ثقافات

القاعة رقم أربعة

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

دوى الجرس معلنا بداية الامتحان. الأستاذة المراقبة، لاهتة، ما زالت تستفسر عن وجهتها: " القاعة رقم أربعة، على اليسار" أجاب أحد المسيرين بحماس وامتعاض. بسرعة، اخترقت حشدا من الواقفين، يتوسطهم مسؤول كبير، هكذا بدا من لباسه الأنيق، خصوصا ربطة عنقه المحكمة على صدره، والتي وسم سوادها، ودقة ضبطها بياض شعره وقميصه بالتميز اللافت.
سلكت المراقبة أول ممر على يسار الساحة الفسيحة التي ابتلع الضباب جزء كبيرا منها في ذلك الصباح الخريفي البارد. محملقة، عدت: واحد، إثنان، ثلاثة، لتجد نفسها أخيرا في القاعة رقم أربعة.
جلست إلى زاوية المكتب التي أفلتت من ثقل المحافظ، حقائب اليد، الملفات والكتب. استوت على الكرسي محاولة استجماع قواها المبعثرة، بعد رحلة شاقة: حافلة، سيارة أجرة ومشي على الأقدام. مع ذلك لم تصل قبل الجرس، ولم تشارك الأستاذ المراقب في توزيع الأوراق. قدمت اعتذارا. تلقت ابتسامة و كلمات:"ما كاين مشكل "، وغلافا أصفر به أوراق أسئلة تغيب أصحابها.
رمت ببصرها إلى الأساتذة الممتحنين، كان أغلبهم ذكورا جمعهم هدف الظفر بتسمية جديدة في الإطار، و إضافة مادية إلى الراتب الشهري، وإحياء تجربة التباري بما تبقى من نفس .
اعين توزع نظراتها بين الاوراق و الاشخاص و الجدران. وشوشات، انحناء و قيام. أحدهم أخرج سيجارة، تأملها ثم أعادها حيث كانت. مدرسة في الأربعينيات استدارت إلى أخرى، همهمت لها بسرعة وعادت إلى وضعها تصوب نظرات في كل اتجاه، وبيدها تدس ما انفلت من شعيرات تحت غطاء رأسها القاني. مدرسون في الخلف، تكثلوا للحظات، ثم انفضوا واستووا علىمقاعدهم. عيونهم زائغة. بين هؤلاء، قلة اكتفت بتأمل ما يجري، والحملقة في الأوراق. أحدهم انهمك في قضم
أضافره، تائها بين النافذة وورقة الأسئلة
.جلس المراقب الثاني قبالة الممتحنين، أخرج محمولا، قرأ شيئا وكتب شيئا. أخفى المحمول وأ طرق
تساءلت المراقبة: "كيف يراقب الشخص مثيله ؟ كيف يراقب المدرس المدرس ؟ تذكرت طفولتها، عندما كانت مدرسة الإبتدائي تختارها و اثنثين من زميلاتها لحراسة
التلميذات كلما غادرت الفصل للإفطار مع المدرسات، والتحدث عن الأعراس ومشاكل الأزواج. لا زالت تتذكر كيف كانت تمسك بعصا المدرسة، تصوبها نحو كل من تتفوه بكلمة، ثم تجلس إلى المكتب تدون اسم المسكينة ، غير آبهة لاستعطافها. مشهد توقف عنده الزمن . هي الحراسة، في كل زمان ومكان، الفرق أنها وهي طفلة، كانت تترقب بلهفة خروج المدرسة لترفع العصا مزمجرة: من تتكلم أدون اسمها ! وبالطبع، كانت الألسنة تخرس تماما، والأنامل الصغيرة تتكور في الجيوب طلبا للدفء والأمان. أما وهي مدرسة، حضرت باستدعاء رسمي مختوم لمراقبة الممتحنين، فإنها تتمنى لو يفعلها الزمن مرة واحدة، فيبتلع اللحظة البئيسة كلهارحمة بها و بالتاريخ المنهك
...ويأبى الزمن إلا أن يكمل المسير وكأنه لا يسير
وتنكفئ الرؤوس على الأوراق بعد حمى الدقائق الأولى للإمتحان، ومحاولة التموقع في قلب الحدث.متفحصة، مترقبة، أخذت المراقبة تحملق في الممتحنين، تسعفها لعبة طالما تسلت بها في حراستها للصغار والكبار: تمعن النظر إلى الى الممتحنين، الغافلين و المتغافلين، حتى إذا استشعرت نظرات أحدهم مصوبة نحوها، أطبقت
عينيها أو غيرت هدفهما. لم تستطع المضي في أطوار اللعبة، سئمت التربص و القنص. ثم هي تعلم جيدا أنها الخاسرة في البداية و في النهاية، لأنها موضوع تربص عشرين ممتحنا، وبالطبع، لابد أن تسقط فريسة مهما كانت متيقظة ماهرة في مطاردة لعينة كهذه.
أشاحت بوجهها إلى الباب، حيث أحدهم يقتحم القاعة. باحتراف، ألقى نظرة خاطفة وغادر ليعود بعد ثوان ومعه المسؤول الكبير، وشخص آخر وابتسامة عريضة. استوى المراقب واقفا. تململت المراقبة قبل أن تقرر البقاء جالسة. اخترق المسوؤل الكبير الصفوف، يجود ببصره على القاعدين، وعلى المكتب المحمل بالملفات حقائب اليدو الكتب. وبابتسامة، ودعاء " الله يعاون. "، أنهى إطلالته، وغادر تحفه انحناءة من مرافقيه، ورد من بعض الممتحنين: " شكرًا، بارك الله فيك " بفضول، قامت المراقبة، اتجهت نحو الباب تشيع الموكب بعينيها وكأنها توثق لزمن آت. أكثر من عشرين قاعة أخرى تترقب الإطلالة، ولعبة العد متواصلة بين عاد ومعدود. سرب من الطيور السوداء يمزق مسحة ضباب متبقية، يدوي بصراخ وصفير فيضيف لعنة إلى لعنة. استعاذت بالله ثم استدارت إلى القاعة. سارت قليلا بين الرؤوس المدفونة في الورق، بينما عاد المراقب الثاني إلى كرسيه ومحموله.
ثلاثون دقيقة مضت على انطلاق الإمتحان والأقلام لم تعرف بعد طريقها إلى الورق. الأعين والألسن لم تفصح بعد عن استحسان أو استهجان. لكن بين الحين والآخر، نظرات متبادلة ربما يكون لها ألف معنى.
لم تقو على الوقوف، خواء معدتها و ركبتيها أرغماها علع الإرتماء من جديد على كرسي المكتب، فهي لم تفطر كعادتها. توجسها من لحظات كهذه يسد نفسها تماما عن الطعام. فتحت حقيبة يدها العالقة بين ركام المكتب. أخرجت قلما ولم تجد ورقا تذكرت الغلاف الأصفر. سحبت منه ورقة عبئ نصف صفحتها بسؤال عريض: " إلى أي حد يمكن للبرامج والمناهج التربوية أن تساهم في إدماج المتعلم في محيطه الإجتماعي والإقتصادي والثقافي ؟ "
ترددت قبل أن تسطر على الصفحة الأخرى، كالعادة، خطوطا وكلمات، قد تعمر في درج مكتب لسنوات، وقد يدفعها الفضول أو الحنين إلى فك رموزها كما يحدث في كل مرة، لتبدو وكأنها وليدة اللحظة، ولتزداد يقينا بأن الزمن لا حدود بين لحظاته، فالحراسة هي هي، وطقوسها هي هي، وما ينطبق على الصغار يشمل الكبار أيضاً...
خطت: كيف ارتبط الإمتحان بالحراسة ؟ من وضع هذه القوانين ؟ إن السماء لا تعترف إلا بحراسة النفس للنفس ؟! هي إذن قوانين الأرض، أدارت ظهرها لكل قيمة أخلاقية. هو تنكر الجسد، الطين، لنفخة الروح الإلهية، وتمطط أبالسي آمره الهوى . قوانين تربي الصغار على أن يراقبوا ويراقبوا. فن التربص، عطاء الفطرة للحيوان، وصناعة يلقنها الإنسان للإنسان، في تبادل للأدوار، بين متربص ومتربص به، حيث لا فرق بين ذكر وأنثى، بين متعلم ومعلم، بين صغير وكبير...!!!
تساءلت: ماذا لو ألغيت الحراسة وترك كل ممتحن أمام رقابة الذات ؟! متبسمة: عندها لن نعود بحاجة إلى حراس، وإلى مسوؤل كبير، ولن يحتاج المسوؤل الكبير إلى أكبر منه لو قرر إجراء امتحان الترقي...! أمام عينيها تمثل مشهد مغر: قاعة تضم مسوؤلين كبارا، يخوضون امتحان الترقية إلى مرتبة أعلى : بدلات أغلبها سوداء، قمصان بيضاء، ربطات عنق بكل الألوان تستقر على الصدور، وحتما حراس ومسوؤل أكبر يجره طاقم في جولة تقص كما العادة... تسلسل لمشاهد لا يعلم متى يسدل الستار عليها إلا الله.
في يأس، رمت بالورقة والقلم على زاوية المكتب.
أخذت تتطلع إلى الرؤوس تتنحنح، فتكشف عن وجوه شاحبة، أغلبها تجاوز الأربعين. شد نظرها وجه جد نحيف في المقعد الأول: لحية مهملة وتجاعيد هلت قبل الأوان. القلم بيمناه، يحركه في الهواء حركات دائرية. شيئ يمضغه لكن بقليل من الأسنان، تكاد سدرته الصوفية الكبيرة تبتلع جسده النحيل، وعيناه الغائرتان في تراقص بين الباب والقلم. جلس في المقدمة، كأنه ربان سفينة، ركابها أساتذة، استعاروا مقاعد تلامذتهم الصغيرة لصبيحة مشهودة.
في الوسط، حظي مدرس أحدب بكرسي خارج المقعد الضيق. واثقا من نفسه، إنهمك في تقليب أوراقه والهمهمة بما يشبه الكلام.
مدرسة شذت عن كل ذلك، جلست بمحاذاة المكتب، الورقة بين يديها، تلامسها الكلمات بإصرار. ينافسها مدرس، انزوى في ركن القاعة يمينا، متحررا من ساعة يده، ومن معطفه الجلدي. أحاط نفسه بأقلام ومبيض وقنينة ماء صغيرة ومناديل ورقية، يسطر على الورق بلونيه، الأصفر ثم الأبيض، وعلى محياه مسحة رضى.
ووجوم غزا الباقين، استوطن ساعة بدت كالدهر. وأخرى يتيمة متبقية على النهاية. الأوراق لا زالت تنعم ببياضها، أما أوراق التسويد، فقد لطخت بطلاسم، أو ظلت على حالها.
وكأن القاعة كانت على موعد آخر، فجأة، تغير كل شيئ، و بشبه إجماع، بدأ الكشف عن المستور: أخذ الممتحنون يخرجون مطبوعات، منسوخات من كل مكان، من جيوب سدراتهم و معاطفهم، من تحتهم، أو بكل بساطة وانسيابية، من تحت أوراق التحرير. أسئلة من هنا وأجوبة من هناك. الأعين تخلت عن بالتربص بالمراقبين، في محاولة مجنونة لاصطياد أي شيئ يملأ البياض.
مدرسة جاءت المكتب تترنح، التقطت حقيبة يد سوداء براقة، بثقة وهدوء، أخرجت كومة من الأوراق. بعناية، انتقت بعضا منها. لم تحكم إغلاق الحقيبة، رمت بها، و باتسامة قاتلة حيث الركام، و كلام، تعمدت تفجيره في المراقبة دون أن تنظر إليها: " ماذا عسانا أن نفعل، فمواد الإمتحان كثيرة، والعمل بالقسم شاق ؟! "وعادت مسرعة رغم ثقل جسمها وثقل فعلتها، تسابق ما تبقى من زمن الإمتحان.
هاجت القاعة رقم أربعة وماجت. اتضح الطريق بعد توهان. لقد بدأ الإمتحان بالفعل. من الورق إلى الورق. تراقص مجنون لا يقدر على إيقافه إلا دوي الجرس القادم في الطريق.
اعتصم المراقب بالباب يوزع بصره وابتسامته بين القاعة والساحة.
انتفضت المراقبة واقفة. كادت تصيح وتزمجر في الجميع، لكنها تذكرت ما حدث في مرة سابقة، حين واجه الأساتذة الممتحنون استنكارها بحقد وسخرية شرسين، وباستغراب، طلب منها أحد المسوؤلين التغاضي حفاظا على أعصابها، وقد كان طلب المراقب الآخر أيضاً. وبالفعل تغاضت، وتغاضت، أراحت القوم وانبرت لذاتها تبادلها تعذيبا بتعذيب...
وأخيرا، دوى الجرس حاملا نهاية الصبيحة المشهودة. توافد الأساتذة الممتحنون على المكتب، سلموا الأوراق للأستاذ المراقب الذي كان في الإنتظار. وقعوا، انتشلوا حقائبهم وملفاتهم من تحت و من فوق الركام. ابتسموا. شكروا و غادروا. آخرهم كان نحيف المقعد الأول. وهو في الطريق إلى الباب، كشف عن إحدى ساقيه، سحب كتيبا من جوربه. ضمه إلى حزمة أوراق ملأت جيوب سدرته. أخرج محمولا ضائعا بين الأوراق وغادر: عين على المحمول وأخرى على الساحة.
منتصف النهار. انقشع الضباب عن الحجر والبشر. عجت الساحة بجموع الأساتذة يتأبطون الملفات و الحقائب، يلوحون بهواتف، و بسؤال و جواب: " كيف كانت الحراسة ؟ ". " رائعة ، ولكن المشكلة هناك !!!
أحست المراقبة ببرودة شديدة. سلكت أقصر ممر إلى الباب الخلفي للثانوية، تتوارى عن الحشد، ليقع بصرها على المسؤول الكبير عالقا بين قهقهات، وعلكة، ورؤوس مصبوغة وأخرى مغطاة و متمنيات بالصحة و التوفيق...!!!

لاهتة، منهارة، انطلقت المراقبة...صراخ يدوي في داخلها.

تطوان المغرب .

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
!!
سعد التناني -

قصة مميزة (كالعادة)، ننتظر جديدك أستاذتنا العزيزة. والســــــــــــلام

كيف يصنع الصدق إبداع
محمد خييلي -

إذا كنت مدرسة فما أحوج التلاميذ لهذه البساطة الممتعة و المعبرةو خصوصا تلاميذ الشعب الأدبية أول مرة أقرأ نصا واقعيا يجعل من التفاصيل الصغيرة و اللغة السلسة عالما لنص نثري بعج بالشعر و يرقص النص على ألحان الواقعية النابضة بالصدقمع إعجابي و مودتي محمد خييلي