل في حبه للانسة ldquo;شميدتrdquo; لانها مازالت تهوى عشيقها ldquo;الميت؟rdquo; ليواجه فشلين تسقطه في ورطة نفسية تزيد من اضطرابه الوجودي، فيتخذ قرارا حاسما، وهو مغادرة فيينا وترك كل شيء للقدر، ولكن الميجر ldquo;كالاويrdquo; كان على يقين بأن ldquo;هاري لايمrdquo; حي يرزق، و ما يزال مستمرا في نشاطه الاجرامي، و أن صديقه الكاتب يعلم ذالك ايضا، و يتوسل مساعدة هذا الاخير في القبض عليه ولكنه يرفض ولان المسؤل البريطاني يعرف حبه rdquo;انا شميدتrdquo; المطاردة من قبل القوات الروسية يعرض عليه منح الفتاة جواز سفر، و بطاقة الى ldquo;باريسrdquo; فيوافق، ولكن الفتاة وهي في القطار على وشك السفر تكتشف ldquo;الصفقةrdquo; فتستشيط غضبا، و تمزق البطاقة والجواز في وجه ldquo;مارتينسrdquo; وتغادر المحطة مسرعة لتحذير ldquo;هاريrdquo; من الفخ الذي نصب له، وهنا يجرب احباطا جديدا، ويقرر السفر نهائيا، وفي الطريق الى المطار، يوقف ldquo;كالاويrdquo; عربته أمام مستشفى اطفال، ويتوسل كاتب الروايات الرخيضة مرافقته بضع دقائق لزيارة المرضى، ويمرون بين أسرة الاطفال المصابين، والمشوهين بسبب ldquo;بنسلينrdquo; هاري الملوث كي يشاهد بام عينه معاناة هؤلاء الابرياء، و هم في حالات يرثى لها، ويقول كالاوي..rdquo;من ماتوا بسبب هذا الدواء الفاسد هم اسعد حظا من هؤلاء الذين تراهم، ومن بقوا على قيد الحياةrdquo;وهنا يستيقظ ضميره الذي كان قد أسترخى بسبب أكثاره من تعاطي الكحول في الفترة الاخيرة، فيقرر المساعدة في القبض على صديقه الذي ينتهي قتيلا بعد مطاردة مثيرة فيمداري تصريفالمياه التحتية للمدينة، في تصوير ليلي يكاد يقترب من الكمال في تعقيده، خصوصا في التناقض الضوئي بين الاسود والابيض البراق، و يتكبير الظل الى حد العملقة، وهذا الاسلوب في التصوير قلد في العشرات من الافلام اللاحقة، ينتهي الفيلم بدفن ldquo;هاريrdquo;في مقبرة خريفية كئيبة، وبعد المراسيم ينتظر ldquo;مارتينسrdquo; فرصته الاخيرة في كسب حب ldquo;انا شميدتrdquo; و هذه تمر امامه مرور الكرام بخطى ثابتة وتتجاهله وهي تغادر المقبرة بين صفوف أشجارها الحزينة.
هذه النهاية لم يكتبها ldquo;غراهام غرينrdquo; (1904-1991) في السيناريو الاصلي، ففي ذهنه كانت فكرة ولادة حب جديد، و لكن المخرج فضل هذه النهاية الحزينة مما أغضب الكاتب كثيرا معه، و بسبب هذا تخاصما لعدة سنوات رغم صداقتهما القديمة.
فيلم ldquo;الرجل الثالثrdquo; يطرح معضلة السلوك الانساني فرديا كان أم جماعيا، و ايضا الاخلاقية والقيم الانسانية ليكشف أن قشرة النبل التي تحيط الانسان بطبيعته هي من النحافة حيث تصير قابلة للكسر في أي لحظة، حسب تطور و تعقد
كان ldquo;كارول ريدrdquo; قد كلف صديقه و مواطنه الكاتب البريطاني ldquo;غراهام غرينrdquo; لاعتبارين، الاول كونه روائيا مرموقا، و الثاني هو ارتباطه السابق الى السلك الدبلوماسي، وبالتالي علاقته غير المباشرة مع المخابرات، وهنا تشذ القاعدة، فمن السيناريو يصير الكتاب، فنشره في 1950 تحت نفس العنوان.
يعتبر الفيلم واحدا من أهم مساهمات بريطانيا في صناعة السينما العالمية، والعديد من النقاد يتفقون على ان وراء صنعه كان يقف ldquo;أورسون ويلزrdquo; رغم ظهوره كممثل ثانوي، و هذا ليس استهانة بقدرة المخرج الذي كان يستمع باحترام اقتراحات هذا العبقري، ويقال انه كان خلف تصوير الفيلم ونلاحظ مدى تأثير ه على ldquo;روبرت كراسكيرrdquo; لانه طبق وطور أسلوب تصويره في فيلمه "المواطن كينrdquo;، و في الحق اقول أن ظل ldquo;أورسون ويلزrdquo; نراه على طول الشريط، و حتى بعض من لمساته على السيناريو.
بعد عرض الفيلم في 1949، أختلف النقاد كالعادة، فاستقبله ldquo;سادولrdquo; قائلا..rdquo;فيلما فيه الكثير من التفخيم للخطابية، و البهرجةrdquo;وهذه جملة ندم قولها لاحقا، اما ناقد ldquo;نيويورك تايمزrdquo; فيقول ldquo;فيه فنطازية بعيدة عن الواقع الاجتماعي، خاليا من المعنى، قصة حول السوق السوداء، لا تعني شيئا، فيلما ملئ بالتصنعrdquo; و هؤلاء، بعد سنوات لم يكن أمامهم غير ابتلاع كلماتهم.
اخيرا اود الاشارة الى ما قاله ldquo;ويلزrdquo; في أخر مقابلة معه قبل وفاته، و يعترف أنه كان يشك كثيرا في نجاح الفيلم تجاريا لذلك فضل ان يستلم راتبا أسبوعيا بدل النسبة المئوية من الارباح المعتادة، ويقول ldquo;ان من كل الافلام التي اخرجتها او مثلت فيها ldquo;الرجل الثالثrdquo; هو من أفلامي الوحيدة التي كنت أصر على مشاهدتها مرة بعد اخرى حينما كان يعرض في التليفزيون ldquo;انصح القراء مشاهدته، و مقارنته مع افلامه الاخرى، ليلاحظوا تاثيره في صنع هذا الفيلم