ثقافات

"آنا كارينينا" بثوب مسرحي

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

حميدة علي من باريس: عن دائرة الثقافة والاعلام - حكومة الشارقة - وضمن السلسلة المسرحية (النصوص) صدرت مسرحية "آنــا كارينينا" وهي دراما في فصلين أعدتها الكاتبة المسرحية البريطانية هيلين إيدموندسن (*) عن رواية الكاتب الروسي ليو نيكولايفيتش تولستوي. ترجمها وقدم لها السينمائي والمسرحي العراقي علي كامل.
لقد اختزلت الكاتبة هيلين أدموندسن رواية شهيرة وضخمة (٨٥٠ صفحة) في نص مسرحي كتب بلغة بصرية، بمشاهد شيدت في أسلوب توليفي سينمائي وبرؤية هي مزيج بين الغنائية والسيكولوجية.
تقول السيدة إدموندسن بشأن إعداد هذه الرواية الضخمة والمعقدة وتطويعها للمسرح:
(لقد إنغمرت في قراءة رواية آنــّـا كارنينا. قرأتها عدة مرات ولم أستطع أن أدوّن ملاحظاتي على صفحات الرواية نفسها لذا، فقد استنسخت في دفتر ملاحظاتي مقداراً وفيراً من الأشياْء التي وجدت أنها مفيدة. بعدها قمت ببحث عن الكاتب لكي أعرف ما
الذي كان يشغله ويستحوذ على أفكاره. من ثم قرأت النقد الذي كتب حين صدور الرواية لكي أعرف كيف تم استقبالها حينذاك، كذلك قمت برحلة بحث عملية، حيث سافرت "من أجل آنـّـا" إلى روسيا وأستقللت ذات القطار الذي سافرت به من موسكو إلى بطرسبورغ. وكانت الفكرة التي توصلت إليها هي:
كيف يمكننا اختيار نوع الحيوات التي نحياها؟ هل ينبغي أن نتبّع أهواءنا وملذاتنا، أم علينا أن نذعن لمسؤولية أخلاقية كبرى؟

مدخل لابّد منه
"الكتاب العظيم ليس ذلك الذي نقرؤه، بل ذلك الذي يقرؤنا" ويستن هيو أودن
يرى الناقد الروسي ن.ع. تشيرنشيفسكي إن الميزة الجوهرية لتولستوي تكمن في قدرته الثاقبة في الكشف عن جدلية الروح، وكذلك قابليته على سبر أغوار العصر الذي عاشه، بخلفياته وإيقاعه ودلالاته الخفيّة، حيث الصدامات الشخصية والنزاعات السيكولوجية تتبادل المواقع في جّل نتاجاته، والتي تدور عادة حول محورين أحدهما فلسفي والآخر أخلاقي. إذ تتمحور أحداث كل من رائعتيه "الحرب والسلام" و "آنـّـا كارينينا" في فضاء شعبي وعائلي معاً، حيث الأخير يصبح في "آنـّـا كارينينا" قريناً للأول في "الحرب والسلام" وتصبح الدعامة التي يتفاعل فيها العمل معبأة بحس سيكولوجي وأخلاقي. فانتصار روسيا على نابليون في رواية "الحرب والسلام"، حسب تولستوي، هو انتصار أخلاقي وفلسفي أكثر منه انتصاراً عسكرياً. بمعنى آخر، هو انتصار للعدالة والانسانية، وفي ذات الوقت، هزيمة للنابليونية كفلسفة ومبدأ محددّين في الحياة. أما في روايته "آنـّـا كارينينا" فقد إنعكس هاجس فشل الاصلاحات الذي سُمع صداه في سبعينيات روسيا القرن التاسع عشر حيث ظهرت البلبلة جليّة وسط العائلة الروسية، تلك التي عبّر عنها الكاتب بجملة مبتسرة واحدة فقط:"لقد اختلط كل شيء".
الرواية في قراءة البعض من النقاد الأخلاقيين ليست بحثاً اجتماعياً أخلاقياً أو فلسفياً لموضوع الخيانة الزوجية، إنما هي عمليات الهدم التي رافقت شخصيات تولستوي السابقة، تلك التي يمكن توصيفها بـ "الفكر الشعبي"، ليحل بدلها فكر منعزل ترك آثار هشاشة واضحة في الوحدة الروحية للعائلة الروسية. فالعائلة الروسية، بالنسبة إلى تولستوي، تعني الحب، والحب بقياسات الكاتب، هو الحياة، وهكذا فقد قدّر لآنـا كارينينا أن تحيا في مناخ اجتماعي فقدت العائلة فيه ركيزتها الأساسية ألا وهي "الحب"، الذي يعني، في الآخِر، الحياة ذاتها. من هنا يصبح النزاع الذي يمور في أعماقها، هو بمثابة مرآة لعالمين متناحرين، أحدهما معتم والآخر مضيء. إنه النزاع المزمن والمتواصل بين الحب والكراهية، بين الخير والشر، بين الحياة والموت. وعند مشارف الخط الفاصل بين هذين العالمين تقف آنـّـا وحيدة.
الفكرة الرئيسية التي شيّد عليها تولستوي مفهومه للسعادة، هي رفضه الكامل لمنطق العزلة والفردانية، بمعالجة دافعها عقلي، وعقلي بحت، بتسويغ يزعم أنه من المستحيل وغير المنطقي بناء قيمة اسمها السعادة بذلك النأي وتلك العزلة عن مصدرها الأساسي ألا وهو المجتمع.
فلأجل منح السعادة للذات وللآخر، حسب تولستوي، ينبغي التفاني ونكران الذات من أجل ذلك الآخر. لذا، ومن ذات الهاجس، تُوجّت شخصية آنـّـا في الآخِر بتلك النهاية المأساوية، ألا وهي عقوبة الموت، كتأويل منطقي لذلك المفهوم. إلا أن تولستوي، مع ذلك، لم يوّجه الإدانة لبطلته بشكل ملموس، بل ترك ذلك السؤال الملغز سائب يتلوى ما بين إدانة الفرد من جهة، وعموم النظام الأجتماعي والسياسي والأخلاقي القائم في روسيا آنذاك من جهة أخرى. من هنا يتفرع السؤال الجوهري إلى فرعين، أحدهما يصّب في شخصية آنـّـا الأرستقراطية، الزوجة، الأم، العاشقة، والآخر يصب في شخصية ليفين، النبيل الروسي المتخم بالآراء الديموقراطية الليبرالية، والذي يعتبر بمثابة المرآة التي تعكس أفكار الكاتب وشخصيته.
ولعل السؤال الجوهري الذي تطرحه الرواية يظل قائماً هو، هل آنـّـا مذنبة أم لا؟
تولستوي لايُخضع مبدأ الاتهام هنا، إلى نصوص قانونية، إنما إلى تحليلين دقيقين أحدهم سيكولوجي والآخر أخلاقي، فالمتهم والمجني عليه يتبادلان المواقع بين الحين والآخر وأحياناً وجهاً لوجه، وهو أسلوبه المتميز والذي يكمن هدفه بالعثور على ذلك اللولب الرئيس أو الآلية التي تحرك هذه الماكنة الضخمة "المجتمع".. فهو يدين آنـّـا في مكان ما ليعيد لها الاعتبار في مكان آخر.
من هنا تتوسع المواجهة ليصبح النزاع ليس نزاع أفراد، إنما يأخذ مديات أخرى ليصبح صراع أنظمة أخلاقية متباينة قاسية لا تستطيع أن تتغير بذاتها، لكنها رغم ذلك سرعان ما تبدأ بفقدان إمكانية تأكيد وجودها واستمراريتها مع تقادم الأيام، وذلك عبر نزاع الشخصيات ووجهات النظر وكذلك عموم الأوضاع النفسية. فآنـّـا في منظور مجتمعها هي امرأة مذنبة وبريئة في آن:"لقد ختلط كل شيء".
أما الشبح الذي يظل يطارد آنـّـا طوال الوقت فهو ليس سوى ترميز ساطع لتلك الآلية بمجمل مؤسساتها الدينية والمدنية. إنه ظل الموت الذي سيواصل رصده ومتابعته لها حتى اللحظة الأخيرة من حياتها.
في منهجه السيكولوجي، يساوي تولستوي بالقسط الذي يسهم فيه كل من العشيق والزوج في موت آنـّــا. فأحدهما يقتلها بحبه والآخر يقتلها بكراهيته. احتضارها كضحية في حضرة العاشق والزوج معاً يرتبط هنا بنوع من الانبعاث الأخلاقي لكليهما. فكارينين الزوج، يشعر فجأة ولأول مرة، بعقم أفكاره وسلوكه السابق أمام مشهد احتضارها. أما فرونسكي العشيق فينبثق لديه احساس بالانحطاط والخسة وشعور مفاجىء بطيبة قلب الزوج وهو في أوج مأساته.
إن سر مأساة آنـّـا حقاً يكمن في عزلتها ووحدتها في مجتمع آلي عدواني مقنن وميت روحياً. من هنا يغدو موتها التتويج المنطقي ووسيلة للخلاص الشخصي أولاً، وهدفاً في تغيير علاقات الناس المحيطين ثانياً.
آنـّـا وليفين، الشخصيتان اللتان هما بمثابة شريان الرواية، يكادان يتماهيان في الكثير من النزعات، لاسيما نزعة التمرد، إلا إن التمرد هنا يتحرك من منطلقات مختلفة بالنسبة إليهما. فتمرّد آنـّـا ذو صفة فردانية، دافعه البحث عن السعادة الحقيقية، متمثلاً بتحدي الأعراف والتقاليد والخروج عن مساراتها، وذلك عبر البوح عن عشقها للكونت فرونسكي بشكل صريح وصادق.
أما تمرد ليفين، فهو يحمل سمة جمعية. فهو ومن خلال أفكاره وأبحاثه النظرية والانسلاخ التام عن طبقته، كان يهدف إلى العثور عن حلول شخصية للمشاكل الأجتماعية، تلك التي تمس أغلبية الناس، لذا فهو يسعى في كل توجهاته إلى كسر ذلك الحاجز الذي يفصل بين طبقته وعالم الفقراء من الفلاحين.
التماهي الآخر بين آنـّـا وليفين هو أن كلاهما أقدم على الانتحار. آنـّـا انتحرت بحثا عن الخلاص الشخصي، أما ليفين فمحاولة انتحاره الفاشلة كان مسّوغها إحباطه في حلحلة الثابت، لكنه يعثر على خلاصه في الآخِر بالانضمام إلى فقراء الفلاحين والالتحام في صفوفهم.

إعداد الرواية ومسرحتها
إن ماكان يشغل ذهن الكاتبة هيلين أدموندسن(*) وهي تعمل على إعداد رواية "آنـّـا كارينينا" هو معرفة السبب وراء اختيار تولستوي لقصتين منفصلتين في الرواية: الأولى، قصة آنــا وزوجها كارينين وعشيقها فرونسكي، والثانية قصة ليفين وحبيبته كيتي، وبحثه الدائم عن مغزى للحياة.
كانت أدموندسن منغمسة ومنشغلة تماماً بقصة آنـّـا، لكن في نقاشها الطويل المعّمق مع المخرجة نانسي ميكلار، عثرت على الوجه الآخر لدلالة الرواية، والذي كان متوارياً في طيات قصة ليفين، عند ذاك برز أمامها السؤال الجوهري: ماهي العلاقة التي تربط بين ليفين وآنـّـا؟ وبهذا الصدد تقول أدموندسون:
"حين قرأت الرواية للمرة الأولى، شغلتني قصة "آنـّـا" تماماً. أما حضور ليفين، الشخص الحاد الطبع الغضوب، فقد كان مثيراً. فجأة وجدت نفسي أقلبّ الصفحات بعجالة لأرى كم من الوقت عليّ أن أنتظر لحين أن تظهر آنـّـا. لقد دهشت حين بدأت أتحدث مع نانسي، مخرجة العمل، بشأن الرواية، حيث اكتشفت أن لديها إستجابات معاكسة تماماً إلى حد ما، فقد كانت واقعة في شراك قصة ليفين في حبه لكيتي وبحثه الدائم عن مغزى للحياة.
حين قرأت الرواية ثانية، بدأ ليفين يجتذب انتباهي هذه المرة، إلا إن السؤال الذي بدأ يشغل ذهني حقاً، هو، لماذا اختار تولستوي أن تكون هاتان القصتان معاً؟ وماهي العلاقة التي تربط بين آنـّـا وليفين؟
كنا نبحث عن إجابات لهذا السؤال، وفوراً أدركنا إن عملية الأعداد ينبغي أن تتضمن كلتا الشخصيتين. بمعنى آخر، آنـّـا كارينينا بدون ليفين، هي مجرد قصة حب رائعة كئيبة وشجية. إذاً فهي قصة حب بشكل أساسي، لكن، لو تضمنت إلى جانبها قصة ليفين، فستصبح عندئذ شيء آخر عظيماً!.
وهكذا، ففي اختيارنا لمعالجة كلتا القصتين ونسجهما معاً، كنا قد واجهنا جملة مصاعب بالطبع، لأن قصة ليفين لم تكن في ذاتها قصة درامية... (ماهذا! هل ستخضع شخصية ليفين لأحكام العمل المسرحي؟). هكذا سيصرخ الناس حين نكشف عن نوايانا. وذلك بالطبع سيشجعنا تماما.ً ولابد لي من القول أن ثمة شيئين آخرين قد عززا أفكارنا:
الأول، مشاهدتنا معظم الأفلام التي أقتبست من الرواية، وجميعها تقريباً تعاملت مع آنـّـا بمفردها "فقط" ولم يقع أي منها في مأزق الميلودراما أو الابتذال.
الثاني، في زيارتي لروسيا وجدت أن الروس يتحدثون عن ليفين وآنـّـا بمودة وحميمية متساويتان. لذا: "ينبغي أن يكون ليفين جزءاً من آنـّـا" هكذا قال لي أحدهم "وآنـّـا يجب أن تكون جزءاً من ليفين".
ينبغي القول أن ثمة شيئاً خاصاً يتعلق بهيلين لاقتباس رواية كتبت في القرن التاسع عشر وتحويلها إلى المسرح، وهي مهمة ليست سهلة على الأطلاق. فلو نظرنا إلى المسرحية عن قرب لأمكننا اكتشاف السر الذي يجعل من آنـّـا كارينينا "الرواية" قصة تستحق أن تروى بعد قرن من كتابتها. فوجود آنـّـا إلى جانب زوجها كارينين يجسد الروتين أو السلوك التقليدي المألوف الذي يقدّم المنفعة لكليهما. فكارينين يستمتع بالرضا الإجتماعي المريح للعائلة التقليدية، أما آنـّـا فهي توفر بالمقابل ذلك المستوى النظامي الذي تقوم علاقتهما على أساسه، والذي يتم توصيفه في الرواية ويظهر أيضاً في المسرحية.
في الفصل الأول يقول كارينين لآنـّـا:"حسناً آنـّـا، الوقت الآن هو منتصف الليل، لقد تحممت، ومشطت شعري، وحان وقت الذهاب إلى النوم".
كارينين شخص مشدود إلى الحياة السياسية وملتزم بالنهج الأجتماعي والواجبات التقليدية القائمة على أسس الأعراف الرسمية، لذا لا يمكنه مطلقاً الشروع في فهم رغبات آنـّـا لمواصلة الحياة، لذا فإن زواجهما مبني على المنفعة والمنهج البرغماتي، لكن جذوته لم تُحدث شرراً على الأطلاق إلا بعد دخول آنـّـا غمار عشق متقد حارق مع الكونت فرونسكي. فعلى الرغم من محاولتها نكران ذلك، فأنها في الواقع لا تستطيع أن تقصي فرونسكي خارج إطار تفكيرها. إذاً فهي أخيراً تعرف أو تدرك نوع الحياة التي تريد. فرونسكي، من جانب آخر، يأسره حبها، معترفاً:"عليه أن يحاول إنقاذ نفسه، لكنه لا يعرف كيف!". ففيما نرى زواج آنـّـا ـ
كارينين مجرداً تماماً من عواطف الحب، نرى آنــّا وفرونسكي يبتكران وئاماً عاطفياً يستحوذ عليهما فوراً لدرجة يصعب التحكم فيه من بعد. وهو الذي سيدمرهما لاحقاً بسبب إحتوائه على هذه الطاقة المتفجرة والسريعة الزوال.
آنـّـا تمتلك القدرة على الحب، دون عودة إلى المنطق أو العقل، وهو ذات الحب الذي سيخنق فرونسكي، الشخصية النزوية المتقلبة. لكن المحصلة النهائية لذلك الحب هي أنها ستكون وحيدة مهجورة ومنبوذة!.
إن ما تدركه آنـّـا في النهاية هو أن الذي يمنع الآخرين من أن يحبوا كما تحب هي، هو أنهم متخمين بالضغينة. إذ تبدو حياتها عقيمة بدون حب، وهي تعترف بذلك بقولها: "الله خلقني، لذلك أنا بحاجة أن أحب وأحيا. إنها تتوق للحياة وتتخلى عن كل شيء من أجل عواطفها، لتدفع ثمن ذلك في النهاية. نسبياً، بإمكان آنـّـا أن تبقى مع كارينين وتحيا معه حياة رتيبة وممّلة، إلا أنها تؤثر الحياة المتفجرة والجامحة مع فرونسكي. ومع ذلك لم تكن نهاية رحلتها المأساوية عقيمة تماماً. فخياراتها شيدت طريقاً كانت تتوق إليه على الدوام. ذلك الطريق المليء بالمتعة والألم، بالحياة والحب وهكذا ومن خلال تلك السبل الخطيرة التي اجتازتها عثرت آنـّـا على نفسها. وبشكل مماثل، يمكن القول، أن رحلة ليفين لم تكن سوى رحلة للكشف عن الذات. من هنا، نصل إلى السبب الذي دفع بأدموندسن إلى نسج كلا القصتين معاً.
ليفين، مثل تولستوي، يبحث باستمرارعن مغزى للوجود، فيعثر على ذلك المغزى في الريف بعد رفض كيتي له، إلا أنه يجده فيما بعد في دفء العائلة والحب حين يتزوجها.
ويعود سبب اختيار ليفين منهج التحكم في عواطفه هو سعيه لأن يحيا عالمه ويكتشف الكثير عن جوهر الحياة. آنـّـا تريد أن يكون كل شيء بمثابة استجابة لقلبها، لكن هذا لا يعني أن أحدى الشخصيتين تحب بدرجة أقل أو أكثر من الأخرى، بل أن كلاً منهما تحب بشكل مغاير.
في المسرحية ثمة شخصيتان توجه أحدهما الآخر خلال الرحلة نفسها من أجل العثور على الحقيقة في ذاتيهما، على الرغم من أنهما تقدمان إجابات متباينة. عبر قصتيهما يمكننا أن نعي كم هو ضروري التسليم بمبادىء الآخر. وهذا هو الذي شطر شخصية آنـّـا كارينينا. آنـّـا وليفين والآخرين جميعاً كانوا يبحثون عن الشيء الأكثر أهمية في حيواتهم، تماماً مثلما كان يفعل تولستوي، وتماماً مثل ما نفعل نحن.
آنـّـا تجد ذلك الشيء في الحب ككل، فيما يجده ليفين في "أن يحيا من أجل روحه".
عبر تلك القصتين، وجد تولستوي المعنى في الكتابة متحدياً جمهور اليوم أن يعثروا على حقائقهم الخاصة، وأدموندسن توفر لهم هذه الفرصة حقاً. مثلما يقول ليفين في المسرحية: "إنه شيء أكثر من الحب... إنه الحياة أو الموت".
لقد أقصت أدموندسون كل ما لايسهم في بناء الفكرة. وهي بالتالي تعرف أنها ستبقى وفية لروح ما كان يريد الكاتب قوله.
كانت تدرك بشكل قاطع أن الراوي في "الرواية" ينبغي أن يتم الإستغناء عنه إذا ما أريد أن توضع القصة في بنية درامية، لذلك يجب أن تتحدث الشخصيات عن نفسها وعن أوضاعها من دون معرفة مفرطة لذواتها.
في إعدادها لرواية جورج إليوت (طاحونة فوق نهر فلاس) شطرت هيلين الشخصية الرئيسية إلى ثلاث ذوات منفصلة. أما في "آنـّـا كارنينا" فقد قررت أن يكون ليفين وآنـّـا على خشبة المسرح طوال العرض وهما يتحدثان إلى بعضهما البعض، على الرغم من أنهما في "الرواية" لا يلتقيان سوى مرة واحدة قرب النهاية.
المعضلة إن "قصة" ليفين و"شخصيته" لم تكونا مبنيتين بناءً درامياً في الرواية، لذا فقد تطلب من هيلين إعادة بنائهما من جديد. وهكذا تم لها مسك الخيطين معاً بإحكام بعد أن جرى تشذيب المونولوجات الطويلة واختزال وحذف الكثير من الشخصيات الثانوية لتتبوأر الفكرة في نقطة واحدة تلتحم فيها كلا القصتين معاً.
استخدمت أدموندسون تقنية ذكية ومبتكرة لسرد الأحداث والانتقال بسلاسة من مشهد إلى آخر، وذلك بأن جعلت من ليفين وآنـّـا، الشخصيتين الرئيسيتين، بمثابة معلقيّن متناوبين على ملاحقة الأحداث ومتابعة مساراتها، فما أن ينتهي حدث حتى يتبعه حدث آخر عبر وسيلة محكمة وهي أن يسأل أحدهما الآخر عن مكان وجوده: "أين أنت الآن؟".
وهكذا وُظف هذا السؤال ليكون أشبه بعلامة توضع وسط كتاب لتضعك في الزمان والمكان الصحيحين، وتطل بك على مسارات الشخصيات والأحداث.

المسرحية، كما الرواية، تتابع ثلاث زيجات هي:
1ـ زواج الأمير ستيفا، شقيق آنـّـا، بدوللي.
2 ـ زواج ليفين، المثقف والمّلاك، بكيتي أخت دوللي.
3ـ زواج آنـّـا كارينينا أولاً بالموظف الحكومي البارز كارينين، ومن ثم بعشيقها الكونت فرونسكي.

إذاً، ثمة مساران في صلب العمل. الأول، ممَّثل بشخصية آنـّـا، المرأة المنشطرة بين (الزوجة والأم والعاشقة). أما الثاني، فيتجسّد في شخصية ليفين، (المّلاك والمثقف المتمرد على طبقته وعشقه الصافي لكيتي، وبحوثه الفلسفية والأخلاقية بشأن السعادة ومغزى الحياة).
وبين هذين المسارين تدخل حبكتان فرعيتان، الغرض منهما تعزيز الحبكة المركزية وإضاءة الجوانب المعتمة منها: الأولى، العلاقة الغرامية بين كيتي والكونت فرونسكي والتي تنتهي إلى قطيعة. والثانية، الزواج المحبط لستيفا ودوللي، ودولي تمتلك إلى حد ما نفس نزعات آنــّا، إلا إنها لا تجرؤ على كسر الحواجز مثلما فعلت الأخيرة.
المخرجة نانسي ميكلار هي دون شك الشريك الأبداعي للمؤلفة إن لم تكن المجسد الحسي والبصري للنص، وقد أفرد لها المترجم الكلمة الأخيرة في النص المترجم نورده كما هو:
(لقد وصفت رواية "آنـّـا كارينينا" باستمرار ودائماً بأنها واحدة من أعظم روايات الحب التي لم تكتب من قبل، لكن، ينبغي قبل كل شيء أن نعرّف مفهوم الحب؟
بالنسبة إلي يوجد لغز محيّر في قلب رواية تولستوي الساحرة هذه، وهو: من هي آنـّـا كارينينا حقاً؟ لماذا كان ينبغي عليها أن تتابع مسارها نحو الكارثة؟ وهل بإمكان قصتها، التي أقرّت هي نفسها بها في بدء المسرحية بأنها قصة غير سعيدة، أن يكون لها نهاية أخرى؟
على الرغم من أن اسم الرواية يحمل اسم آنـّـا، فأن شخصية ليفين تحتل صفحات كثيرة من الرواية. وفيما نحن نعمل على الرواية، أصبحنا نعرفه بوضوح أكثر بطريقة أو أخرى. "الواقع أن تولستوي كتب شخصية ليفين بحميمية ومن الأعماق لأنه يتماهى معه كما يبدو".
آنـّـا نفسها تم بناء شخصيتها ثانية كشخصية مركبّة يصعب سبر أغوارها وهي تتشظى عبر أحداث العديد من الشخصيات الذين يشاركونها القصة. تولستوي نفسه كتب قصة حب لامرأة زانية، لكنه إنتهى إلى أن يغرم ببطلته.
وفي الآخِر، ماهي المرأة بالنسبة إلي؟ كيف يمكنها أن تكون مجرد وهم، أو شخصية قصصية، وهي تتحرك بحرية تامة داخل حياتي وخارجها؟
مع ذلك، ورغم عمل هيلين أدموندسن، فإننا كنا معاً نرجع إلى الرواية على الدوام، وأتذكر في هذا الصدد مقولة للشاعر أودن التي يقول فيها: "إن الكتاب العظيم ليس ذلك الذي نقرؤه، بل ذلك الذي يقرؤنا").

(*) هيلين أدموندسون كاتبة مسرحية بريطانية، ممثلة ومخرجة ومؤسسة لفرقة مسرح (الجوارب الحمراء)، وهي فرقة نسائية جوالة. وهيلين شهيرة بإعداد الروايات إلى خشبة المسرح ولعل ابرزها: "الحرب والسلام" و "آنـّـا كارينينا" لتولستوي و "طاحونة فوق نهر فلاس" لجورج إليوت و"ذهب مع الريح" وسواهم.
ولدت أدموندسون عام 1964 في ليفربول وترعرت في ويرال وتشيستر ودرست الدراما في جامعة مانشستر.
أول عمل مسرحي لها كان بعنوان (سيدات في مصعد) وهو كوميديا موسيقية كتبته لفرقة "الجوارب الحمراء" عام 1988. بعد مغادرتها الفرقة لعبت العديد من الأدوار على خشبة المسرح والتلفزيون معظمها في شمال غرب بريطانيا.
أما عملها المسرحي الثاني فقد أنجزته عام 1990 وهو بعنوان (الطيران) الذي قدمّ على خشبة ستديو مسرح رويال ناشينال.
أنجزت أدموندسون في العقد الأخير من القرن الماضي مسرحيات عدة وأفلام للتلفزيون وأعّدت نصوصاً لفرقة "مسرح التجربة المشتركة" مقتبسة من أشهر الروايات العالمية.

أعمالها الأخرى:
ـ "غرفة تبادل المعلومات" 1993
ـ إعداد مسرحي لرواية "طاحونة فوق نهر فلاس" لجورج أليوت" 1994
ـ "أغنية مدينة كوفينتري" 1995
ـ إعداد لرواية "الحرب والسلام" لتولستوي 1996
ـ "يوم واحد". قدّم إلى بي بي سي.
ـ "إيستيلا" قدم للقناة الرابعة البريطانية
ـ "ماتت الأم تيريزا". 2002
ـ إعداد لرواية "ذهب مع الريح" لماري ويب. 2004
ـ "مشغل بيليت". 2004
ـ "صبي كورمان" إعداد عن رواية الكاتبة الهندية ـ البريطانية جميلة غافن. 2005
ـ "أورستيس" إعداد عن أورستيس يوربيديس 2006
ـ "زورو المّلثم". دراما موسيقية تروي ثانية قصة الفارس المّلثم الذي عاش في كاليفورنيا مطلع القرن التاسع عشر والذي كان يقاتل من أجل العدالة. 2008
ـ "الحياة حلم". إعداد عن بيدرو كالديرون دي لا باركا. 2009

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
تثمين للعمل
جواد وادي -

جهد مميز اخي المبدع ابو عشتار احييك وارجوا لك المزيد من العطاء والابداع المتواصل.

Great
Ahmad -

THANKS ELAPH AND BIG THANKS TO ALI KAMEL, GREAT JOB

تثمين للعمل
جواد وادي -

جهد مميز اخي المبدع ابو عشتار احييك وارجوا لك المزيد من العطاء والابداع المتواصل.

جهود طيبة ومثمرة
عبدالحسين الطائي -

جهد مميز يحمل أهداف ملموسة ذات أبعاد موضوعية، مزيداً من الجهد والعطاء

جهود طيبة ومثمرة
عبدالحسين الطائي -

جهد مميز يحمل أهداف ملموسة ذات أبعاد موضوعية، مزيداً من الجهد والعطاء