ثقافات

عودة إلى كلاسيك السينما (10): "الوهم الكبير"

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

احتفالا بالعيد العاشر لـ"إيلاف"

حميد مشهداني برشلونة: عنوان اسطوري لفيلم ضد الحرب، و ضد العسكر، و في الاساس إنساني صنعه ldquo;جان رينوارrdquo; 1894-1979 الابن الثاني للرسام الانطباعي الفرنسي ldquo;اوغست رينوارrdquo; في عام 1937.
في هذا الفيلم، يؤرخ المخرج نهاية، وبداية مرحلة في اوروبا، شريطا سلميا ضد العنف .رغم كونه فيلما حربيا، لا نرى عنفا و لا قنابل ولا مدافع ولا ضجيج الحروب، لان ldquo;رينوارrdquo; يركز هنا على الانفعال العاطفي، والسيكولوجي لابطال قصته، ولكنه أستخدم الحرب كإطار مناسب لطرح وتحليل هذه الانفعالات الانسانية، بعيدا عن القسوة والدمار الذي أعتدنا رؤيتهما في أفلام النزاعات العسكرية، لذالك واجه المخرج الرائع نقدا لاذعا من قبل القوميين الفرنسيين، لانه بنفس العاطفة عامل الالمان ldquo;السجانينrdquo; والفرنسيين ldquo;السجناءrdquo; في محاولته طرح معضلة الحروب من جانبها الانساني والعاطفي، وكيف ان سجانا يشعر انه ldquo;سجينrdquo; حربه، الرديئة .
قصة هذا الفيلم بسيطة جدا، وحتى نستطيع القول مرحة، لتصوير أمل شاحب، او وهم، ولكنه بعد سنتين من عرضه أندلعت الحرب العالمية الثانية، وأضطر العديد من مشتغليه الهجرة الى الولايات المتحدة، وبلدان أخرى، فنهايته تركها المخرج مفتوحة، ليعطي مساحة للامل، ولكن هذا سرعان ما يتلاشى تحت سواد غيوم الحرب التي تلبدت سماء اوروبا في 1939.
تبدأ القصة في بداية الحرب العالمية الاولى في أحد نوادي ضباط الطيران الفرنسي حيث يكلف الطيار ldquo;ماريشالrdquo; الذي يؤدي دوره نجم السينما الفرنسية أنذاك ldquo;جان غابانrdquo; 1904-1976 بمهمة نقل الكابتن الارستقراطي ldquo;بوليديوrdquo; الذي يقوم بدوره الممثل ldquo;بيير فريسنايrdquo; 1897-1975 في طيران استطلاعي، وفي الجو تعترضهما طائرة الكابتن الالماني والارستقراطي ايضا ldquo;فون راوفينستينrdquo; الذي يمثله المخرج والممثل الرائع ldquo;أيريك فون ستروهييمrdquo; 1885-1957 وهذا يتمكن من اسقاط الطائرة الفرنسية، بعدها يقاد الضابطان الى سجن ldquo;هالباكrdquo; القريب من الحدود، ليستقبلهما هذا الكابتن بكل مظاهر الاحترام، وكرم الضيافة بعد معرفته ان أحدهما ينتمي الى الطبقة الارستقراطية الفرنسية، وفي السجن يتعرفوا على ldquo;روسينثالrdquo; وهو أبن عائلة يهودية ثرية من باريس و يؤدي هذا الدور الممثل ldquo;مارسيل داليوrdquo; 1900-1984، وعلى مدرس مولع بشعر الاغريقي ldquo;بينداروrdquo;، وعلى ممثل مسرحي، وشخصيات أخرى، ليبدأوا مرحلة تعايش فريدة بينهم وبين حراسهم، وبعد عدة أشهر، وعدة محاولات فرار وجهد مضني في حفر نفق الهروب، من السجن وبينما كانوا على وشك الانتهاء منه، تتبدد الاحلام بعد وصول أمر نقلهم الى سجن أخر في قلعة داخل المانيا وقريب من الحدود السويسرية، وذالك بعد وصول عدد من الاسرى البريطانيين، وهنا نرى مشهدا طريفا حينما يحاول ldquo;ماريشالrdquo; ابلاغ أحدهم بأن في الزنزانة يوجد نفقا سريا على وشك الانتهاء، ولكن الضابط البريطاني يعتذر باحترام عن عدم معرفته اللغة الفرنسية، في لمسة من الفكاهة التي لا يتخلى عنها المخرج على طول الفيلم.
وفي سجنهم الجديد يفاجئوا ان مسؤوله هو ذالك الطيار الذي اسقطهما في بداية الحرب، ولكنه الان معاق، بسبب جروحه. وهنا يؤدي ldquo;فون ستروهييمrdquo; دورا لاينسى، مليئا بالانفعال والعواطف، فهو ldquo;السجانldquo; الطيب، والمضطر ضد مشاعره وأخلاقه فيعامل أسراه بأرفع درجات الاحترام، خصوصا الضابط الارستقراطي ldquo;بوليديوrdquo; ولكنه أيضا مخلص لنظامه ldquo;البروسيrdquo; العسكري .
في هذا السجن تختلط الطبقات الاجتماعية، والجنسيات المختلفة، من فرنسيين، وبريطانيين، وروس وتتشابك العلاقات الانسانية الحقيقية الحميمية لتبدو لنا

جميلة بين كل هؤلاء، ليصور منظرا رائعا لقسوة الحياة في السجن، حيث كان الثري الاصل، والنبيل الاصل، وعمال ومهنيون، وفنانون، كلهم في فضاء واحد يتقاسمون الفرح والحزن، في اقتراب حميمي بعيدا عن الحساسية الاجتماعية والاثنية، فالكل شركاء في هموم فرضتها ايديولوجيات سياسية شريرة، وكل هذا في أداء رائع من خلال العلاقات المتبادلة بين مجموعة من الضباط الاسرى و بين سجانيهم، ثم بين السجناء انفسهم، لنستنتج انحطاط الطبقة الارستقراطية الاوربية حينذاك، وكذالك قيمها في السياسة والمجتمع المعاصر، فنقاوة الصداقة التي تنمو شيئا فشيئا بين شخصيات من الارستقراطية المتنازعة، كل هذا تقريبا كان المحور الرئيسي للفيلم، يحكيه بأستاذية بارعة معلم السينمائيين الفرنسيين ldquo;جان رينوارrdquo; بالتعاون مع صديقه كاتب السيناريو ldquo;جارلس سباكrdquo; 1903-1975 البلجيكي الاصل، بجانب تصوير ممتاز للمصور ldquo;كريستيان ماتراسrdquo; 1903-1977 في لقطات بانورامية، و تعبيرية خصوصا تلك التي تنحدر فيها الكاميرا على صليب ثم صورة للقيصر البروسي، وأخيرا أشياء الضابط الالماني الخاصة المترفة فقط كي يصور تحالف الكنيسة مع العسكر، ومع الملكية والارستقراطية، مشهد لايدوم اكثر من دقيقة واحدة ليقول الكثير، المصور البارع تعاون فيما بعد مع ldquo;جان كوكتوrdquo; والسوريالي الاسباني ldquo;لويس بونويلrdquo; ولا أدري اذا كان منتميا للحركة .
عناصر الفيلم، باعتقادي هي اربعة، ما بين الدراما، الحرب، السجن ثم الحب يزدهر في نهاية الفيلم تقريبا، وكل هذه العناصر تتفاعل معا بأسلوب ظاهري بسيط، مع شخصيات تتفرد بخصوصيتها، وفي نفس الوقت تتقاسم الهم والغم، والعواطف الانسانية في أداء رائع يساهم فيه كل الممثلين، رئيسيين وثانويين، وحتى ذوي الادوار الصغيرة، مع مشاهد تثير العواطف في حساسيتها، مثل ذالك الذي يدخل فيه الحارس الالماني زنزانة العقاب الانفرادية بعد اصابة ldquo;ماريشالrdquo; بانهيار عصبي محاولا تهدئته مقدما له سجائر ، وحلوى التي يرفضها هذا الاخير، فيترك الحارس على السرير الة موسيقية صغيرة ldquo;هارمونيكاrdquo; ويغادر الزنزانة ليبقى خلف بابها المغلق ولا يتركه الا بعد سماعه صوت الموسيقى فيشعر بالارتياح والرضى، هذا المشهد، ومشاهد أخرى خصوصا في معاملة اليهود من الاسرى، اثارت غضب ldquo;غوبلزrdquo; وزير دعاية هتلر، فمنع في المانيا وفي العديد من الدول التي كانت تتعاطف مع النازية، ولكن الغريب ان الفيلم ساهم في ldquo;مهرجان فينيسياrdquo; 1937 و فاز بأهم جوائزه، ولكن بعد فترة قصيرة صودر الشريط من دور السينما ومنع، وايضا كان مقص الرقيب الفرنسي على وشك قطع العديد من اللقطات، خصوصا تلك التي يقوم فيها السجناء والسجانين باحتفال استعراضي وترفيهي مسرحي والذي يعبر عن الشوق الى أيام ما قبل الحرب، أيام السلام، بأزيائها الملونة، والحنين الى متع الماضي، والى النساء بشكل خاص، حيث يتنكر بعض الشباب بأزياء راقصات ldquo;الطاحونة الحمراءrdquo; وهذا يعتبر من أول الافلام التي يتجرأ فيها مخرج تقديمها على الشاشة، والتي سميت فيما بعد يظاهرة ldquo;ترافيستيدزمrdquo; وبينما الجميع يرقص ويغني يصل خبر استيلاء القوات الفرنسية على موقع قريب من السجن ليتغير المشهد من ترفيهي الى حماس وطني، فنرى لوحة رسام الثورة الفرنسية ldquo;ديلاكرواrdquo;- الحرية تقود الشعوب- المشهورة وبسرعة ينتقل الموسيقيون الى عزف نشيد ldquo;المارسليزrdquo; بطريقة مثيرة، وهنا ذروة الانفعال في الفيلم الذي اساس فكرته تدور حول المساواة والتآخي بين الافراد من كل الاجناس والاديان والمعتقدات بغض النظر عن انتماءاتها الطبقية، ومستوى ثقافتها التي بالاساس، لا تقدم ولا تؤخر، فالانسان المجرد هنا هو العنصر الوحيد الذي يستحق الاحترام، الانسان المدافع عن التضامن، وعن الحرية، وهنا نرى المخرج متحيزا لقضية السلام الناشط من خلال وجهة نظر غير انتمائية، ولا ايديولوجية، ومن جانب أخر يظهر التدهور التدريجي لقيم الارستقراطية الاوربية كطبقة مهيمنة في هذه القارة، وفي نفس الوقت تقدم البرجوازية والطبقات الشعبية والعمالية لتأخذ مكانها، ففي حوار بين الضابطين الارستقراطيين يقول ldquo;فراونستينrdquo; للفرنسي بولديوrdquo;: rdquo;لا أدري من سيربح هذه، ولكنني متأكد من شئ واحد، وهو ان اي نتيجة ستعني بالتأكيد نهاية ldquo;ال راوفنستينrdquo; وldquo;ال بولديوrdquo; ومعنى هذه الجملة واضح جدا، ويقال ان ما اغضب ldquo;غوبلزrdquo; كثيرا كان شخصية اليهوديrdquo;روسنثالrdquo; ابن العائلة الثرية و كرمه، فهو يتقاسم مع رفاق سجنه كل ما ترسل له عائلته من أطعمة، ونبيذ، ومعلبات، وحتى الملابس وهنا يحاول ldquo;رينوارrdquo; تفنيد الاقاويل الشعبية التي رافقت اليهود بهدف التقليل من شأنهم.
في النهاية، rdquo;ماريشالrdquo; وldquo;روسينثالrdquo; يتمكنا من الفرار بفضل ldquo;بولديوrdquo; الذي أعد لهما الخطة مضحيا بحياته، وفي دروب الفرار يتعرض ldquo;روسينثالrdquo; لوعكة في قدمه تعيقه السير،، ليعود ldquo;ماريشالrdquo; لمساعدته بعد ان تركه لمصيره فترة قصيرة واعيا لقيم الصداقة، ويتمكنوا الوصول الى مزرعة قريبة من الحدود السويسرية صاحبتها أرملة شابة المانية فقدت في الحرب زوجها وأخيها، وهنا نحس بنوع من الحب بينها وبين ldquo;ماريشالrdquo; ليعود الامل من جديد، دور الارملة الشابة تقوم به الممثلة الالمانية ldquo;ديتا بارلوrdquo;، المشهورة انذاك، والتي ساهمت في العديد من الافلام الاوربية، ولكنها لم تحصل على فرصتها في ldquo;هوليوودrdquo; إلا بأدوار صغيرة وثانوية لتعود إلى وطنها بعد الحرب، ولكن الامل عاد وهما من جديد، لان سرايا الجيش البروسي كانت تطوق كل منطقة هذه المزرعة، ولكن بقيت سويسرا المحايدة على مرمى عصا فيقررا المجازفة بالهروب مرة أخرى تحت رصاص الجنود، وينجحوا في عبور الحدود، لتبقى الارملة الشابة مع ابنتها الصغيرة دون شئ غير برد ذالك الشتاء القاسي . وينتهي نشيد الامل، وينتهي الفيلم، الذي يحتل الدرجة الخامسة من أحسن 100 فيلم اوربي وفي الاخير لابد من الاشارة الى الموسيقى التصويرية الرائعة والمتنوعة التي ألفها الموسيقي الهنغاري الاصل ldquo;جوزيف كوزماrdquo; 1905-1969، وهذا الفيلم حصد الكثير من الجوائز اهمها، rdquo;الاوسكارrdquo; ليصبح من اول الافلام الاجنبية الفائزة بهذه الجائزة في عام 1939 .

هامش:
قبل سنوات كتبت مسودة مقال بعد مشاهدتي الفيلم لاول مرة لاسباب شخصية، وأختفت هذه بين العديد من أوراقي المبعثرة في كل جوانب الاستوديو، وبالصدفة عدت مشاهدته قبل بضعة أشهر، والى الان رأيته أكثر من 5 مرات، أقول لاسباب شخصية لانني عشت احوال السجن، و أكتشفت التقارب بين تجربتي الشخصية وطروحات الفيلم من حيث التجريب من علاقات جديدة، والتعرف على افكار جديدة، وسلوك غير ذالك الذي يعتاد عليه الإنسان الحر، ففي ربيع 1973 اُختطفت من قبل قوات الامن العام في سيارة ldquo;فولكس واغونrdquo; في ليلة بعد مغادرتي مقهى ldquo;القبطانrdquo; على شاطئ دجلة، وبعد يومين من التحقيق القي بي في سجن ldquo;الفضيليةrdquo; الذي لايشبه على الاطلاق سجن قلعة مشيدة في القرن الثالث عشر، ففي السجن البغدادي كنا مكومين على الارض، وننام فوق ldquo;بطانياتrdquo; عسكرية في باحته على الارض، وفي الهواء الطلق، لان كل زنزانات الجناح السياسي منه كانت مشغولة من قبل سجناء أقدم، وعائلتي لم تعرف ما حدث لي الا بعد أسبوعين من البحث المضني والواسطات. في هذا ldquo;الفندقrdquo; كما كنا نسمي السجن قضيت 6 أسابيع جربت فيها الكثير ومختلف الانفعالات، من الخوف الى الكآبة، ثم الفرح ايضا، و الروح الرفاقية، والصداقة التي استمرت بعد ذالك وكنا نتذكر الحدث بألمه وطيبته وطرائفه، وأتذكر بالخير أحد الحراس الطيبين الذي قدم لي ولزملائي حفنة من الحلوى بين ldquo;حلقومrdquo; وldquo;مسقولrdquo; مع بضعة شموع سرا، وذالك للاحتفال بعيد الحزب الشيوعي العراقي في 31 أذار من ذالك العام، ولن أنسى أبدا التعاطف والتضامن بين السجناء من مختلف معتقداتهم، وطوائفهم، كنا نساعد بعضنا البعض دون السؤال عن الهوية السياسية او المعتقد الديني أو العشائري، وكذالك لن أنسى طيبة بعض الحراس ومواقفهم اتجاه إضرابنا عن الطعام في احتجاج على تردي الاوضاع الصحية في السجن، حيث أمتنع بعظهم استخدام العصي وldquo;الصونداتrdquo; ضد السجناء مما سبب لهم العديد من المتاعب مع أدارة السجن المخابراتية، والان اضحك متذكرا ldquo;طباخrdquo; السجن في الباحة يصرخ متوسلا ldquo;يمعودين، أكلو شراح اسوي بكل هذا الصخام؟rdquo; مشيرا بكلا يديه الى قدور التمن والمرق العملاقة بجانبه.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
مقالاتك رائعة دوما
حميد الحساني -

مقالاتك حول السينما في إيلاف رائعة دوما وأتابعا ... مزيدا من العطاء والإبداع